تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الأمور المعينة على الصبر

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي الأمور المعينة على الصبر

    الأمور المعينة على الصبر


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر




    نستعرض معًا خلال هذه المقالة محاضرة الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر وهي بعنوان: (الأُمُورُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ)، وقد بين الشيخ في تلك المحاضرة أنَّ الصبر منزلة عظيمة من منازل الدين، ومقام رفيع من مقاماته، وقد ذكره الله -سبحانه وتعالى- في مواطن كثيرة في كتابه -جل وعلا-، بل قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: «ذكر الله الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعًا»، وهذا يدلنا دلالةً بيَّنة على عظم شأن الصبر ورفيع مكانته، وحاجة العبد الشديدة إليه؛ في باب الطاعات؛ ليفعلها، وفي باب المنهيات؛ ليتركها، وفي باب المصائب المقدَّرة؛ لئلا يجزع ويتسخَّط.

    فالعبد محتاجٌ للصبر، والصبر مصاحب للمسلم في كل أحواله، فلا فعل لطاعةٍ إلا بالصبر، ولا ترك لمعصيةٍ إلا بالصبر، ولا تلقي للمقدَّر المقضي بما يرضي الله -سبحانه وتعالى- ولا يسخطه إلا بالصبر؛ فما أحوج المسلم بل ما أشد حاجته إلى أن يكون متحليًا بالصبر في كل أحواله!

    الصبر في القرآن الكريم

    وذكر الله -جل وعلا- الصبر في القرآن في مواضع كثيرة، فجاء الأمر به، وجاء النهي عن ضده، وجاء الثناء على أهله ومدحهم، وجاء ذكر ما أعدَّ الله -سبحانه وتعالى- لهم من جزيل الثواب وجميل المآب، وجاءت البشارة المطلقة للصابرين، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه يحبهم، وأنه معهم تأييدًا ونصرًا وحفظًا، إلى غير ذلك، وهذا كله يدلنا على عظيم مكانة الصبر وعلى منزلته ومسيس الحاجة إليه.

    الحديث عن الصبر

    والحديث عن الصبر حديث واسع، ويتناول أطرافًا كثيرة وجوانب متعددة، لكننا سنتناول بابا معينا من أبواب الصبر ومجالا معينا من مجالاته، ألا وهو: «الصبر على أذى الخلق»؛ فالإنسان في هذه الحياة لا يسْلم من أذى الخلق؛ لأن الناس أجناس ومتفاوتون في أخلاقهم ومعادنهم وطبائعهم وتعاملاتهم.

    بابٌ عظيم

    والصبر على أذى الخلق باب تتقاصر كثير من الهمم والنفوس عند الإتيان به، ولهذا كان كلام أهل العلم في بيان ما يعين المرء على الصبر على أذى الخلق يعدُّ نبراسًا وضياءً للمسلم في هذا الباب، وهذا كلام من رسالةٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يتحدث فيها عن الصبر، وتناول بتفصيل جميل مفيد للغاية ذكر الأمور المعينة على الصبر على أذى الخلق، وذكَر تفصيلاتٍ فيها لا تكاد تجدها في موضع آخر.

    ما يعين العبد على الصبر

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر أشياء عدّة:

    - أولاً: شهادة أن الله خالق أفعال العباد

    بدايةً أن يشهدَ أن الله -سبحانه وتعالى- خالقُ أفعالِ العباد، (حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم)، فما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ.

    هذا أول أمرٍ بدأ به -رحمه الله تعالى- في ذكر الأمور المعينة على الصبر؛ أن تشهد أيها العبد في هذا المقام خلْق أفعال العباد، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة، ولا يشاء العبد شيئًا من الأفعال إلا ما شاءه الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }(التكوير:29)، فإذا تذكرت أنه لا يكون من العباد حركة ولا سكون ولا أي أمر آخر إلا بتقدير الله وقضائه -سبحانه وتعالى-، وأنَّ كل فعلٍ من أفعالهم أو حركة من حركاتهم قد قدَّر الله -سبحانه وتعالى- ذلك، فانظر إلى هذا الأمر من هذه الناحية، وأن هؤلاء الذين سلطهم الله -سبحانه وتعالى- على العبد بهذا الأذى موجبه وسببه من أفعال العبد، فتنظر إلى أن هؤلاء أفعالهم إنما كانت منهم بتقدير الله، وأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله -سبحانه وتعالى-؛ فيكون نظرك إلى هذه الناحية، تنظر إلى الذي سلطهم عليك ولا تنظر إلى أفعالهم، فإذا نظرت إلى الذي سلطهم عليك، بدأت تنظر في الأسباب التي وقعت منك فأوجبت هذا التسليط وهو ما بيَّنه -رحمه الله تعالى- في الذي بعده.

    - ثانيًا: الذنوب سببٌ في وقوع الأذى

    قال -رحمه الله-: الثاني مما يعين العبد على هذا الصبر: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (الشورى:30)، فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، واشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: «هذا بذنوبي»، صارتْ في حقّهِ نعمةً، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة.

