مقدمة
يدورُ في العالم الإسلامي اليوم جدال حار حول تكفير"الحاكم" إذا لم يحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.والناس في ذلك مُنقسمون بين مكفرٍ لأنّ الله سبحانه أطلقَ الكفرَ على من لم يحكم بما أنزل الله،وبين مُمتنعٍ عن التكفير إلاَّ إنْ تحقَّقَ مِن جحود مَن لم يحكم بشرع الله عزّ َو جل،وهؤلاء ينتظرون ــ نوَّر َاللهُ أبصارَهُم،وَوَس َّعَ آفاقهُم،وَرَسَّ خَ ورعهم ــ أنْ يُصرَّح الحاكم بالجحود!
ولّما كنّا من أمّةٍ ذَرِّية،أُحادَّ ية النّظرة، إذا علقت بشيءٍ فإنّها تبقى تلف وتدور حوله مُهمِلة الجوانب الأخرى،التي قد تكون أهم َّوألصق بالمقصد،فقد حصرنا البحث في هذه المسألة الخطيرة في شخص الحاكم، وأهملنا دراستها من الناحية الإنسانية الحقوقية،ومن ناحية واجبات الحاكم المناطة به، والتي يؤدي التقصيرُ بأدائها إلى عَزله،ومن ناحية عدالةِ الحاكم وأهليته لتولي الحكم،حتى لقد أصبحت غاية بعض المسلمين إثباتَ عدم الكفر،فإنْ تم له ذلك ارتاحَّ وتوقف،وكأنَّ القضايا السابقة التي أشرتُ إليها ليست ذات بال،مع أنَّ العلماء بحثوا كثيراً من هذه المسائل تحت عنوان مُسْقِطات ولاية الخليفة(الحاكم).
لقد كانت هذه الملاحظة الدافع الأول إلى كتابة هذا البحث.
ثم لاحظتُ أنَّ البحثَ في موضوع الحاكم فقد غايته،فأصبح هو الغاية. من أن َّأصل الموضوع والدافع إليه هو مدى شرعية حكم المُلَتَبِّس بالكفر! وكانت هذه الملاحظةُ الدافع الثاني.
أما الدافع الثالث ــ وهو أهمها ــ فقد لاحظت أنَّ الحوار تَرَكَّزَ بين المسلمين حول مشروعية الخروج على الحكّام،وما يتعلّق بذلك من مسائل،مع إغفال تام لمسألةٍ ينبغي أن تُعالَجَ قبل ذلك وهي مشروعية الحكم القائم،أو مشروعية السلطةِ التي ُيبحث في مشروعية تغيرها!
لم ينل موضوعُ السلطة وعلاقةُ الأُمَّة بها،وحقُّ الأخيرة بتولية الحاكم وعزله ما يستحقه من اهتمام وبحث ونشر.فقد انغلق العلماء على بعض القضايا يُخاطبون بها الأُمة بتكرارٍ مملٍّ.والأبحاثُ التي أُنجزت في هذا الموضوع أبحاثٌ أكاديميَّة بحتة،قُدِّم أغلبها على شكل رسائل علمية،لذلك فهي بعيدة عن متناول مجموع الأمة.
ويبدو لي أنّ التحدث في هذا الموضوع مُكْلِفٌ لذلك فإنَّ الكثيرين قد اجتنبوه،وفي أحسن الحالات بحثوه بحثاً مجرداً عن الواقع.ومن هنا فإن من ألزم الواجبات على طلاب العلم تجلية مسائل هذا الموضوع،خاصة في هذا الزمن الذي عاد فيه الكثيرون إلى ربهم،وصاروا يعملون لعودة الإسلام إلى الحياة.
والحقيقة أنّنا بحاجة ــ في هذا الباب ــ لدراساتٍ تكشف الواقع،وتُنظِّر للتغير،ولكن بتأصيل شرعي،يدور مع الدليل حيث دار. فالكتب التي تتحدَّثُ عن الواقع كثيرة لكن ينقصُ أكثرها التأصيلُ الشرعيُّ،وعلى هذا المنهج حاولت أنْ أُقيم هذه الدراسة.
