كثيرًا ما نواجه مقولة: "لا أدري" ونحن نقرأ سير الأئمة الأسلاف، كانوا يطلقونها كلما يشكُّون في صحة جوابهم عما يُسألون عنه، يقولونها بكل رحابة وراحة ودونما ضيق وحرج.
دأبهم عدم التكلّف في الرد والخوف والحذر الشديد من الوقوع في جريرة القول على الله بلا علم.
نرى من المواقف ما يجعلنا نتسمر في مكاننا من شدة الاندهاش، خاصة عندما نرى في المقابل التكلف والاندفاع الذي يعجّ به عصرنا في مجال الرد والفتوى، وأن معظم الناس يأنفون من قول «لا أدري»، بحيث أصبح الإفتاء والإدلاء بغير علم أسهل منه عندهم.
يدّعي أحدهم العلم فيما ليس له باع ولا نصف ذراع، ويلبس ثوبي زور، ويحب أن يُحمد بما لم يفعل، حرصًا على صيانة جاهه المزيّف عند الناس! ظنًّا منه أنه يخسره إذا قال «لا أدري».
هذا هو إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله: يُسأل ذات مرة أكثر من أربعين سؤالًا، وهو يردُّ: «لا أعرف» إلى اثنين وثلاثين منهم. (والقول منسوب أيضًا إلى الهيثم بن جميل).
وقد ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه "صيد الخاطر" في فصل «من قال لا أدري فقد أفتى»: "قد روي عن مالك بن أنس أنّ رجلا سأله عن مسألة، فقال لا أدري، فقال: سافرت البلدان إليك، فقال: ارجع إلى بلدك وقل: سالتُ مالكًا فقال: لا أدري". (صيد الخاطر/ 189).
وقد أَخْرجَ ابْن عبْد الْبرِّ -رحمه الله- بسنده عن عبدالرحمن بن مهدى قال: «كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله، جئتك من مسيرة ستة أشهر، حمّلنى أهل بلدى مسألة أسألك عنها، قال: فسل، فسأله الرجل عن مسألة، قال: لا أحسنُها، قال: فبُهت الرجل، كأنه قد جاء إلى مَن يعلم كل شىء، قال، فقال: فأيّ شيء أقول لأهل بلدتى إذا رجعت لهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن».
يا للعجب! أين الذين يفتون ويدلون فيما ليس لهم اختصاص، وقلوبهم آمنة مطئنة، يفرضون آراءهم الهزيلة على الناس بأنها مما لا يتطرق إليه الشك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! فأين هم من مثل هذه المواقف؟ أين شيوخ الشاشة الذين يجيبون عن كل الأسئلة ولا يتركون مسألة من المسائل إلا ويجيبون عنها إجابة كافية شافية؟! أين الذين جعلوا الدين تجارة مدرّة للدخل؟ وأين الذين يعتاشون من القول على الله بغير علم؟
وما حدث مع إمام اللغة والنحو أبي العباس ثعلب، لا يقل طرافة وروعة عما سبق: حدّث أبو عمر الزاهد فقال: كنتُ في مجلس أبي العبّاس ثعلب، فسأله سائلٌ عن شيء فقال: «لا أدري»، فقال له: أتقول «لا أدري» وإليك تُضرَب أكبادُ الإبل، وإليك الرحلةُ من كل بلد؟ فقال له ثعلب: لو كان لأهلي بعدد ما لا أدري بعرٌ لاستغنيتُ. (معجم الأدباء ٢| ٥٧٧).
إننا نجد أناسًا يفتون ويقولون ويكتبون دون دراسة وتحقيق، وتمهّل وتروّ، فيأتون بالعجائب، بحسب الحافظ ابن حجر، فقد قال في "مقدمة فتح الباري": «من تكلّم في غير فنه أتى بالعجائب». فالكثير يتكلم اليوم في غير فنه، هذا إن كان لهؤلاء المتهورين فن أصلا! على أن أكثرهم لا فن لهم! مما يجعل المصيبة أعظم.
قد كثرت العجائب في عصرنا بعدما صار قول «لا أعلم» و «لا أدري» و «لا أعرف» و«الله أعلم» يعتبره الناس منقصة وعيبًا، في وقت كان الأسلاف لا يستحيون منه، وقد قال علي رضي الله عنه: «ولا يستحي من يعلم إذا سُئل عمّا لا يعلم أن يقول: «الله أعلم».


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141920/#ixzz6Xq7FwIBW