    - ثالثًا: مشاهدة حسن الثواب لمن عفا وصبر

    - الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(ا لشورى:40)، ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالمٌ يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين، ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: «ألاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله»، فلا يَقُمْ إلاّ من عفا وأصلح، وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء سَهُلَ عليه الصبر والعفو.

    ثلاث مراتب لأحوال الناس

    - وأورد -رحمه الله- هذه الآية الكريمة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}(ا لشورى:40)؛ ذكر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية ثلاث مراتب لأحوال الناس مع ما يصيبهم من أذى من الخلق:

    (1) المرتبة الأولى: وهو الذي ذُكر في الآية بالسيئة قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }هذا مقام، كقوله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(1 26) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}(النحل :126-127)، فهذا مقام وهو المجازاة على السيئة بسيئة مثلها ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى دون تجاوز أو تعد، فهذا جائز.

    (2) المرتبة الثانية: العفو، وهي أعلى المراتب، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} والعطية على قدر المعطي، الله -سبحانه وتعالى- أحال في هذه العطية -سبحانه وتعالى- على نفسه قال: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي أنَّ أجر هؤلاء عظيمٌ عنده وثوابهم جزيل عنده -سبحانه وتعالى.

    (3) والمرتبة الثالثة: مرتبة المعاقبة بأشد من المثل والتعدي والتجاوز، وهذا ظلم، وذكر الله -سبحانه وتعالى- هذه المرتبة في قوله {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

    فإذًا الناس في هذا المقام على ثلاثة أقسام: ظالم وهو من يأخذ فوق حقه، ومقتصد وهو الذي يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه وهو خير هذه الأقسام، وقد جمع الله -سبحانه وتعالى- هذه الأقسام في هذه الآية الكريمة.

    رابعًا: بالعفو يرزق الإنسان سلامة الصدر

    - قال -رحمه الله-: الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله -تعالى-: {والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ }(آل عمران:134)، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا يكون. وهنا في هذا الأمر ذكر -رحمه الله تعالى- أن يشهد العبد الذي أصابه الأذى من الناس أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه ونقائه من الغش وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ما يزيد لذته ومنفعته عاجلًا وآجلا على المنفعة الحاصلة له بالانتقام.


    خامسًا: الانتقام للنفس يورث الذل

    - قال -رحمه الله-: الخامس، أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله -تعالى-، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث يقول: «ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا»، فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا»، فأكثر الخلق يظن أن العز في الثأر والأخذ بالثأر والانتقام، بينما العز الحقيقي في العفو، (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا).






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,538

    افتراضي رد: الأمور المعينة على الصبر


    الأمور المعينة على الصبر (2)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر

    ما زال الحديث موصولاً عن محاضرة الشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر والتي كانت بعنوان: (الأُمُورُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ)، وقد ذكرنا في المقال السابق الصبر في القرآن الكريم، ثم ذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن الأمور التي تعِينُ العبدَ على الصبر، وذكرنا منها: شهادة أن الله خالق أفعال العباد، وأن الذنوب سببٌ في وقوع الأذى، ومشاهدة حسن الثواب لمن عفا وصبر، والرابع أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام.



    الأمر الخامس: أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ

    أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله -تعالى-، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث يقول: «ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا»، فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من العزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا.

    ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا

    وهذا كلام عظيم جدا ذكره -رحمه الله تعالى- في تفسير هذا الحديث «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا»؛ فهنا من الأمور التي تعين العبد على الصبر على الأذى أن يعلم أنه ما انتقم أحدٌ قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلُا يجده في نفسه، وإذا عفا أعزه الله -سبحانه وتعالى- بما حصل منه من عفو، تأمل واقع الناس العملي مع هذا الأمر، أكثر الخلق يظن أن العز إنما هو بأخذ الثأر وبالانتقام، وأن عدم الأخذ بالثأر من الذل، «كيف يكون يفعل كذا وكذا ولا أنتقم منه هذا ذل «؛ فأكثر الخلق يظن أن العز في الثأر والأخذ بالثأر والانتقام، بينما العز الحقيقي في العفو، «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا».

    بيان جميل

    وانظر هذا البيان الجميل من شيخ الإسلام يقول: «العز الحاصل له بالعفو أحب إليه وأنفع من العز الحاصل له بالانتقام؛ فإن هذا عز في الظاهر، وهو يورث في الباطن ذلا، بينما العفو ذل في الباطن يُظن فيمن عفا أن هذا ذل وهو في الحقيقة يورث العزة باطنا وظاهرا».

    الأمر السادس: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل

    أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له، فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله فيعفو عنه ويصفح ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ.

    أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا عفوت عن الناس عفا الله عنك؛ لأنك أنت مخطئ وأنت عندك ذنوب وتقصير في حق الله -سبحانه وتعالى-، فالجزاء من جنس العمل؛ «الجزاء من جنس العمل» هذه قاعدة شرعية دلت عليها نصوص كثيرة جدًا وهي في الثواب والعقاب، فإذا كان من عملك الصالح العفو جازاك الله على عفوك عفوًا منه -سبحانه وتعالى- عليك، والله -سبحانه وتعالى- يحب العافين عن الناس، فإذا عفوت عن العباد في أذاهم لك رغبة فيما عند الله جازاك الله -سبحانه وتعالى- من جنس عملك فعفا -سبحانه وتعالى- عنك.

