جهاد النفس









كتبه/ سعيد صابر


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فمما شرع الله لنا في جهاد عدوه وعدونا أن نبدأ بالعدو الأقرب يقول -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: من الآية123).

هذا ومن أقرب الأعداء إلينا هذه النفس التي بين جنبينا، وقد شرع لنا مقاومة النفس ومجاهدتها يقول -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج: من الآية78)

قال بن المبارك: "هو جهاد النفس والهوى".

وفي الحديث: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله).

نفسك التي بين جنبيك هي من أضر الأعداء عليك، وهذه نصوص الوحي تصرح بذلك يقول -تعالى- على لسان امرأة العزيز: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف: من الآية53).

وقال -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: من الآية165)، وقال -تعالى-: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء: من الآية79)وقال -تعالى-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (إبراهيم: من الآية22).

وفي الحديث: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)

فهلم باللوم قبل اللوم واهتف بنفسك:

ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليـالي

لعلك في القيامة أن تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي

هذا ومن أهم الأسلحة التي تتسلح بها إبان تلك الحرب الضروس التي تخوضها مع نفسك -ذم النفس وتوبيخها-، وهذا الذم والتوبيخ معلم من معالم الصالحين، وكيف لا وقد قيل لهم: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)؟ ومن هنا كان توبيخ النفس واتهامها على أشده عند القوم.

وإذا كان هذا هو حال الصفوة من عباد الله والكُمَّل من رسل الله، فكيف يغفل عنه من دونهم؟

يقول الأبوان الكريمان معترفين بالتقصير والظلم: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) (لأعراف: من الآية23)، ويهتف يونس -عليه السلام- في الظلمات: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الأنبياء: من الآية87).

أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيشفق على نفسه قائلاً: (لو يؤاخذني الله وابنَ مريم بما جنت هاتان -وجمع بين السبابة والوسطى-لعذبنا).

وكان يقرن خطبته بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا).

ويتوسل إلى الله صبيحة كل يوم قائلاً: (اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا اله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي)، ويقول أيضاً: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً).

ويقول في دعائه المفعم ذلاً وانكساراً: (اللهم اغفر لي خطيئتي جهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر جدي وهزلي وإسرافي في أمري وكل ذلك عندي)، وهو القائل: (لو تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وأنا لا أثق إلا برحمتك).

وعلَّّم حصيناً -رضي الله عنه- أن يقول: (اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي)، وعلَّم الصديق أن يقول في صلاته: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية كبيراً- إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

أما الفقيهة الحميراء عائشة -رضي الله عنها- فقد بلغ من ذم النفس أنها سئلت عن قوله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)(فاطر: من الآية32) فقالت: أما السابق بالخيرات فممن مضى على عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وأما المقتصد فممن تبع أثره من الصحابة حتى لحق به، أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك.


ولما نزلت براءتها من السماء قالت: والله ما كنت أظن أن يقول في شأني قرآن يتلى، ولشأني أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا يبرئني الله بها.

كان بعضهم يطوف بالكعبة ويدندن بهذه الدعوة: "اللهم قني شح نفسي، اللهم قني شح نفسي"، فقيل: أو ما تحسن غيرها؟ فقال: إن العبد إذا وقاه الله شح نفسه فقد أفلح ونجح، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)( الحشر: من الآية9).
وللحديث بقية إن شاء الله.