إنّنا نعيشُ في أزمة....لا خلاف على ذلك.ولهذه الأزمة عدَّة مظاهر،ليس أهمُها ــ خلافاً لما يتعقد كثيرٌ من الناس ــ سوءَ الحكام،وإنْ كانوا من أبرز مظاهر الأزمة،فأنا لا أُحمِّل الحكومات ــ وحدها ــ تبعة حالنا الأسود،ولكنيِّ أُحمِّل الأمة وزر هذا الوضع البائس،لا لسلامة الأنظمة،بل لأن الأمة هي التي أفرزت هذه الأنظمة،وهي التي رضيت باستعبادها،وكلّ ُ الذي فعلته الأنظمةُ أنّها وجدت شعوبا ًقابلة للاستعباد فاستعبدتها.
وهذا يعني أنَّ مفاتيح الأزمة في يد الأمَّة،وعلى وجه الخصوص في يد علماء الأمة.والأمة بوعيها تُنهي أزمتها،لكن الأمَّة لا تعرف أَنّها في أزمة،فهي تجهل حقيقة عقيدتها،ومن ثَمَّ تجهل حقوقها،وتجهل بأنها بلا حياة،إذ العبدُ ميت !وتجهل بأنّها بلا انتماء،لأن العبودية تسلب المواطن انتماءه،فهي لذلك بلا وطن!
وتجهل بأنّها بلا كرامة،لأنها مقموعةٌ،مسلوبةُ الإرادة !
إذن،لابُدّ َمن التغيير،ولا تغير دون إصلاح،ولا إصلاح بلا وعي.
فالوعي هو المطلوب،وواجب العلماء بَثُّ الوعي في الأمة.ومن أهمِّ القضايا التي على الأمة أن تعَيها:
الوعي على واقعها
الوعي على دينها
الوعي على ضوابط علاقة ِالأمة بالسلطة.
وهذا ما يهدف إليه الكتاب.....
.....أقصد من هذا الكتاب وصف الواقع ــ كما هو ــ للمسلم دون تجميل وتهذيب،فأنا يقتلني تزوير الحقائق،وتجميل القبائح.
وأريد لفت الانتباه إلى بعض مبادئ الإسلام في الحكم.
وأقصد تعريف المسلم ــ بعد أنْ يعرف حقَّه في الشريعة لتسهُل المقارنة عليه ــ بأنّه عبد لغير الله تعالى كي يسعى إلى تحرره.فإنّ كون الإنسان عبداً ــ دون أن يشعر بذلك ــ لا يعني أن يطالب بتحرره،فلابد من إفهامه بأنه عبد،وأن عليه أن يسير باتجاه الحرية الحقيقية.
إنّ بلالاً المسلم لم يختلف عن بلا ل المشرك إلاّ بهذه، بإدراكه بأنه كان عبدا ًلغير الله،وأنّ هذا اغتصاب لحقِّه،وكونه صار مسلما ًيعني أنّه صار حُرّاً حقيقةً.
ولهذا عُذّب،فالذين عذبوه لم يعذبوه لأنّ هُبلاً خسر ساجداً،بل لأنّ سيِِّدَه خسر عبداً.وهما قضيتان في المآل تلتقيان،فإنّ رفضك السجودَ للصنم،لا معنى له إلاّ أنك أصبحت حرَّاً من العبودية لغير الله سبحانه.
إنني أطالب في هذا الكتاب بالحياة الأفضل،يعني بالحياة الإسلامية،وأُنا دي بأنْ لا مخرج من هذا البلاء الذي نحن فيه إلاّ بإعادة الخلافة:
أُنادي والجراحُ مُسوَّماتٌ وهمِّي حول قلبي كالنِّطاق
فإعادة الخلافة هي الطريق لهذه الحياة الكريمة.والخلاف الحقيقية الكاملة هي التي تكون على منهاج النبوة،وقد تحقَّقت هذه الخلافة على أكمل صورها زمن الراشدين رضوان الله عليهم.
حاولت في هذا الكتاب أن أكشف الواقع،فإنّ المعرفة التي لا تكشف الواقع،وإنما تكتفي بتبريره وتزييفه،معرفة لا تصبُّ في مصلحة الجماهير.
ومن أجل ذلك فقد ركّزتُ على الإدراك أكثر من تركيزي على تكثيف المعلومات،لأنّن ي أكتب ونُصْب عينيَّ حرية المسلم من العبودية لغير الله تعالى،وهذه الحرية لا تُنال إلاّ بتنمية الإدراك.
ثم إنّني أكتب للتغيير،لا لرفوف المكتبات،وشأن هذه الكتابة التركيز على المفاهيم وتكرارها،ولذلك سيجد القارئ تكراراً لمجموعةٍ من المفاهيم،ولي في منهج القرآن العظيم القائم على تركيز أصول العقيدة من خلال تكرارها الأسوة الحسنة.وهكذا كان رسول الله eمع صحابته رضي الله عنهم،فلقد كان عليه الصلاة والسلام يؤكد على الحقائق والمبادئ فيشربها قلوب أصحابه رضي الله عنهم حتى تجري في عروقهم.
إنّ التغيير الحقيقيَّ يقوم على إجراء تحوُّل حقيقيِّ في الذات :
) إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ([الرعد:13] ،وهذا لا يتم إلا عن طريق التربية على المفاهيم التي تُنشئ الوعيَ،وتؤدي إلى رفض الباطل، والتربيةُ تقتضي تكراراً،خاصةً إذا كانت المفاهيمُ ــ كمفاهيم بحثنا ــ مجهولةً أَو منسيةً.
جعلت بحثي هذا ــ إضافة لهذه المقدمة وكلمة لا بُد ّمنها ــ في خمسة فصول :
ذكرت في الفصل الأول مجموعةً من الحقائق العلميِّة والتاريخيَّة المهمَّة.
وتكلمتُ في الفصل الثاني عن المنهج الصحيح في تناول هذا الموضوع.
وشرحتُ في الفصل الثالث حديث عبادة بن الصامت ــ رضي الله عنه ــ .
وفي الفصل الرابع وصفتُ حال الأمّة والحكم في العالم الإسلامي.
وذكرتُ في الفصل الخامس بعضَ المبادئ من النظام السياسيِّ الإسلاميِّ .
هذا ......
وإنّي على يقين بأنَّ ما في هذا البحث من الطرح المباشر، والصراحة في الأسلوب ــ خاصة في فصل واقع الأمة ــ سينجم عنه ردود أفعال سلبية من بعض من تمرَّس بدور طبيب التخدير،و بالتربيت على الأكتاف ليوهم أنّ كلَّ شيء على ما يرام.
إنّ في هذا البحث من نقد لا يُشَكِّلُ غير نسبةٍ ضئيلةٍ من النقد الذي نحتاج إليه، فنحن نفتقر لأطنان من النقد في مقابل هذا الشَّلل العام،وتزوير الحقائق المتفشي.
وما كتبته لا يزيد عما تظهره المرآة حين ينطبع عليه الواقع كما هو،فلن أستطيع إذن إلاّ أنْ أكتب الذي كتبت،لأنّه مرآةُ هذا الواقع، فليتغير الواقع كيما تعطي المرآةُ صورةً أُخرى.
ولا شكَّ في أنَّ الكتابة في هذا الموضوع شائكةٌ مُكَلِفة،لكنّه الميثاقُ الذي أخذه اللهُ سبحانه على أَهل العلمِ وطلابه )لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ( [آل عمران:187] فماذا نفعل بهذا الميثاق؟
إنّما الصعبُ أن تُكبِّر و الأصــــــ ــــنامُ تُرْعَى وأمرُها مأتيُّ
أسألُ الله العلي القدير أنْ يكون هذا البحثُ مِعولاً يهدم الأصنام،ويُعلي شأن التكبير،وأسأله سبحانه أن ينفع به، وأن يدَّخره لي في ميزان حسناتي،إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
أبو الهدى المقدسي
عمان في 15/1/1996م