    الأمر السابع: من اشتغل بالانتقام لنفسه ضاعَ عليه زمانُه وتفرَّقَ عليه قلبُه

    أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه ما لا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام.

    ملحظ مهم

    وهذا أيضا ملحظ مهم في باب الأمور المعينة على الصبر على أذى الخلق، أن الإنسان لو اشتغل بالانتقام، وبدأ يخطط ويرتب ويعمل على الانتقام، هو في الحقيقة بهذا الوقت الذي أهدره من عمره وضيعه من عمره، يكون فوَّت جزءًا من زمانه عن أمور هي أنفع له من هذه الأمور التي اشتغل بها، سواءً من مصالحه الدينية أو الدنيوية ؛ فلهذا ينبغي للعبد أن يطمئن نفسه ويقول: بدل من أن أضيع أوقاتا وجهود في الأذى أعفو لله -سبحانه وتعالى- أو أصبر على هذا الأذى التماسًا لما عند الله وأحفظ وقتي، فالصبر على أذى الخلق باب من أبواب حفظ الوقت وعدم إضاعته.

    الأمر الثامن: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ

    إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها.

    نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الأنفس

    على المرء أن ينظر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جعله الله -سبحانه وتعالى- قدوة للعباد كما قال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21)، فإن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الأنفس وأزكاها وأطيبها وأرفعها مقاما، وما انتقم النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط، وما غضب لنفسه - صلى الله عليه وسلم - قط إلا أن تنتهك حرمات الله؛ فإنه لا يقوم لغضبه شيء -صلوات الله وسلامه عليه-، لكن لم يذكر في سيرته انتقام للنفس أو غضب النفس مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أوذي في مرات عديدة أذى عظيما؛ فلم يُنقل في سيرته العطرة -صلوات الله وسلامه عليه- أنه انتقم لنفسه قط، فإذًا من الأمور التي تعينك على الصبر على أذى المخلوقين أن تنظر في هذه السيرة العطرة (سيرة نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم )، وأن تجاهد نفسك على حسن الاقتداء بهديه -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    الأمر التاسع: من أوذي في الله فأجره على الله

    إذا أُوذِيَ المرء على ما فعلَه لله أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه وجبَ عليه الصبرُ ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله، ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجرة. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بذل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه.

    هنا بين الشيخ أنَّ أذى الخلق للعبد يكون على حالات أهمها ما يلي:

    الأول: الأذى في الدين

    إما أن يكون أذى منهم لهم فيما يتعلق بالدين، مثل أن يأمر بمعروف أو ينهى عن المنكر، أو يدعو إلى الله، أو يعلِّم الناس الخير فيؤذونه لأمره بالمعروف أو لنهيه عن المنكر أو لدعوته إلى الله ؛ فهذا أوذي في سبيل الله فلا ينتقم منهم بل يبغي ما عند الله؛ لأن هذا في سبيل الله وأذًى حصل له في طاعة الله، فيطلب ما عند الله -سبحانه وتعالى-، فيصبر على أذاهم؛ لأن هذا الأذى في الله وفي طاعة الله -سبحانه وتعالى- فيرجو به ما عند الله -سبحانه وتعالى.

    الثاني: أذى في مصيبة

    وإن كان قد أوذي على مصيبة فليرجع باللوم على نفسه ويكون في لومه لها شغلٌ عن لومه لمن آذاه، وهذا نوع آخر من الأذى.

    الثالث: الأذى على حظ من حظوظ الدنيا

    إن كان قد أوذي على حظ من حظوظ الدنيا فليوطن نفسه على الصبر، مثل ما يوطن أصحاب التجارة والمرابحات وطلب المكاسب أنفسهم على الأذى الذي يحصل لهم في سبيل ما يؤمِّلونه ويرجونه من أرباحهم، والمؤمن أولى بذلك وأحرى.

    الأمر العاشر: أن يَشهدَ معيَّة الله معه إذا صَبَر

    أن يَشهدَ معيّة الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات ما لا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال -تعالى-: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146).

    أن يشهد معية الله معه إذا صبر ومحبة الله له إذا صبر ورضاه عنه إذا صبر، وهذا كله جاء في آيات {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)؛ فينظر في هذا الثواب وينظر في هذه المعية وهذه المحبة محبة الله -سبحانه وتعالى- للصابرين، فيشغله هذا النظر عن طلب الانتقام، فيصبر على أذى المخلوقين، يقول أصبر حتى أكون ممن يحبهم الله {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، يقول أصبر حتى أحظى بمعية الله لي {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فأصبر حتى أحظى بهذه المعية معية الله لي وهي معية خاصة، تختلف عن المعية العامة {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}(الحديد :4) هذه معية خاصة فيها النصر، وفيها الحفظ، وفيها التوفيق، وفيها التسديد، وفيها المعونة، وفيها الخير والبركة ؛ فيوطن نفسه على الصبر حتى يفوز بهذه المعية ويفوز بهذه المحبة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •