تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: السعادة في السّنّة النّبويّة - السعادة الحقيقية المستمرة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,675

    افتراضي السعادة في السّنّة النّبويّة - السعادة الحقيقية المستمرة

    السعادة في السّنّة النّبويّة - السعادة الحقيقية المستمرة


    د. سندس عادل العبيد




    ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مظاهر السعادة وآثارها في السّنّة النّبويّة، وذكرنا منها: الحياة الطيبة، والبشارة بالخير، والثناء الحسن، الرؤيا الصالحة، والعناية الربانية، واليوم نكمل ما بدأناه.



    البشرى في الآخرة


    قال الله -عز وجل-:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة التوبة: 21، 22)، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ».

    تضمن الحديث من تفسير اللقاء ما فيه كفاية وغنيةٌ عن غيره وشرح هذا المعنى، إنما إيثار العبد الآخرة على الدنيا واختيار ما عند الله على ما بحضرته فلا يركن إلى الدنيا، ولا يحب طول المقام فيها، لكن يستعد للارتحال عنها ويتأهب للقدوم على الله -تعالى-، وفي الحديث بيان أنّ الكراهة المعتبرة، هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذٍ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه، وما أعد له ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعد لهم ويحب الله لقاءهم، أي: فيجزل لهم العطاء والكرامة.

    وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته -سبحانه- لقاءهم، وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله -تعالى- لقاءهم كراهتهم ذلك، ولا أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك، بل هو صفة لهم.



    بشرى المؤمنين


    والمؤمنون لهم البشرى التي لا يقدّر قدرها، ولا يعلم وصفها، إلا من أكرمهم بها، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا وهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق، وفي الآخرة أولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} (سورة فصلت: 30)، وفي القبر ما يبشر به من رضا الله -تعالى- والنعيم المقيم، وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر: 17، 18) في هذه الآية أخبر الله سبحانه أنّ لهم البشرى، ثم أمر سبحانه ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال -تعالى-: {فبشر عباد الذين يستمعون القول} وهذا جنس يشمل كل قول، فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام الله وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا}، وهذا هو الفوز العظيم لأنّه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى، والحاصل أنّ البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتّبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.



    الرضا والسكينة


    قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} (سورة البينة: 7-8)، من أوضح مظاهر السعادة الرضا والسكينة، فسعادة العبد تكون عند الرضا، كما قال النبي -[-: «فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا»، وإذا امتلأ قلب العبد رضا انشرح للإيمان، وسكنت قلبه الطمأنينة، ورزقه الله الفرح والسرور والانشراح والسكينة، وحظي بنضارة الوجه وطيب النفس، وحسن المعشر، وسلامة الحياة.

    وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ»، فمن رزق الرضا رزق غنى النفس، ومن رضي بالقسمة، وعلم أنها جارية على وفق الحكمة لم يأسف على ما فاته من حظوظ الدنيا، ولم يحزنه ما ناله أهلها منها فصار أغنى الناس بقلبه، فإنّ الغنى غنى القلب، وأيّ سعادة بعد غنى القلب؟.

    قال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ -عز وجل- إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، وروي عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - في تفسير قوله -تعالى- {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الفتح: 4) قَالَ - رضي الله عنه -: «السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الإنسان، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ».

    ومحبة الله -تعالى- ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة؛ بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرّة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقرّ عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله -عز وجل- فمن قرّت عينه بالله، قرّت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات»، ويعد الشعور بالطمأنينة النفسية أحد مظاهر الصحة النفسية الإيجابية وأول مؤشراتها.



    الاستقرار النفسي والأسري


    قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82)، ولم يلبسوا أي: يخلطوا إيمانهم بظلم فأولئك لهم الأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقًا، لا بشرْك، ولا بمعاصٍ، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامّة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها.

    وقال -تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28)، فاستقرار النفس وسكونها وسعادتها إنما يكون بالقرب من الله -تعالى- وذكره، فمن حقق الإيمان واتبع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - سكنت نفسه ورضيت وانشرح قلبه، وعرف هدفه من هذه الحياة، وحينما تكون نفسه في صحة إيجابية كما يطلق عليها في علم النفس، ومع الأسف هذا العصر كدنا نرى كثيرًا ممن يشتكي من صحته النفسية، والتذبذب النفسي، والاكتئاب والحيرة وغيرها من الأمراض النفسية، مع أنّ في ديننا علاجا لكل حيرة وضياع، ولكل هم وحزن واكتئاب، لهذا من كان قريبًا من الله -تعالى- متّبعًا لمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - حظي بصحة نفسية إيجابية وشعر بالسعادة والطمأنينة.

    خرج رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وَعَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَهُوَ طَيِّبُ النَّفْسِ، فظنوا أَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَاكَ أَصْبَحْتَ طَيِّبَ النَّفْسِ. قَالَ: « أَجَلْ، وَالْحَمْدُ لِلهِ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ».



    ما طيب النفس ؟


    وطيب النفس هو السرور بما أعطاه الله لعبده من التوفيق لطاعته، والبركة في نفسه وأموره، وأمنه من المخاوف، فترتاح النفس بقربها من ربّها وطاعته، وتطمئن وتسكن، وحينئذٍ تكون في نعيم وأيّ نعيم بعد هذا النعيم العظيم! رزقنا الله وإياكم طيب النفس. وحاجة الإنسان إلى الاستقرار النفسي (الطمأنينة الانفعالية) من أهم الحاجات في تكوين أساس الشخصية، وإمدادها بأنماط من القيم والمعايير والسلوك والاتجاهات السليمة السوية، وهي من أهم شروط الصحة النفسية.

    وهذه الطمأنينة الانفعالية يحظى بها من اتبع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحياة؛ حيث يجعل الله غناه في قلبه، ويجمع عليه شمله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ».




    الاستقرار الأسري


    ومن مظاهر السعادة الاستقرار الأسري، قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، والاستقرار الأسري هو العلاقة الزوجية السليمة التي تحظى بقدر عال من التخطيط الواعي الذي تراعي فيه الفردية والتكامل في أداء الأدوار لتحديد كيفية تحمل المسؤوليات والواجبات، ومدى القدرة على مواجهتها مع اعتبار ديمقراطية التعامل مع الأسرة كي تستطيع الصمود أمام الأزمات وتحقيق المرونة والتكييف مع المتغيرات.



    أصل السعادة الزوجية والإستقرار


    وبهذا يتبيّن أنّ أصل السعادة الزوجيّة والاستقرار الأسري هو الإيمان الحق واتّباع منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قيّد النبي- صلى الله عليه وسلم - عدم البغض بالمؤمن والمؤمنة لأنّ نفوسهم راقية طيبة، نفوسهم تعامل الخلق لله وفي الله، بعيدة من حظوظ النفس والشيطان، فهنيئًا لمن اتقى الله، وكان طيّب النفس وحَسن الخلق، هنيئًا له بالسعادة والاستقرار الأسري.









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,675

    افتراضي رد: السعادة في السّنّة النّبويّة - السعادة الحقيقية المستمرة



    السعادةفي السّنّة النّبويّة - السعادة الحقيقية المستمرة الحلقة الأخيرة

    د. سندس عادل العبيد

    ما زال حديثنا مستمرا عن السعادة في السنة النبوية، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن مظاهر السعادة وآثارها في السّنّة النّبويّة، وذكرنا منها: الحياة الطيبة، والبشارة بالخير، والثناء الحسن، الرؤيا الصالحة، والعناية الربانية، والقبول في الأرض، ومحبة الله -تعالى-، وحسن الخاتمة، ونيل الشفاعة، واليوم نكمل ما بدأناه.




    ثامناً: دخول الجنة ورضا الرب - تبارك وتعالى

    قال -تعالى-:{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} (المائدة: 119). من مظاهر سعادة المؤمنين الصالحين في الآخرة دخولهم الجنة ورضا الرب -تبارك وتعالى- عنهم، قال -تعالى-:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ (27) ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27 -30)، وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَام ِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَل، ثُمَّ قَالَ: وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».


    معنى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً
    «من رضي بالله ربًّا» أي: من حيث كونه ربًّا له، ورضي بربوبيته على وفق قضائه وقدره، من خيره وشرّه، وحُلْوه، ومره (وَبِالإسْلامِ دِينًا) أي: من حيث الدين، ورضي بشرائعه، وأحكامه، من المأمورات والمنهيات (وَبِمُحَمَّدِ نَبيًّا) أي من حيث كونه رسولًا، ورضي برسالته الموجبة لمتابعته في أقواله، وأفعاله، وأحواله، ومعنى رضيتُ بالشيء، قنِعتُ به، واكتفيت به، ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير اللَّه -تعالى-، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد- صلى الله عليه وسلم - (وَجَبَت لَهُ الْجَنَّةُ) أي: ثبتت، وتحقّقت، وعبّر بالماضي مبالغةً في تحقق وقوعها، وفي الحديث فضل عظيم لمن اتّصف بالرضا المذكور، حيث وجبت له الجنّة، وذلك لأنّ رضا العبد بهذه المذكورات دليل على ثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة الإيمان قلبه، فتسهل عليه الطاعات، وتلذّ له.
    وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ»، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ، قَالَ: فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالْفَوْزَ مِنَ النَّارِ». سأل النبيّ- صلى الله عليه وسلم - الرجل سؤال امتحان، فقال الرجل دعوة أريد بها خيرًا، وجوابه من باب الكناية أي: أسأله دعوة مستجابة فيحصل مطلوبي منها، ولما صرح بقوله خيرًا، فكان غرضه المال الكثير كما في قوله -تعالى-: {إن ترك خيرًا} (البقرة: 180) فردّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله إنّ من تمام النعمة.. إلخ، وأشار إلى قوله -تعالى-: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) والأظهر أنّ الرجل حمل النعمة على النعم الدنيوية الزائلة الفانية، وتمامها على ما دعاه في دعائه فردّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ودلّه على أن لا نعمة إلّا النعمة الباقية الأخرويّة، فقال- صلى الله عليه وسلم -: «إنّ من تمام النعمة دخول الجنة» أي: ابتداء (والفوز) أي: الخلاص والنجاة من النار.



    نعيم أهل الجنة

    وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِك، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا».

    ينادي الله -تعالى- أهل الجنة بنسبتهم إليها تذكيرًا لهم بهذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليهم «فيقولون: لبيك ربنا وسعديك «أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادًا بعد إسعاد «فيقول: هل رضيتم؟ «أي: هل رضيتم بما أعطاكم ربكم من الجنة ونعميها؟ أو هل رضيتم عن ربكم؟ «فيقولون: وما لنا لا نرضى «أي: ما المانع لنا من الرضا؟ وقد غمرتنا بفضلك وإحسانك وأعطيتنا ما لم يكن يخطر لنا على بال،» وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك «إنّ من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويصحّ ولا يسقم، ويشبّ ولا يهرم، ويحيا ولا يموت. «فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ «أي: وهل هناك نعيم أعظم من النعيم الذي نحن فيه؟ «فيقول: أُحِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا «أي: فيقول الله -تعالى- لهم: نعم هناك ما هو أعظم نعمة، وأكثر سعادة من الجنة وما فيها، وهو الرضوان الإلهي الذي لا يساويه شيء من نعم الله، فإذا أردت أن أمنحكم السعادة العظمى، وقد أردت لكم ذلك منحتكم الرضوان الدائم الذي لا سخط بعده.
    ودلّ هذا الحديث على أنّ نعيم أهل الجنة لا يعدله نعيم، ولا تساويه سعادة أخرى، وأن الله يعطي أهل الجنة ما يرضيهم، ويقرّ أعينهم، ومن السعادة التي يمنحها الله أهل الجنة رضوانه عليهم الذي وصفه الله -تعالى- بأنه أكبر من كلّ نعيم، وأعظم من كلّ سعادة، حيث قال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} (التوبة: 72) وإنما كان هذا الرضوان أكبر لأنّه سبب كل فوز وكرامة، وطريقٌ إلى رؤية الله -تعالى.

    تاسعاً : رؤية الرب - عزّ وجلّ- يوم القيامة

    وأي لذة وأي سعادة تضاهي رؤية الربّ -تبارك وتعالى-؟! قال -تعالى-:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22 -23)، وقال -عزّ وجلّ-:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 26)، وهذه النعمة الكبيرة أعظم مظهر وأثر على الإطلاق لمن سلك طريق السعادة، فاللهمّ إنّي أسألك رؤية وجهك الكريم والقارئين أجمعين.
    قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ -تبارك وتعالى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ».

    رضا أهل الجنة وشكرهم

    ما أعظم الرضا! وما أروع الشكر من جانب أهل الجنة! وما أوسع فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، وتكريمه إياهم! إنّ المؤمنين إذا زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة فرحوا بأنّهم فازوا فحمدوا وشكروا، وكبروا، وأثنوا، فإذا ما تمتعوا بنعيم الجنة بلغ بهم السرور غايته، ووصل بهم الفرح والابتهاج منتهاه، ولم تطمح نفوسهم إلى شيء بعد ما هم فيه من نعيم، وعندئذٍ يتجلّى لهم الرب الكريم، بسؤال الفيض والتكريم، هل تريدون شيئًا فوق ما أنتم فيه أعطيكموه؟ فيقولون: ماذا بعد هذا الفضل الكبير؟ ألم تكرمنا بتبييض وجوهنا؟ وبالنور الذي يسعى بين أيدينا وبأيماننا؟ ألم تنجنا من النار وعذابها؟ ألم تدخلنا الجنة وتوسع علينا من نعيمها؟ لقد وجدنا فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ورأينا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فماذا ننتظر بعد هذا؟ لك الحمد ربنا ولك الشكر، فيكشف الله الحجاب بينه وبينهم، ويمنحهم قوة في أبصارهم يرون بها نوره وجلاله، فيحسّون السعادة التي ينسون معها كل نعيم، ويستصغرون بجوارها كل ما أعطوا من متع وسرور، فاللهمّ اجعلنا من المتقين الفائزين برؤية وجهك الكريم.


    حُب أهل السعادة

    عَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرَ إلى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}»، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعدّ لهم ويحب الله -سبحانه- لقاءهم فيجزل لهم العطاء والكرامة.


    وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته -سبحانه-







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •