هذا باب ما جاء في الرياء
يعني: من الوعيد، وأنه شرك بالله جل وعلا.
والرياء حقيقته من الرؤية، وهي البصرية.
وذلك بأن يعمل عمل العبادة؛ لكي يُرى أنه يعمل؛ يعمل العمل الذي هو من العبادة:
إما صلاة.
أو تلاوة.
أو ذكر.
أو صدقة.
أو حج.
أو جهاد.
أو أمر.
ونهي.
أو صلة رحم.
أو نحو ذلك، لا لطلب ما عند الله ولكن لأجل أن يُرى؛ لأجل أن يراه الناس على ذلك، فيثنوا عليه به؛ هذا هو الرياء.
وقد يكون الرياء في أصل الإسلام، كرياء المنافقين.
فالرياء على درجتين:
الدرجة الأولى: رياء المنافقين، بأن يُظهر الإسلام ويبطن الكفر؛ لأجل رؤية الخلق.
وهذا مُنافٍ للتوحيد من أصله، وكفرٌ أكبر بالله جل جلاله؛ لهذا وصف الله المنافقين بقوله: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} يُراءون الناس، يعني: الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام؛ وإبطان الكفر، وشُعَب الكفر.
والنوع الثاني من الرياء: أن يكون الرجل مسلماً أو المرأة مسلمة؛ ولكن يرائي بعمله، أو ببعض عمله؛ فهذا شرك خفيّ، وذلك الشرك مُنافٍ لكمال التوحيد؛ والله -جل وعلا- قال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} على اختيار من قال: إن قوله: {لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}يدخل فيه الشرك الخفيّ والأصغر.
قال الشيخ -رحمه الله-: (باب ما جاء في الرياء، وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}).
قوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} هذا نهيٌ عن الإشراك.
قال: {وَلاَ يُشْرِكْ} هذا نهي، والنهي هنا: عام لجميع أنواع الشرك، التي منها شرك الرياء.
ولهذا يستدل السلف بهذه الآية على مسائل الرياء؛
كما أوردها الإمام -رحمه الله تعالى- هنا؛ لأنه قال: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} يعني: بما يشمل ترك المراءاة، فإن الرياء شرك.
وقوله: {وَلاَ يُشْرِكْ} هذا عموم يعمّ أنواع الشرك جميعاً؛ لأن (يُشرك) نكرة، جاءت في سياق النهي؛ فعمّت أنواع الشرك.
وقوله: {أَحَداً} يعمّ جميع الخلق: بمراءاة، أو بتسميع، أو بغير ذلك؛ فدلالة الآية ظاهرة على الباب، وأنَّ المراءاة نوع من الشرك الأصغر، نوع من الشرك الخفيّ.
تارة نقول: الرياء شرك أصغر، باعتبار أنه ليس بأكبر مخرج من الملة.
- وتارة نقول: الرياء شرك خفيّ؛ لأنه ليس بظاهر، وإنما هو باطن خفيّ في قلب العبد؛ ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبّرون عن الشرك الأصغر:
بيسير الرياء.
وتارة يعبرون عن الشرك الخفيّ، بالرياء.
ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق -كما ذكرنا لكم في أول هذا الشرح- من عالِمٍ إلى آخر؛ تارة يقسمون الشرك إلى أكبر، وأصغر؛ ومنهم من يقسمه إلى أكبر، وأصغر، وخفيّ؛ وكلٌّ له اصطلاحه؛ وكل الأقوال صواب.
قال: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعاً، قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللهُ تَعَالى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِيَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ))).
هذا الحديث يدلّ على أنَّ الرياء مردودٌ على صاحبه، وأن الله -جل وعلا- لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء.
والعلماء فصّلوا في ذلك؛ فقالوا:
الرياء إذا عَرَضَ للعبادة فله أحوال:
فإما أنْ يعرض للعبادة من أولها:
فإذا عرض للعبادة من أولها، فإن العبادة كلّها باطلة،
مثل: (أن يصلي، أنشأ الصلاة لنظر فلان) لم يرد أن يصلي الراتبة، لكن لما رأى فلاناً ينظر إليه فصلى الراتبة؛ لكي يراه؛ فهذا عمله حابط، يعني: هذه الركعتين حابطة؛ وهو مأزور على مراءاته، ومرتكب الشرك الخفيّ، الشرك الأصغر.
والحالة الثانية:
أن يكون أصل العبادة لله،
ولكن خلط ذلك العابد عمله برياء، مثلاً: (أطال الركوع، وأكثر التسبيح؛ لأجل من يراه) (أطال القراءة والقيام لأجل من يراه) فهذا، القدر الواجب من العبادة: له، وما عدا ذلك فهو حابط؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب؛ فيحبط ذلك الزائد وهو آثم عليه، لا يُؤجر عليه، ويحبط، ولا ينتفع منه، ويُؤزر على إشراكه وعلى مُراءاته؛ هذا في الأعمال، أو في العبادات البدنية؛ أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك.
قال هنا: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فيه مَعِيَ غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)) يعني: بجميع أنواع المشركين، وبجميع أنواع الأعمال.
((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً)) عملاً هذه: نكرة جاءت في سياق الشرط؛ فعمّت جميع الأعمال.
الأعمال البدنية.
والأعمال المالية.
- والأعمال التي اشتملت على مالٍ وبدن.
البدنية:
كالصلاة والصيام.
والمالية: كالزكاة والصدقة.
والمشتملة على بدن، ومال: كالحج والجهاد ونحو ذلك.
هذا يعمّ الجميع ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً)) يعني: أنشأه ((أشرك فيه معي غيري)) جعله لله ولغير الله جميعاً؛ فإن الله -جل وعلا- أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل إلا ما كان له وحده سبحانه وتعالى.
قال: (وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ مَرْفُوعاً: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُم عِنْدِي مِنَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ.
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ:((الشِّرْكُ الخَفِيُّ، يَقُومُ الرَّجُلُ، فَيُصَلِّي فَيُزَيِّن صَلاَتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ الرَّجُلٍ)).
هذا فيه بيان أنَّ هذا النوع من الشرك هو أخوف من المسيح الدجال عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الأمة.
ذلك أنَّ أمر المسيح، أمر ظاهر بيّن؛ والنبي -عليه الصلاة والسلام- بيّن ما في شأنه، وبيّن صفته، وحذّر الأمة منه، وأمرهم بأن يدعوا آخر كل صلاة بالاستعاذة من:
شرّ المسيح الدجال.
- ومن فتنة المسيح الدجال.
لكن الرياء، هذا يعرض للقلب كثيراً، والشيطان يأتي إلى القلوب؛ وهذا الشرك يقود العبد إلى أن يتخلى شيئاً فشيئاً عن مراقبة الله جل وعلا، ويتجه إلى مراقبة المخلوقين؛ لذلك صار أخوف عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علينا من المسيح الدجال؛
ثم فسَّره بقوله: (الشِّرْكُ الخَفِيُّ، يَقُومُ الرَّجُلُ، فَيُصَلِّي فَيُزَيِّن صَلاَتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ الرَجُل).[كفاية المستزيد صالح ال الشيخ]