الأمور المعينة على الصبر
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
نستعرض معًا خلال هذه المقالة محاضرة الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر وهي بعنوان: (الأُمُورُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ)، وقد بين الشيخ في تلك المحاضرة أنَّ الصبر منزلة عظيمة من منازل الدين، ومقام رفيع من مقاماته، وقد ذكره الله -سبحانه وتعالى- في مواطن كثيرة في كتابه -جل وعلا-، بل قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: «ذكر الله الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعًا»، وهذا يدلنا دلالةً بيَّنة على عظم شأن الصبر ورفيع مكانته، وحاجة العبد الشديدة إليه؛ في باب الطاعات؛ ليفعلها، وفي باب المنهيات؛ ليتركها، وفي باب المصائب المقدَّرة؛ لئلا يجزع ويتسخَّط.
فالعبد محتاجٌ للصبر، والصبر مصاحب للمسلم في كل أحواله، فلا فعل لطاعةٍ إلا بالصبر، ولا ترك لمعصيةٍ إلا بالصبر، ولا تلقي للمقدَّر المقضي بما يرضي الله -سبحانه وتعالى- ولا يسخطه إلا بالصبر؛ فما أحوج المسلم بل ما أشد حاجته إلى أن يكون متحليًا بالصبر في كل أحواله!
الصبر في القرآن الكريم
وذكر الله -جل وعلا- الصبر في القرآن في مواضع كثيرة، فجاء الأمر به، وجاء النهي عن ضده، وجاء الثناء على أهله ومدحهم، وجاء ذكر ما أعدَّ الله -سبحانه وتعالى- لهم من جزيل الثواب وجميل المآب، وجاءت البشارة المطلقة للصابرين، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه يحبهم، وأنه معهم تأييدًا ونصرًا وحفظًا، إلى غير ذلك، وهذا كله يدلنا على عظيم مكانة الصبر وعلى منزلته ومسيس الحاجة إليه.
الحديث عن الصبر
والحديث عن الصبر حديث واسع، ويتناول أطرافًا كثيرة وجوانب متعددة، لكننا سنتناول بابا معينا من أبواب الصبر ومجالا معينا من مجالاته، ألا وهو: «الصبر على أذى الخلق»؛ فالإنسان في هذه الحياة لا يسْلم من أذى الخلق؛ لأن الناس أجناس ومتفاوتون في أخلاقهم ومعادنهم وطبائعهم وتعاملاتهم.
بابٌ عظيم
والصبر على أذى الخلق باب تتقاصر كثير من الهمم والنفوس عند الإتيان به، ولهذا كان كلام أهل العلم في بيان ما يعين المرء على الصبر على أذى الخلق يعدُّ نبراسًا وضياءً للمسلم في هذا الباب، وهذا كلام من رسالةٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يتحدث فيها عن الصبر، وتناول بتفصيل جميل مفيد للغاية ذكر الأمور المعينة على الصبر على أذى الخلق، وذكَر تفصيلاتٍ فيها لا تكاد تجدها في موضع آخر.
ما يعين العبد على الصبر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر أشياء عدّة:
- أولاً: شهادة أن الله خالق أفعال العباد
بدايةً أن يشهدَ أن الله -سبحانه وتعالى- خالقُ أفعالِ العباد، (حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم)، فما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.
هذا أول أمرٍ بدأ به -رحمه الله تعالى- في ذكر الأمور المعينة على الصبر؛ أن تشهد أيها العبد في هذا المقام خلْق أفعال العباد، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة، ولا يشاء العبد شيئًا من الأفعال إلا ما شاءه الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }(التكوير:29)، فإذا تذكرت أنه لا يكون من العباد حركة ولا سكون ولا أي أمر آخر إلا بتقدير الله وقضائه -سبحانه وتعالى-، وأنَّ كل فعلٍ من أفعالهم أو حركة من حركاتهم قد قدَّر الله -سبحانه وتعالى- ذلك، فانظر إلى هذا الأمر من هذه الناحية، وأن هؤلاء الذين سلطهم الله -سبحانه وتعالى- على العبد بهذا الأذى موجبه وسببه من أفعال العبد، فتنظر إلى أن هؤلاء أفعالهم إنما كانت منهم بتقدير الله، وأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله -سبحانه وتعالى-؛ فيكون نظرك إلى هذه الناحية، تنظر إلى الذي سلطهم عليك ولا تنظر إلى أفعالهم، فإذا نظرت إلى الذي سلطهم عليك، بدأت تنظر في الأسباب التي وقعت منك فأوجبت هذا التسليط وهو ما بيَّنه -رحمه الله تعالى- في الذي بعده.
- ثانيًا: الذنوب سببٌ في وقوع الأذى
قال -رحمه الله-: الثاني مما يعين العبد على هذا الصبر: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (الشورى:30)، فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، واشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: «هذا بذنوبي»، صارتْ في حقّهِ نعمةً، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة.
- ثالثًا: مشاهدة حسن الثواب لمن عفا وصبر
- الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(ا لشورى:40)، ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالمٌ يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين، ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: «ألاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله»، فلا يَقُمْ إلاّ من عفا وأصلح، وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء سَهُلَ عليه الصبر والعفو.
ثلاث مراتب لأحوال الناس
- وأورد -رحمه الله- هذه الآية الكريمة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(ا لشورى:40)؛ ذكر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية ثلاث مراتب لأحوال الناس مع ما يصيبهم من أذى من الخلق:
(1) المرتبة الأولى: وهو الذي ذُكر في الآية بالسيئة قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }هذا مقام، كقوله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(1 26) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}(النحل :126-127)، فهذا مقام وهو المجازاة على السيئة بسيئة مثلها ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى دون تجاوز أو تعد، فهذا جائز.
(2) المرتبة الثانية: العفو، وهي أعلى المراتب، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} والعطية على قدر المعطي، الله -سبحانه وتعالى- أحال في هذه العطية -سبحانه وتعالى- على نفسه قال: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي أنَّ أجر هؤلاء عظيمٌ عنده وثوابهم جزيل عنده -سبحانه وتعالى.
(3) والمرتبة الثالثة: مرتبة المعاقبة بأشد من المثل والتعدي والتجاوز، وهذا ظلم، وذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه المرتبة في قوله {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.
فإذًا الناس في هذا المقام على ثلاثة أقسام: ظالم وهو من يأخذ فوق حقه، ومقتصد وهو الذي يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه وهو خير هذه الأقسام، وقد جمع الله -سبحانه وتعالى- هذه الأقسام في هذه الآية الكريمة.
رابعًا: بالعفو يرزق الإنسان سلامة الصدر
- قال -رحمه الله-: الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله -تعالى-: {والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ }(آل عمران:134)، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا يكون. وهنا في هذا الأمر ذكر -رحمه الله تعالى- أن يشهد العبد الذي أصابه الأذى من الناس أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه ونقائه من الغش وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلًا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام.
خامسًا: الانتقام للنفس يورث الذل
- قال -رحمه الله-: الخامس، أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله -تعالى-، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث يقول: «ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا»، فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا»، فأكثر الخلق يظن أن العز في الثأر والأخذ بالثأر والانتقام، بينما العز الحقيقي في العفو، (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا).