تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

  1. #1

    افتراضي الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    مقدمة


    يدورُ في العالم الإسلامي اليوم جدال حار حول تكفير"الحاكم" إذا لم يحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.والناس في ذلك مُنقسمون بين مكفرٍ لأنّ الله سبحانه أطلقَ الكفرَ على من لم يحكم بما أنزل الله،وبين مُمتنعٍ عن التكفير إلاَّ إنْ تحقَّقَ مِن جحود مَن لم يحكم بشرع الله عزّ َو جل،وهؤلاء ينتظرون ــ نوَّر َاللهُ أبصارَهُم،وَوَس َّعَ آفاقهُم،وَرَسَّ خَ ورعهم ــ أنْ يُصرَّح الحاكم بالجحود!
    ولّما كنّا من أمّةٍ ذَرِّية،أُحادَّ ية النّظرة، إذا علقت بشيءٍ فإنّها تبقى تلف وتدور حوله مُهمِلة الجوانب الأخرى،التي قد تكون أهم َّوألصق بالمقصد،فقد حصرنا البحث في هذه المسألة الخطيرة في شخص الحاكم، وأهملنا دراستها من الناحية الإنسانية الحقوقية،ومن ناحية واجبات الحاكم المناطة به، والتي يؤدي التقصيرُ بأدائها إلى عَزله،ومن ناحية عدالةِ الحاكم وأهليته لتولي الحكم،حتى لقد أصبحت غاية بعض المسلمين إثباتَ عدم الكفر،فإنْ تم له ذلك ارتاحَّ وتوقف،وكأنَّ القضايا السابقة التي أشرتُ إليها ليست ذات بال،مع أنَّ العلماء بحثوا كثيراً من هذه المسائل تحت عنوان مُسْقِطات ولاية الخليفة(الحاكم).
    لقد كانت هذه الملاحظة الدافع الأول إلى كتابة هذا البحث.
    ثم لاحظتُ أنَّ البحثَ في موضوع الحاكم فقد غايته،فأصبح هو الغاية. من أن َّأصل الموضوع والدافع إليه هو مدى شرعية حكم المُلَتَبِّس بالكفر! وكانت هذه الملاحظةُ الدافع الثاني.
    أما الدافع الثالث ــ وهو أهمها ــ فقد لاحظت أنَّ الحوار تَرَكَّزَ بين المسلمين حول مشروعية الخروج على الحكّام،وما يتعلّق بذلك من مسائل،مع إغفال تام لمسألةٍ ينبغي أن تُعالَجَ قبل ذلك وهي مشروعية الحكم القائم،أو مشروعية السلطةِ التي ُيبحث في مشروعية تغيرها!
    لم ينل موضوعُ السلطة وعلاقةُ الأُمَّة بها،وحقُّ الأخيرة بتولية الحاكم وعزله ما يستحقه من اهتمام وبحث ونشر.فقد انغلق العلماء على بعض القضايا يُخاطبون بها الأُمة بتكرارٍ مملٍّ.والأبحاثُ التي أُنجزت في هذا الموضوع أبحاثٌ أكاديميَّة بحتة،قُدِّم أغلبها على شكل رسائل علمية،لذلك فهي بعيدة عن متناول مجموع الأمة.
    ويبدو لي أنّ التحدث في هذا الموضوع مُكْلِفٌ لذلك فإنَّ الكثيرين قد اجتنبوه،وفي أحسن الحالات بحثوه بحثاً مجرداً عن الواقع.ومن هنا فإن من ألزم الواجبات على طلاب العلم تجلية مسائل هذا الموضوع،خاصة في هذا الزمن الذي عاد فيه الكثيرون إلى ربهم،وصاروا يعملون لعودة الإسلام إلى الحياة.
    والحقيقة أنّنا بحاجة ــ في هذا الباب ــ لدراساتٍ تكشف الواقع،وتُنظِّر للتغير،ولكن بتأصيل شرعي،يدور مع الدليل حيث دار. فالكتب التي تتحدَّثُ عن الواقع كثيرة لكن ينقصُ أكثرها التأصيلُ الشرعيُّ،وعلى هذا المنهج حاولت أنْ أُقيم هذه الدراسة.
    إنّنا نعيشُ في أزمة....لا خلاف على ذلك.ولهذه الأزمة عدَّة مظاهر،ليس أهمُها ــ خلافاً لما يتعقد كثيرٌ من الناس ــ سوءَ الحكام،وإنْ كانوا من أبرز مظاهر الأزمة،فأنا لا أُحمِّل الحكومات ــ وحدها ــ تبعة حالنا الأسود،ولكنيِّ أُحمِّل الأمة وزر هذا الوضع البائس،لا لسلامة الأنظمة،بل لأن الأمة هي التي أفرزت هذه الأنظمة،وهي التي رضيت باستعبادها،وكلّ ُ الذي فعلته الأنظمةُ أنّها وجدت شعوبا ًقابلة للاستعباد فاستعبدتها.
    وهذا يعني أنَّ مفاتيح الأزمة في يد الأمَّة،وعلى وجه الخصوص في يد علماء الأمة.والأمة بوعيها تُنهي أزمتها،لكن الأمَّة لا تعرف أَنّها في أزمة،فهي تجهل حقيقة عقيدتها،ومن ثَمَّ تجهل حقوقها،وتجهل بأنها بلا حياة،إذ العبدُ ميت !وتجهل بأنّها بلا انتماء،لأن العبودية تسلب المواطن انتماءه،فهي لذلك بلا وطن!
    وتجهل بأنّها بلا كرامة،لأنها مقموعةٌ،مسلوبةُ الإرادة !
    إذن،لابُدّ َمن التغيير،ولا تغير دون إصلاح،ولا إصلاح بلا وعي.
    فالوعي هو المطلوب،وواجب العلماء بَثُّ الوعي في الأمة.ومن أهمِّ القضايا التي على الأمة أن تعَيها:
    الوعي على واقعها
    الوعي على دينها
    الوعي على ضوابط علاقة ِالأمة بالسلطة.
    وهذا ما يهدف إليه الكتاب.....
    .....أقصد من هذا الكتاب وصف الواقع ــ كما هو ــ للمسلم دون تجميل وتهذيب،فأنا يقتلني تزوير الحقائق،وتجميل القبائح.
    وأريد لفت الانتباه إلى بعض مبادئ الإسلام في الحكم.
    وأقصد تعريف المسلم ــ بعد أنْ يعرف حقَّه في الشريعة لتسهُل المقارنة عليه ــ بأنّه عبد لغير الله تعالى كي يسعى إلى تحرره.فإنّ كون الإنسان عبداً ــ دون أن يشعر بذلك ــ لا يعني أن يطالب بتحرره،فلابد من إفهامه بأنه عبد،وأن عليه أن يسير باتجاه الحرية الحقيقية.
    إنّ بلالاً المسلم لم يختلف عن بلا ل المشرك إلاّ بهذه، بإدراكه بأنه كان عبدا ًلغير الله،وأنّ هذا اغتصاب لحقِّه،وكونه صار مسلما ًيعني أنّه صار حُرّاً حقيقةً.
    ولهذا عُذّب،فالذين عذبوه لم يعذبوه لأنّ هُبلاً خسر ساجداً،بل لأنّ سيِِّدَه خسر عبداً.وهما قضيتان في المآل تلتقيان،فإنّ رفضك السجودَ للصنم،لا معنى له إلاّ أنك أصبحت حرَّاً من العبودية لغير الله سبحانه.
    إنني أطالب في هذا الكتاب بالحياة الأفضل،يعني بالحياة الإسلامية،وأُنا دي بأنْ لا مخرج من هذا البلاء الذي نحن فيه إلاّ بإعادة الخلافة:
    أُنادي والجراحُ مُسوَّماتٌ وهمِّي حول قلبي كالنِّطاق

    فإعادة الخلافة هي الطريق لهذه الحياة الكريمة.والخلاف الحقيقية الكاملة هي التي تكون على منهاج النبوة،وقد تحقَّقت هذه الخلافة على أكمل صورها زمن الراشدين رضوان الله عليهم.
    حاولت في هذا الكتاب أن أكشف الواقع،فإنّ المعرفة التي لا تكشف الواقع،وإنما تكتفي بتبريره وتزييفه،معرفة لا تصبُّ في مصلحة الجماهير.
    ومن أجل ذلك فقد ركّزتُ على الإدراك أكثر من تركيزي على تكثيف المعلومات،لأنّن ي أكتب ونُصْب عينيَّ حرية المسلم من العبودية لغير الله تعالى،وهذه الحرية لا تُنال إلاّ بتنمية الإدراك.
    ثم إنّني أكتب للتغيير،لا لرفوف المكتبات،وشأن هذه الكتابة التركيز على المفاهيم وتكرارها،ولذلك سيجد القارئ تكراراً لمجموعةٍ من المفاهيم،ولي في منهج القرآن العظيم القائم على تركيز أصول العقيدة من خلال تكرارها الأسوة الحسنة.وهكذا كان رسول الله eمع صحابته رضي الله عنهم،فلقد كان عليه الصلاة والسلام يؤكد على الحقائق والمبادئ فيشربها قلوب أصحابه رضي الله عنهم حتى تجري في عروقهم.
    إنّ التغيير الحقيقيَّ يقوم على إجراء تحوُّل حقيقيِّ في الذات :
    ) إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ([الرعد:13] ،وهذا لا يتم إلا عن طريق التربية على المفاهيم التي تُنشئ الوعيَ،وتؤدي إلى رفض الباطل، والتربيةُ تقتضي تكراراً،خاصةً إذا كانت المفاهيمُ ــ كمفاهيم بحثنا ــ مجهولةً أَو منسيةً.
    جعلت بحثي هذا ــ إضافة لهذه المقدمة وكلمة لا بُد ّمنها ــ في خمسة فصول :
    ذكرت في الفصل الأول مجموعةً من الحقائق العلميِّة والتاريخيَّة المهمَّة.
    وتكلمتُ في الفصل الثاني عن المنهج الصحيح في تناول هذا الموضوع.
    وشرحتُ في الفصل الثالث حديث عبادة بن الصامت ــ رضي الله عنه ــ .
    وفي الفصل الرابع وصفتُ حال الأمّة والحكم في العالم الإسلامي.
    وذكرتُ في الفصل الخامس بعضَ المبادئ من النظام السياسيِّ الإسلاميِّ .
    هذا ......
    وإنّي على يقين بأنَّ ما في هذا البحث من الطرح المباشر، والصراحة في الأسلوب ــ خاصة في فصل واقع الأمة ــ سينجم عنه ردود أفعال سلبية من بعض من تمرَّس بدور طبيب التخدير،و بالتربيت على الأكتاف ليوهم أنّ كلَّ شيء على ما يرام.
    إنّ في هذا البحث من نقد لا يُشَكِّلُ غير نسبةٍ ضئيلةٍ من النقد الذي نحتاج إليه، فنحن نفتقر لأطنان من النقد في مقابل هذا الشَّلل العام،وتزوير الحقائق المتفشي.
    وما كتبته لا يزيد عما تظهره المرآة حين ينطبع عليه الواقع كما هو،فلن أستطيع إذن إلاّ أنْ أكتب الذي كتبت،لأنّه مرآةُ هذا الواقع، فليتغير الواقع كيما تعطي المرآةُ صورةً أُخرى.
    ولا شكَّ في أنَّ الكتابة في هذا الموضوع شائكةٌ مُكَلِفة،لكنّه الميثاقُ الذي أخذه اللهُ سبحانه على أَهل العلمِ وطلابه )لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ( [آل عمران:187] فماذا نفعل بهذا الميثاق؟
    إنّما الصعبُ أن تُكبِّر و الأصــــــ ــــنامُ تُرْعَى وأمرُها مأتيُّ
    أسألُ الله العلي القدير أنْ يكون هذا البحثُ مِعولاً يهدم الأصنام،ويُعلي شأن التكبير،وأسأله سبحانه أن ينفع به، وأن يدَّخره لي في ميزان حسناتي،إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

    أبو الهدى المقدسي


    عمان في 15/1/1996م

  2. #2

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    " كلمة لابد منها "

    هذا هو الكتاب الثاني من سِلْسِلَةِ " إحياء فقه السَّلف " أقدِّمه في إطار السلسلة تحقيقاً لإحياء المنهج،وتصويب مسيرته.
    وقد يتساءل بعض القرَّء عن علاقة هذا البحث بفقه السَّلف!
    وقد أعذر كثيراً من الناس على هذا التساؤل، بسبب ما يرونه من ممارسات قزَّمت فقه السلف في قضايا محددة.فصاروا ما إن يسمعوا بفقه السلف حتى يَسْرحَ بهم الخيال إلى فقه دورات المياه وفقه الملابس وقياسها،وتحقيق المخطوطات ــ المحقَّقة! ــ التي ــ غالباً ــ علمها لا ينفع وجهلها لا يضرّ.
    وكان من أثار هذا الفهم أن تركز في الأذهان انعدام العلاقة بين فقه السلف وبين الواقع،خاصة أنّ بعض مُقدَّميهم يُصرِّحون ــ بافتخار ــ بهذا الفهم.
    ولذلك فقد رأيتُ ورأى من أطلعتهم على البحث،أنه من الضروري التنبيه على العلاقة المتينة بين هذا البحث وبين فقه السَّلف،إزالةً للإشكال المتوقع .
    أن هذا البحث تحقيق لهدف من أهداف هذه " السلسلة " :وهو إخراج منهج السلف من دائرة البحث في قضايا محدّدة،ومن الإصرار على إعادة إنتاج الكتب القديمة واجترار المعلومات دون وعي،إلى البحث في كل القضايا والمسائل.
    وقضية هذا البحث من أهم القضايا التي يجب بحثها وإنضاجها، وبيان موقف منهج السلف منها،خاصةً وأن الجهود تنصبُّ لتحميل فقه السلف في هذه المسألة، أي موقفهم من السلطة، ودورهم في الواقع،ما هو بريءٌ منه.
    أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكون هذا البحث بياناً لمنهج السلف،ولبنة تسد ثغرة في الطريق لإحيائه.

    " حقائق "

    الحقيقة الأولى :

    يُسيطر على المسلمين العاملين ورعٌ ليس في مكانه،ناتج عن خلطهم بين الدوائر،فهم يتورعون عن الكلام في الحكام كورعهم عن الكلام في بقية الناس!ولكن الحقيقةَ التي يجب أن تكون معلومةً هي أنّ البحث في أفراد المسلمين وتصنيفهم غير البحث فيمن تولى للمسلمين ولاية.
    إنّ دائرة الإسلام دائرةٌ واسعةُ،تَسَعُ المؤمن المُقرَّب الورع،كما تَسَعُ المسلم المقتصد(1) ،كما تسع المسلم المقصِّر،كما تَسَعُ المسلم الفاسق العاصي،و للتعامل مع هذه الأصناف فقهٌ يراعي جانب السِتر،والدِّقَّة في تصنيفهم قرباً أو بعداً من مركز الدائرة،مع المحافظة على إبقائهم داخل الدائرة.
    لكنَّ منصب الولاية،وكرسيَّ الحكم دائرةٌ ضيقةٌ لا تحتمل غير المسلم العدل (2)، الذي تتوفر فيه شروط أهلية تولى الحكم فلا ينبغي إذن الخلط بين أفراد المسلمين ، وبين من تولى للمسلمين ولاية .
    وثمرة هذا التفريق تظهر فيما يلي:أنّ الورع الذي نمارسه مع أفراد المسلمين في مسألة التكفير والتفسيق لا علاقة له بالتعامل مع "الحاكم" لأنّ البحث هنا لا يتعلق بشخص الحاكم كما هو الحال مع أفراد المسلمين، وإنَّما يتعلق بصلاحيته لتولي الحكم، وهذه الصلاحية منضبطة ،فقد ربطها الشرع بصفات ظاهرة .
    ثم إنّنا بهذه الحقيقة نُخرج البحث من الدائرة الضيقة التي وضعه فيها المسلمون،وهي تكفير الحاكم،إلى آفاق أرحب،وهي:مدى تحقق شروط الصلاحية التي يجب أن تتوفر في الحاكم. لقد ضيَّق الباحثون واسعاً بحصرهم القضية في تكفير الحاكم، فأضاعوا أوقاتهم في ما لا طائل تحته ، وكان بإمكانهم الانطلاق بالقضية من ضيق البحث في الشخص، إلى سعة البحث في السلطة . والبحثُ في كفر الحاكم أحد أبحاثها وليس كل أبحاثها ، فهناك:البحث في تحقق شروط أهلية الولاية في الحاكم،واستمرار هذه الشروط،وهناك تطبيق الأحكام الشرعية،والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة.....إلى غير ذلك كما سيأتي لاحقاً.ولك أن تتصور ــ أيها القارئ ــ سعة الموضوع إذا علمت أنّ من العلماء من قال: إنّ الحاكم إذا أصابه العمى أو أدركه الهرم،فإنّ ولايته تسقط ويُعزل!
    الحقيقة الثانية:

    تقودنا الحقيقة السابقة إلى الحقيقة التالية وهي: أنّ البحث في تصنيف "الحاكم" ليس بحثاً نظريا ينتهي عند إطلاق الوصف المناسب في الحاكم ويُكتفى به،ولكنّه يؤدي إلى نتيجةٍ مهمّةٍ وهي: مشروعية عزل الحاكم وتغييره.
    بمعنى أنّ البحث في موضوع السلطة عملي ،وليس بحثاً ترفياً، والذي أراه أنّه أصبح عند كثير من الناس بحثاً نظرياً،وذلك لأنّه يبدأ عند الحاكم وينتهي عنده،ولهذا فإنه لا يشحن نَفْساً،ولا يوقد ذهناً.
    إنّ البحث في هذه القضية أي السلطة ومشروعيتها والخروج عنها وعلاقتها بالأمة،بحث في مصير الأمة،ومستقبل أجيالها، وعلى الأمة أن تفقه أحكامها وتربطها بالواقع وتجاهد من أجل ممارسة حقوقها. إنّ فقه هذه المسألة من أوجب الواجبات التي يجب على المسلم التعب وبذل الوسع في سبيل تحقيقها، وإنّ أيَّ حصر للقضية في الإطار النظري تميعٌ للحقائق،وتشويه للشريعة .
    الحقيقة الثالثة:

    ما الذي جاء الإسلام لتحقيقه؟
    إنّ الهدف الأسمى الذي أرسل اللهُ سبحانه وتعالى رسولَه من أجله هو تعبيد الناس لربهم سبحانه،قال الله عزّ وجلّ:) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ([الذاريات:56] والعبادة في حقيقتها تجريدُ خضوعِ الإنسان لربه سبحانه وتعالى، وتحرير له من الخضوع والخنوع لسيطرة كل ما عدا الله تعالى،وهذه هي حقيقة " لا إله إلا الله " فهي تُخلِّص الإنسان بإيمانه بها من أسباب الذل والعبودية،عبودية الإنسان للإنسان.
    وإنّ الصراع بين الإيمان والكفر،بين الأنبياء وقوى الجاهلية،هو في حقيقته صراع على حقِّ الله سبحانه وتعالى في أن يكون آمراً ناهياً في الأرض ) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ( [ الزخرف :84]،و لا شك في أن حقيقة العبودية لله تعالى و حقيقة دعوة الأنبياء لن تتحقق إلا بسلب البشر المُتسلِّطين سيادتهم على الناس،و تجُّبرَهم بهم،وردِّ السيادة لله وحده.
    لذلك فقد أمر الشرع بإقامة دولةٍ لتحقيق هذه الغاية العظيمة.لأن مثل هذه الغاية لا تتحقق في الحياة من خلال السلوك الفرديِّ،بل تحتاج لسلطة تحمي التوحيد و تنشره،وتطبق الحدود بقوة السلطان.
    قال ابن تيمية رحمه الله: " جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله،و أن تكون كلمة الله هي العليا،فإن الله سبحانه و تعالى إنما خلق الخلق لذلك و به أنزل الكتب،وبه أرسل الرسل،وعليه جاهد الرسول و المؤمنون "(1) .
    فإذا كانت الدولة قائمة على أحكام الكفر،تحارب التوحيد،وتُعطِّل تطبيق الأحكام،انهدم البناء،وفقد الهدفُ ضمانه،ولم يبْق هناك أيُّ معنىً لأوامر الشرع،ولما جاء لتحقيقه .
    وفائدة هذه الحقيقة أن يُعلم أن أيّ نظامٍ لا يقوم على أساس الإسلام، فلا قيمة له ولا حرمة له في حكم الشرع،حتى لو كان يقبع على قِمَّة هَرَمِه أتقى الخلق وأعلمهم وأعدلهم.
    الحقيقة الرابعة:

    ليكن معلوماً أنّ هذا الواقع المُتمثِّل بتحييدِ شرع الله تبارك وتعالى،واستبداله بشرع غيره،أمرٌ لم تعهده الأمةُ من قبل، ولم يتصوره الأئمة في العصور السَّالفة،ولذلك لم يرد في كلامهم.لقد عرف تاريخنا حكاما مُتسلِّطين،فجرة،فسقة،ظالمين،لك نه لم يعرف حكومة نّحت الشريعة جانباً،واستبدلتها بشريعة أخرى.
    ولعل الحالة التي مرّت بها الأمة زمن التتار الذين فرضوا على الأمة شريعة " الياسق "(2)هي أقرب ما يكون إلى حالة الأمُة الآن لذلك فإنّ ابن تيمية ــ رحمه الله ــ أول من تكلم في مثل هذا الواقع.فقد سُئل رحمه الله عن مدينة اسمها "ماردين " أهلها مسلمون،والأحكام التي تعلوها أحكام كفر،فأفتى رحمه الله بأنّها دارٌ مركّبة،ليست دار حرب ولا دار سلم،وقرر حرمة إعانة من يقوم على مثل هذه الدار،قال:"وإعانة الخارجين عن دين الإسلام محرمة"(1).
    أما عن كيفية التعامل مع مثل هذه الدار التي تعلوها أحكام الكفر،فقد أفتى رحمه الله بقتالها حتى ترجع إلى أحكام الشريعة،قال ــ رحمه الله ــ :"كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعةٍ من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين،وملتزمين بعض شرائعه،كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة،وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم،بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما،فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنّة"(2).
    فما هي ثمرة هذه الحقيقة ؟هذا ما تبينه الحقيقتان التاليتان.ولكن قبل أن ننتقل إليهما فلنؤكد القاعدة التالية،ولتكن مستحضرة عند البحث،فأقول إنّ الكلام في هذه الحقيقة وما يليها مبني على أصلين:
    الأول : المعرفة بحال السلطة ــ اليوم ــ و واقعها.
    الثاني : معرفة حكم الله سبحانه في مثل هذا الحال.
    فإذا عرفنا هذين الأصلين،فلنفهم الحقيقة التالية:



    الحقيقة الخامسة:

    النُّصوص التي تأمر بالسمع والطاعة،وتدعو الأمة إلى الصبر على الحُكَّام إذا لا حظت بعض المخالفات،وفيما أحبَّت أو كرهت،مثل قوله e :"على المرء السمعُ والطاعةُ فيما أحبَّ أو كره ،إلا أن يؤمرَ بمعصية."(1) وقوله e:"إنكم ستلقون بعدي أثرة(2)،فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(3).
    هذه النُّصوص وأمثالها لا تتحدث عن حكومةٍ تحتكم إلى الطاغوت من دون الله، وإنما تتحدث عن حكومة تحكم بشرع الله، وتُحقِّق الواجبات الملقاة على عاتقها،لكنَّ الحاكمَ في هذه الحكومة يظلم، أو يقع في بعض المخالفات،أو يُؤْثِر نفسَهُ على الأمة ، أو يُقدِّم مصالحه على مصالحها.وفي مثل هذه الحالات تأمر الأحاديثُ الأمةَ بالصبر ، وعدمِ المبادرة إلى خلع الحاكم دون ضوابط وقيود وإجراءات معينة.
    فهل واقع الحكومات اليوم معنيٌّ .بمثل هذه الأحاديث؟
    الحقيقة السادسة :

    وهذه حقيقةُ أُخرى تتعلّقُ بما سبق،وهي أنّ واقعنا مختلف عن الواقع الذي وصفه علماءنا السابقون، وأفتَوْا فيه . ومشكلة بعض العلماء وبعض طلاب العلم أنّهم يُلحقون ذاك الواقع بواقعنا،ويتعاملون مع حكام هذه الأيام كما تعامل السّلف مع حكام زمانهم،ويُسقطون فتواهم التي وَصَفَت زمانِهم على زمانِنا .
    إنّ علماء السَّلف عندما اختلفوا في مشروعية الخروج على حكام زمانهم إنّما اختلفوا في حكام مُتلِّبسين بانحراف أو ظلم أو فسق،لكنهم على رأس حكومة تحكم بالإسلام (1)، وتخضع لأحكام الشريعة،ولا ترى أفضلية أيِّ شريعة على شريعة أخرى كما هو الحال هذه الأيام .
    فرع: وبهذا يظهرُ خطأُ من ادّعى أنَّ عقيدة السَّلف عدمُ جواز الخروج! وقد بالغ البعض في الإدعاء فنقل الإجماع!
    وهذا الإدعاء منقوضٌ من وجهين،الأول: دعوى الإجماع باطلةٌ،بل إنها تخالف ما عليه جمهور السَّلف .وإليك ما نقله ابنُ حزم ــ رحمه الله تعالى ــ عن جمهور السَّلف القائلين بوجوب الخروج على غير العدل إنْ كان أهلُ الحق في عصابة يمكنهم الدفع ،ولم ييأسوا من الظفر،أمّا إذا كانوا لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر،كانوا في سعةٍ من ترك التغير باليد.والقائلون بهذا المذهب هم: عليُّ بن أبي طالب وكلُّ مَن معه مِن الصحابة،وأمُّ المؤمنين عائشة،وطلحة،والزبير،وكلُّ من كان معهم مِن الصحابة،ومعاوية،وعمرو،وال نعمان بن بشير،وغيرهم ممن معهم من الصحابة،وعبد الله بن الزبير،ومحمد،والحسين ابنا علي،وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار،ومن قام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة كأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
    ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي ليلى،وسعيد بن جبير،وأبو البختري الطائي، وعطاء السلمي الأزدي،والحسن البصري،ومالك بن دينار ، ومسلم بن يسار ، وأبو الجوزاء ، والشَّعبي ، وعبد الله بن غالب...... وغيرهم.وقال ابن حزم:"وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة،والحسن بن حيّ، وشريك،ومالك،والشافعي،وداو د وأصحابه.فإنّ كل من ذكرنا من قديم وحديث إمّا ناطق بذلك في فتواه، وإما فاعل لذلك بسلِّ سيفه في إنكار ما رأوه منكراً"(1).
    ولقد علقت على هذا النقل في حاشية كتابي"السَّلف والسَّلفيون" فقلت:"هذا في الحاكم الفاسق أو الظالم ،ومع ذلك فأنا لست بصدد ترجيح قولٍ على قول . وإنّما أقرر قاعدة أصولية مهمة:وهي أنه ــ وبعد هذا السرد للسَّلف القائلين بجواز الخروج على الفاسق ــ لا يجوز لأحدٍ أن يدَّعيَ بأنَّ عقيدة(2)السَّلف في هذه المسألة عدم جواز الخروج.ومن ادّعى هذا فإنه مزوِّرٌ،مشوِّهٌ لعقيدة السَّلف،و"يُسِر ُّحسواً في ارتغائه" وأمّا ما قاله الطحاوي رحمه الله:"ولا نرى جواز الخروج...." فإن هذه رؤيته هو،وترجيحه هو،ورؤيته وترجيحه ليسا مُلزمَين للأمة.وعقيدة(2) الطحاوي، هي عقيدة(2)الطحاوي، يؤخذ منها ويُردُّ عليها.وخلاصة الأمر:أن الإجماع منقوض،فليخضع للبحث ــ إذن ــ للنقاش والترجيح من دون دعاوى واتِّهامات"(3)
    أما الوجه الثاني لنقض هذه الدعوى،فهو ما سبق وقررناه في هذه الحقيقة.وزيادةً في البيان أقول:على فرَض صحة دعوى الإجماع،فإنّ الاستدلال به ليس في محلَّه،لأنّ المناط غير متحقّق،فإجماعهم ــ المدّعى ــ تَمَّ على واقعٍ مختلفٍ عن واقعنا تماماً،وهذا مبنيٌ على الأصلين اللذَيْنِ ذكرتهما آنفاً
    إنَّ حكم الله سبحانه وتعالى في مثل الحال الذي نعيشه يختلف عن حكم الله سبحانه في حال "المُجمعين" الذي عاصروه.فالاستدلال بما يُسمُّونه إجماعاً ــ إذن ــ ليس صحيحاً لأنه لم يراع اختلاف الواقع.
    وجملة القول إنّ النصوص النبوية،والفتاوى العلمية أمرت بالصبر على تجاوزاتٍ ومخالفاتٍ،وليس على الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه******!
    الحقيقة السابعة:

    وهي حقيقة تاريخية مهمة في بيانها تجليةٌ لهذا الموضوع الخطير.
    إنّ فتاوى كثير من العلماء بالرضا بولاية الحكام الظلمة أو الفسقة، أو ولاية المتغلِّب أو ولاية من تولّى بعهد(1)،لم يكن قبولاً منهم لولاية هؤلاء،ولا بياناً لحكمٍ شرعي مضطرد. ولكن الذي دفعهم لمثل هذه الفتوى ،خوف الفتنة،وانتشار القتل في الأمة.فالمنع طارئ وليس بناءاً على النُّصوص .
    وحاشا الشرع الحنيف،الذي جاء ليقومَ الناسُ بالعدل،أن يرضى بولاية الفاسق أو الظالم أو المتغلِّب .
    ونحن في الحقيقة لا نستبعد أن بعض هؤلاء العلماء قد آثر السلامة فأفتى بما أفتى به.على أنّ الفتوى تظلُّ رأياً لعالم ،وليست نصاً من الله ورسولهe لذا فإنه لا حجة فيها إلا بمقدار قوة دليلها من الكتاب والسنّة.
    لقد أخذ بعض العلماء على عاتقهم مهمة التنسيق بين الحياة السياسية السائدة في عصرهم وبين الشريعة.والذي كتبه بعض العلماء عن شرعية بعض الانحرافات مثل ولاية التغلّب وولاية العهد لم يكن إلا وصفاً للواقع ، ومجاراةً له وماذا كانوا يملكون غير ذلكّ ؟!وهم يعيشون في ظلِّ حكام تحكَّموا في الأمة،إما عن طريق الغلبة والقهر ،وإمّا عن طريق الوراثة ،فاضطروا لتسويغ واقعهم السياسي السيء هروباً من المواجهة مع السلطة ،وتجنُّباً للفتنة ،"وما علموا أنّهم في الفتنة سقطوا بما رضوا من الخروج على أمر الله، وبما سكتوا عن إقامة أمر الله"(1).
    إذن ما كان ينبغي أن تتحول الفتاوى المعلّقة بظروف ، والمقترنة بزمن معَّين إلى أصل شرعي يقاس عليه. وما كان ينبغي أن تتحول فتاوى الضرورة إلى نصوص مُلزمة، تُستعمل لتسكين المسلمين عن المطالبة بالتغيير،وبحقهم في الحياة الكريمة كما صورها القرآن العظيم،ونفذها رسول اللهe .
    لقد أدى كل ذلك إلى انطباع الفقه السياسي السُّنِّي بطابع التسويغ للواقع ،والرضى به،من خلال تحميل النصوص مالا تحتمل. وإلا فما هو معنى كلام الحسن البصري رحمه الله ــ إن صحَّ عنه بالطبع ــ : "إن الحجاج عذاب الله،فلا تُدافعوا عذاب الله بأيديكم،ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع!!!،فإن الله يقول:) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ("! ألا يرسِّخ هذا الكلام الجبر في الأمة ؟ ألا يعمِّق معاني القبول بالذلِّ والظلم ؟!
    إنه الخوف من الفتنة،وسفك دماء المسلمين وهتك الحرمات!
    فكم من الدماء سُفكت ، وكم من الحرمات هُتكت، منذ أن تحول الحكم الشوري إلى الوراثة ، ومنذ أن رضي جمهور المسلمين بحكم الظالمين!؟ نعم...لقد كانت الدماء ستُسفك، ولكنها كانت ستُسفك لمرة واحدة وينتهي الأمر. أما هذا النهر المتدفق من الدماء منذ قرون فلا ندري متى سيكف عن الجريان .
    أما هذه الكرامة المسحوقة المهدورة ، فدون إعادتها أهوال وقد استمرأت الأمة الذل! فما هي ثمرة هذه الحقيقة؟.
    ثمرتها أنّ هذه الفتاوى غير مُلزِمة لنا،لأنها ليست نصوصاً ولا تعبيراً عن النصوص بمجموعها ،ولا تحقيقاً للأحكام المتعلقة بشروط تولي الحكم وبأحكام عزل الحكام،وغيرها . فهي لذلك ليست مطردة فلا نتفق مع من يسحبها على كل الأوقات ، وعلى كل الظروف، فهي من الفتاوى التي تدور مع أسبابها وجوداً وعدماً .على أننا نرى أنّ هذه الأسباب التي أدّت إلى هذه الفتاوى بحاجة إلى تحقيق وتحرير،فخوف الفتنة قضية مطاطة يمكن أن توظَّف في الحق ، ويمكن أن توظف في الباطل، كما يمكن أن تستخدم لتسويغ السلبية والجبن، أو لتخدير الأمة من قبل علماء السلطة.
    يرى الجبناءُ أنَّ العجزَ حِلْمٌ وتلك خديعةُ الطبعِ اللئيمِ
    وقد مرَّ معنا فيما نقلناه عن ابن حزم ــ رحمه الله ــ ما يؤكد أنّ مذهب جمهور السَّلف هو الخروج، وهو المذهب المتفق مع الأدلة ، المنسجم مع كليات الشريعة. ثمَّ إنّه مع تكرار فشل محاولات الخروج(1)وما ترتب عليها من دماء آثر بعض العلماء الإفتاء بعدم مشروعية الخروج.قال ابن حجر ــ رحمه الله ــ في ترجمة الحسن بن صالح ( 100ــ169 هـ) رداً على من ضعّفه لأنه كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجَوْر !:"وهذا مذهب للسلف قديم،لكن استقرَّ الأمر على ترك ذلك لمّا رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحَرَّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظَةٌ لمن تدبرّ"(1).
    والعجب بعد هذا البيان ممن يُلقِّب القائلين بجواز الخروج بالخوارج ، تشويهاً لسمعتهم،وتنفيراً عنهم . وهو فعلٌ باطل ،وقياسٌ فاسدٌ، يدلُّ إمّا على جهل، وإما على فساد طويَّة ، فليختر القائل بهذا أحلاهما إليه !!
    أمّا الخوارج في التاريخ فَهُمُ الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ،فأين هو عليّ ؟!وهذا يعني أنّهم الذين يرَوْن الخروج على الإمام الحقِّ الذي اختارته الجماعة ،فأين هو هذا الإمام؟! وهم في العقيدة الذين يكفرون بالمعصية،وليس من قيل عنهم "خوارج" كذلك .أمَّا إنْ كانوا خوارج لأنّهم يَرَوْنَ الخروج على الحاكم المتسلِّط الفاسق الظالم، فأكْرِمْ بها من تهمة ، وما الضّيْر في تَبَنِّي قول الخوارج إذا كان قولهم موافقاً للدليل ؟ فكيف إذا كان قولهم موافقاً لقول جمهور السَّلف أيضاً ؟!,.

    الحقيقة الثامنة:

    علينا أن نُفرِّق بين نظام الدولة في الإسلام كما حدّده رســـول اللهe،وبين الذي جرى في تاريخنا .فينبغي ألاّ نُحمِّل الإسلام تَبِعة ما جرى، كما ينبغي ألاّ تدْفعنا رغبتُنا في تخليص الإسلام من اللَّوم إلى الدفاع عن تاريخٍ سياسي منكر.
    إنّنا نؤكد على أنّ التاريخ ليس مصدراً للتشريع لأنّنا نرفض أنْ تُوظَّف المخالفات الدستورية، والتجاوزات السياسية، التي حصلت في التاريخ، لتسويغ الانحراف ، وتحويله إلى تنظير فقهيٍّ قانوني،بحيث يتحول الانحراف إلى تشريع .
    إنّ المرجعيَّة التي نخضع لها،ونَّتبِعها في هذا الباب، هي نفسها المرجعية التي نخضع لها في أبواب الدين جميعها ألا وهي الكتاب والسنة .
    لذلك فإنّنا نرفض أن يحتجَّ علينا أحدٌ بشرعية ولاية الحكم عن طريق الوراثة ــ مثلاً ــ بأنّها وقعت في التاريخ وسَكَتَ عنها العلماء ، بل ومَرّرها بعضهم !
    فلا في وقوعها في التاريخ دليل، ولا في سكوت العلماء عنها ،أو تمرير بعضهم لها،دليلٌ على شرعيتها. وهذا ما سيأتي بيانه بإذنه تعالى .
    وقد يفاجأ بعض القراء من بعض الحقائق المبثوثة في ثنايا هذا البحث، وقد يعدها جرأة على الإسلام، وتشنيعاً على التاريخ. ولكنّ الحقيقة غير هذا ،لأنّني أومن بأننا امتداد لما حصل في التاريخ وأثر من آثاره ،وأنّنا إذا أردنا إصلاح واقعنا فلابدّ أن ندرك الحقائق كما هي دون تزويقٍ وتلفيق ،ومبدأ العلاج الناجح تشخيصٌ دقيق .
    ولأنّني أومن بأنه لا خلاص ولا نهضة لنا إلا بالإسلام ،لذا كان لابُدَّ من هذا الطرح الذي أريد به تخليصَ الإسلام مما التصَقَ به من الممارسات الخطيرة،والانحرافات الشنيعة .
    وبما أقدمه في هذه الحقيقة هو الفصل بين فقه الإسلام السياسي الذي شرعه الله تعالى وبين ما أُلْبِسَ للإسلام من ممارسات في التاريخ السياسي للأمة .
    إنّ ما أكتبه ليس ترفاً !، بل هو نتيجة الإحساس بالواقع ، والتفاعل معه،وهو تصويبٌ لمفهومات باتت تنتشر بين طلاب العلم فضلاً عن العوام.فكيف لن أن نسكت عن بيان الحقائق، وقد سمعنا أنّ بعض من ينتسب إلى العلم في إحدى عواصم هذا العالم الإسلامي يُفضِّل حال بعض الأنظمة على حال الدولة العباسيةّ!.
    يقول ذلك إقناعاً للناس كي يَرْضَوْا بالواقع .
    وأنا أقول: فليكن، فليكن حال بعض الأنظمة أفضل من حال الدولة العباسية ! فماذا إذن ؟ وكان ماذا؟ وما علاقة ذلك بالإسلام الذي يطالِب به المسلمون؟ وهل إذا كانت الدولة العباسية،أو الدولة الأموية ظالمتَيْن ،فهل يعني هذا أنّ الظلم مقبول أو شرعيّ؟ وهل يعني هذا ألاّ يسعى المسلمون لإعادة دولة الإسلام كما رسمها رسول الله e وسار عليها الخلفاء الراشدون؟**! ثم لماذا تكون المقارنة على هذا النحو ؟ ولماذا لا تكون هكذا :إنّ الانحراف الموجود في أنظمة العصر مرفوضٌ في الإسلام ،كما أنّ انحراف الدولتين الأموية والعباسية مرفوض.
    أرأيتم ..... أنني بهذه الحقيقة، وبما سيأتي أحافظ على جناب الفقه السياسي الإسلامي من تحريف المبطلين ،وتزوير الغاوين .
    إننا لا نتعصب إلاّ للإسلام كما جاء به محمد e ،أما التاريخ الإسلامي فهو سلوك البشر باتجاه الإسلام أو بعكس اتجاهه .لهذا فإنّنا نرفض أيّ محاولة لتزوير الإسلام عن طريق التاريخ لأنّ التاريخ غير معصوم ولا مُقدَّس.
    إنّنا نطالب بالإسلام، فإن وافق التاريخُ الإسلامَ فَبِها ونعمت لأنه سيُشكِّل عندها لنا تجربة ثريَّة ومرجعاً تطبيقياً .وإنْ نُبَرِّرْه،وأقْبَلْنا على الإسلام نأخذ منه دون أدنى اعتبارٍ للتاريخ (1).
    الحقيقة التاسعة:

    وآخر هذه الحقائق ،هي أنّ كلامنا في هذا البحث عن مشروعية الخروج، وعن بعض الأحكام المتعلِّقة بالسلطة ،لا عن إمكانية الخروج فإنّ الحكم بمشروعية عَزْلِ الحاكم إنْ فَقَد بعضَ شروطِ أهليَّته لِتولِّي الحكم ، لا يعني الحكم بمباشرة الخروج فوراً ، فهذا بحثٌ آخر يتعلق بإمكانية الخروج،من حيث ُ الاستطاعة والاستعداد ، ومن حيثُ مراعاة التوقيت المناسب .


    يتبع بإذن الله


    (1) المقتصد: هو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً،قال تعالى:) ...فمنهم ظالم لنفسه،ومنهم مقتصد،ومنهم سابق بالخيرات( [فاطر:32]

    (2) العَدْلُ: هو المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة. والعدالة ترجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل ملازمة التقوى.

    (1) الفتاوى 28/61 .

    (2) هو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها ــ يعني جنكيز خان ــ عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها،وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه،فصارت في بنيه شرعاً متبعاً،يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسولهe " تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى) أفحكم الجاهلية يبغون....( [المائدة:50]

    (1) انظر الفتاوى28/240.

    (2) الفتاوى28/502.

    (1) رواه أحمد 2/142عن ابن عمر بسند صحيح.

    (2) الأَثََرَة: أن يفضِّل الإنسان نفسه على الآخرين،فينفرد بما يشترك به معهم.

    (3) متفق عليه،رواه البخاري في المغازي /باب 56ح4330،والفتن/باب2/ح7057 وغيرهما،ورواه مسلم/الزكاة/ح 132ورواه غيرهما.

    (1) لا أُهَوَّنُ من شأن هذه المخالفات،ولا أحكم بجواز بقاء الظالم المنحرف الفاسق حاكماً على المسلمين،بل أسوق هذا الكلام على سبيل التنزُّل للمخالف الذي يقيس حالاً بحال مع افتراق الحالين ليُلزمنا بفتوى السابقين مع أنها لا تلزمنا.كما أننا لا نتفق مع فتاوى السابقين من غير تفصيل، ولا نرى شرعيتها حتى لو قلنا بمشابهة حالنا مع حال السابقين.وسيأتي بيان ذلك.

    (1) "الفصل في الملل والأهواء والنحل"للإمام محمد ابن حزم رحمه الله (ت 456هـ):5/19-28.

    (2) كذا قلت،وهذا الموضوع ليس من العقائد ،بل من الأحكام الشرعية .فالتعبير عنه "بالعقيدة" خطأ.

    (3) "السلف والسَّلفيون رؤية من الداخل" الحاشية/50.





    (1) المقصود بهذا الذي يحكم بتوصية ،ملزمة طبعاً،من الحاكم السابق،ولا شكل لها في هذه الأعصار في بلاد المسلمين إلا الوراثة.

    (1) الإسلام وأوضاعنا السياسية: 170 .

    (1) لا بأس من التأكيد على أنّ هذا الخلاف محصورٌ في الخروج على الحكام الظلمة الفسقة، أما الخروج على الكفرة فمتفق على وجوبه.

    (1) تهذيب التهذيب 2/250.

    (1) ومع ذلك فإننا نقول إنّ التاريخ الإسلامي اشتمل على أرقى حضارة عرفها الناس.

  3. #3

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    أحسن الله إليك أخي

    هل من رابط للكتاب كاملا...

  4. #4

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رجل من المسلمين مشاهدة المشاركة
    أحسن الله إليك أخي

    هل من رابط للكتاب كاملا...
    لا أعلم رابطا للكتاب لكن عموما لو ترسل لي بريدك الالكتروني على الخاص أرسل لك الكتاب.

  5. #5

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    " المنهج الصحيح في تناول المسألة "

    1-تناول المسلمون،ولا زالوا،المسألة تناولاً خاطئاً،أدّى إلى ترسيخ مفهومات خطيرة في وجدان الأمة،وإلى جهلها بحقوقها،وموقفها من السلطة.ولقد تمثّل هذا التناول الخاطئ في جوانب متعددة.والسبب في ذلك أننا نُغلَّب أثناء درستنا للأمور قضيةً على حساب قضايا أخرى.وفي ظنِّي أنّ المسألة لو دُرِست بشمول مراعيةً جميع القضايا لَما وقع اللّبس في إدراكها، ولما كثر النزاع حولها.
    أما الجوانب التي تمثّل فيها التناول الخاطئ فهي:
    أولاً:حصر المسألة في شخص الحاكم، والبحث في إسلامه وكفره.
    ثانيا: حصر المسألة في طبيعة الأنظمة،هل هي إسلامية،أم كفرية.
    ثالثاً:إغفال ثمرة البحث في التكفير،سواء تكفير الأنظمة أم تكفير الحاكم
    مما جعل البحث بلا غاية.وصار النقاش ينتهي عند اقتناع أحد الطرفين برأي الآخر،وإلاّ فقاموس الشتائم،وجدول الألقاب جاهزان، فهذا خوارج وذاك مرجئة. وبهذا تحولت المعركة إلى صراع بين المسلمين أنفسهم،ونسو الهدف الأساس للبحث، وهو البحث في شرعيَّة السلطة، وما يترتب عليه من كفٍّ ليد الطاعة،وخروج على السلطة.
    هذه بعض الجوانب،وسيلحق التعليق عليها بعد قليل،وهناك جوانب أخرى سأشير إليها في ثنايا البحث.
    أما الجانب الأهم،والذي كان أحد أهم الدوافع لهذه الدراسة، وهو أحد فكرتين رئيستين في الدراسة فهو:
    أنّ بحث هذه المسألة ما كان ينبغي أن يبدأ بمشروعية الخروج على السلطة وعزلها،بل كان ينبغي أن يبدأ بمشروعية هذه السلطة،بمعنى:هل وصلت هذه السلطة إلى الحكم بالطريق الصحيح ؟ ولا طريق صحيح إلاّ الاختيار والبيعة،وهل كانت البيعة على تحكيم الشرع....،فإن كان كذلك فالسلطة شرعيّة،والبحث في علاقة الأمة معها ، من طاعة ونصرة ، ومشروعية الخروج وعدمه، بحث شرعيّ صحيح.
    أمّا إنْ كان غير ذلك،كأن تأتي السلطة بالقهر والغصب ــ أي عن طريق الانقلابات ــ ،أو بالوراثة،فالنقا ش عندها في مشروعية الخروج، ونزع يد الطاعة ،نقاش فارغ.
    إنّ النقاش الحادّ الذي يدور بين المسلمين حول شرعية الخروج، نقاش لا داعي له ، ولو استحضر المسلمون هذا المبدأ المهم لأراحوا واستراحوا ، ولبدؤوا من حيث يجب أن يبدؤوا ، ولتحولت دراستهم من البحث في مشروعية الخروج إلى البحث عن إمكانية الخروج والتغيير ، وطرقها ووسائلها.
    إنّ النظام الذي جاء على ظهر دبابة لا حرمة له ، وإن النظام الذي يستمر من على ظهر دبابة لا شرعية له.وإنّ من السخف أن نتناقش، ونتحدَّ من أجل هكذا أنظمة.ولو دُرست المسألة بصورة صحيحة من هذه الزاوية لَوَفّرنا على أنفسنا كثيراً من الجهد والوقت،ولَفَهِم ْنا الماضي، ولأدركنا الواقع،ولَخَطَّ طْنا للمستقبل الذي نُريد.
    2- ثمّ إنّ حصر القضية في شخص الحاكم خطأٌ فاحش،أدّى إلى تقزيم المهمّات بل وإهمالها .
    ولقد فهم الحكام اللعبة،فصاروا يُظهرون التقوى ،أو على الأصح صاروا لا يجاهرون بالكفر(1)،فضحكوا بذلك على "ذقن" الأمة واستخفوا بها ،ولقد كانت الأمة عند حُسن ظنِّ الحكام بها !!! فلازالت منذ قرون تنتظر إعلان الحاكم كفرَه بالمِلَّة والدين ،والنُّبوةِ واليومِ الآخر ،معترفاً أنّ إعلانه هذا خارج من قلبه(2)،مشهداً الله ــ الذي لا يؤمن به ــ على ذلك!
    3- ومن الخطأ أيضاً حصر المسألة في كفر الأنظمة ،أي القوانين، وإن كان هذا المعيار من المعايير الصحيحة القوية التي بنينا عليها هذه الدراسة كما سيأتي في شرح حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
    ولكننا نرفض تضييق البحث في معيار واحد بحيث نُغفل المعايير الأخرى ومن المعايير الأخرى التي ينبغي أن تُبحث ، والتي قلما رأيتُ من أشار إليها ،حقوقنا التي كفلتها لنا الشريعة:
    فمن حقنا أنْ يَحْكُمَ الإسلام حياتنا.
    ومن حقِّنا أنْ نحيا حياة كريمة عزيزة.
    ومن حقِّنا أنْ نُحاسِب حكامَنا .
    ومن حقِّنا أنْ نُغيِّرهم إذا طَغَوْا وظَلَمُوا.
    ومن حقِّنا أنْ نُغيِّرهم إذا قصَّروا أو بدّلوا .
    ويجب على الأمة أن تراقب الحاكم، ويجب على الحاكم أنْ يقبل الرقابة،فلا ينبغي في شرع الله أن يكون الحاكمُ فوق المسألة.
    وحقوق الأمة يجب أن تكون في يد أمينة،لا أن تخضع لرغبة الحاكم، إنْ شاء مَنَحَها ،وإنْ شاء مَنَعَها ،وإنْ شاء قنَّنها !
    لقد آن لنا أن ننظر للمسألة من خلال حقوقنا ،وشعورنا بالآدمية، فلا أدري كيف ترضى الأمة أن تعيش مسلوبة الحقوق بلا قيمة ولا كرامة،فالإسلام كرّمنا ،وحرّرنا بالتوحيد من ربقة العبودية،فإنّه" ا انتشر التوحيد في أمّة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر"(1).
    ويجب على الأمة أن تدرك"أنّ المستكبرين في الأرض يمنعون الناس من التعرف على الله تعالى،وعبادته لأنّهم بذلك يُبصرون الحقّ والباطلَ ،وتتفتح عقولهم على ظلم الاستكبار ومخازيه،ويتولد عندهم الوعي بالحقوق الإنسانية التي وهبها الله تعالى لعباده ،فيرفضون الظلم والطغيان والعدوان على حقوق الإنسان"(2).
    وخلاصة البحث: أنّ المنهج الصحيح في بحث المسألة يبدأ بعرض التساؤل التالي: هل السلطة التي يُبحث في شرعية الخروج عليها وعزلها شرعيّة ؟.
    هل اختارتها الأمة،وبايعتها على العمل بالكتاب والسنة،وعلى القيام بالواجبات المنوطة بها على أكمل وجه؟
    فإن لم تكن كذلك فإنّها ليست قانونية، ولا داعي للبحث في مشروعية الخروج عليها ، لأنها في هذه الحالة كأنّها غير موجودة.
    وإنّني أقرر هنا ــ قبل أنْ أُنهي هذا الفصل ــ بأنّ الحاكمَ لو كان أبا بكر الصديق رضي الله عنه،لكنه لا يحكم بالإسلام لوجب عزْلُه وتغيره!
    وليس هذا فحسب ،بل لو كان أبو بكر رضي الله عنه حاكماً، وبالإسلام ،لكنه ظالم متجبِّر،يسلب الأمة حقوقها، لكان حكمه باطلاً ، ولوجب عزله!
    وأكثر من ذلك،فلو كان أبو بكر رضي الله عنه حاكماً،وبالإسلا م، وبالعدل والقسط،والرفق بالرعية،لكنه مقصِّر بواجباته من قدرة على حماية الأمّة والدولة ،إلى غير ذلك من الواجبات ــ التي سنعرفها في فصل لاحق ــ لوجب عزله !
    هذا هو حكم الله سبحانه،وهذه هي شريعة الإسلام،فدع عنك ما يقوله طابور التسويغ والترقيع !والله المستعان،وهو حسبنا ونعم الوكيل.


    (1) لا بد من التنبيه على ما يلي: أنّ قضايا الكفر انحسرت في وجدان الأمة في قضايا محددة ،ومع أنّ كثيراً من الكفريات تصدر عن بعض الحكام ،إلاّ أنّ الأمة لا ترى كفراً إلاّ أنْ يصرح الحاكم بإنكار اليوم الآخر ــ مثلاً ــ أو بأن يهين المصحف على أعين الملأ !

    (2) لأنّ بعضَهم يشترط أن يكون هذا الإعلان جحوداً من أعماق قلبه !

    (1) "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" ص:55.

    (2) "قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي " 1/87.

  6. #6

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    " شرح حديث عبادة بن الصامت"

    "رضي الله عنه"
    1- حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أصل في هذا الباب، فهو من أهم الأحاديث التي اعتُمد عليها في توضيح العلاقة بين الأمة والسلطة.
    وقد ذكرت سابقاً أنّ الخطأ الذي وقع فيه كثير من الباحثين تعليقهم طاعة الأمة للحاكم على كفره ، وكان ممّا اعتمدوا عليه في هذا القول هذا الحديث.
    من هنا كان من اللازم دراسة الحديث دراسة حديثية فقهية، وأعني بالحديثية جمع كل ما يتعلق بمحلِّ الشاهد من روايات الحديث، فقد يكون في روايةٍ ما بيان زائد يُزيل إشكالات كثيرة ،وهذا هو المنهج السليم في دراسة الأحاديث حتى تكون الأحكام شاملة ودقيقة.
    أمّا الدراسة الفقهية،فأعني بها فهم الحديث فهماً سليماً من خلال ما يفيده النَّصُّ المدروس لا من خلال المقررات السابقة.
    وقبل كلِّ شيء نذكر روايات الحديث، ثم نتكلم عن فقهه.
    سنعتمد على رواية نجعلها الرواية الأُمّ، ثم سنقتصر على ذكر محلِّ الشاهد الزائد على الرواية الأُمّ من الروايات الأخرى .
    فعن جنادة بن أبي أمية قال:" دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا :أصلحك الله،حدِّث بحديث ينفعك الله به سمـــعته من النبي e ،قال:دعانا النبي e فبايعناه،فقال فيما أخذ علينا أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطِنا ومكرهِنا ،وعُسرنا ويُسرنا وأَثَرة علينا ،وأنْ لا ننازع الأمر أهله إلا أنْ تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "(1).
    تشترك الروايات الأخــــــرى مـــع هــــذه الـــرواية فــي أغــلب ألفاظ الحديث، ولا خلاف يُذكر بينها إلا بألفاظ لا أثر لها في الحكم.والمقطع الأخير من الحديث هو الذي اشتمل على زيادات مهمّة في الروايات الأخرى وفيه محلُّ الشاهد .
    فعند أحمد قال: "ما لم يأمرك بإثم بواحاً "(2).
    وعند ابن حبان: "إلاّ أن يكون معصية"(3).
    وعنده أيضا :" إلا أن تكون معصيةً لله بواحا"(4).
    هذه هي الزيادة المهمّة للروايات الأخرى.
    فإذا أتينا إلى فقه الحديث ، فالكلام عنه من وجهين :
    الأول: معرفة المقصود من الحديث.
    الثاني: مدى انطباق الحديث على واقعنا .
    2- "معرفة المقصود من الحديث"

    أ - موضوع الحديث: يُحدِّد الحديث ضوابط طاعة الأمّة للسلطة،متى تلتزم الطاعة،ومتى يحق لها، بل يجب عليها منازعة السلطة، أي تغيرها.
    فالأمـــة مُلزَمة بالطاعة في كلِّ الأحوال ــ مادامت الطاعة بالمعروف ـــ والطاعة هنا تعبير عن التزام الأمة بقرارات السلطة وتنظيماتها المختلفة لشؤون الحياة جميعها ،وهذا الالتزام ليس متروكاً لأمزجة الناس ، يطيعون في السراء ويعصون في الضراء،يلتزمون النظام إذا وافق مصالحهم،فإذا خالفها حاصوا وخالفوا .وهذا هو معنى " وأَثَرة علينا "إذ ليس المقصود وجوبَ طاعتهم للسلطة حتى لو منعهم حقهم ــ أي استأثرت عليهم بالحقوق ظلماً لهم ــ وحَسْب ، بـــل أرى ــ والله أعلم ــ أنّ المعنى الأدق هنا ــ المنسجم مع أوامر الإسلام بعدم الرضى بالظلم ــ هو وجوب الطاعة والالتزام بالنظام حتى لو رأينا بأنّ هذه الطاعة ستكون على حسب حقوقنا ، فإنّ الذي يُقدِّر ذلك السلطة،ولو تُرك الأمر للرعية لحاك كل واحد منها النظامَ على قياسه، ولعدَّ كلَّ ما يخالف "قياسه" ظلماً وتعدياً، وعندئذ يصبح الأمر فوضى . وهذا الفهم متفق مع قوله e "في منشطِنا ومكرهِنا وعسرنا ويسرنا ......" فالنبي e يُعدِّد حالات الإنسان عند استقباله الأوامر ، فقد يكون نشِطاً ، كما يمكن أن يكون كسولاً، وقد يكون راضياً ، كما يمكن أن يكون كارهاً ، وهو في كلِّ هذه الحالات عليه أن يسمع ويطيع. ثمَّ هناك حالة أخرى "وأَثَرة علينا" أي فيما يَعتقد أنّه على حساب حقوقه من الأوامر .
    خلاصة هذه الحالة: وجوب طاعة السلطة، حتى مع اختلافنا معها في الاجتهاد "وأثرة علينا" أو في التوقيت "منشطِنا ومكرهِنا" .وهذا هو الأصل في علاقة الأمة مع السلطة.



    3- الكلام على بعض ألفاظ الحديث:

    - "أن لا ننازع الأمر أهله" فسرَّ العلماء "الأمر" هنا بالإمارة ، فيكون المعنى : أن لا ننازع الحاكمَ الحُكمْ.وهذا ــ في نظري تفسير ضيِّق "للأمر".والصوا أن نقول ــ والله أعلم ــ إنّ "الأمر" هو السلطة، بمفهومها الشامل، أي المؤسسة الحاكمة ، والحاكم جزء من هذه المؤسسة .
    - "إلا أن ترو كفراً بواحاً"أو"ما لم يأمروك بإثم بواحاً"أو"إلا أن يكون معصية"أو"إلاّ أن تكون معصية لله بواحاً".
    "تروا"وليس تسمعوا ،أو تعلموا،أو تتيقنوا !
    وكيف يُرى الكفر ؟
    إذا كـــــــان الكفر جحود القلب ،فإنّه لا يُرى ، فهل أمرنا رسول الله e برؤية شيء لا يُرى ؟! فلا شك ــ إذن ــ أنه علّق الأمر على رؤية آثار الكفر من أقوالٍ أو أفعال. فإذا طَلب منا " رؤية" آثار الكفر ،ولم يطَلب منا "علم" الكفر، علمنا أنّه يقصد المعاصي بغض النظر عن المقاصد، ومادام لم يطلب منا أن "نتيقن" بل طلب منا"رؤية" علمنا أنّ "رؤية"المعصية"بو حاً" أي ظاهرةً باديةً تُوجِب علينا منازعةَ الأمرِ أهلَه.
    وكل هذا نقوله استنباطاً،فإذا كانت الروايات الأخرى قد نصَّت على وجوب المنازعة عند المعصية، أو عند الأمر بالإثم،قطعنا بأنّ المقصود بالكفر الوارد في الرواية الأولى:المعصية، ما بقي لقائل قول،ولينقطع الجدال.
    -قول الرسول e "وأن لا ننازع الأمرَ أهلَه،إلا أن تروا...." معناه: في حالة عدم رؤيتكم للمعصية الظاهرة، تحرُم عليكم المنازعة،فإذا رأيتموها وجبت عليكم المنازعة.فهذا أمر من الرسولeبالمنازعة عند رؤية المعصية الظاهرة.
    - قولهe:"عندكم من الله فيه برهان" يعني:أنْ تكون المعصية ثابتةً بآيةٍ أو خبرٍ صحيح،ولا تحتمل التأويل، أما إنْ كان قولُ السلطة أو فعلُها يحتمل التأويل فلا يجوز ــ عندها ــ الخروج عليها.
    4-تحليل الحديث:

    أ-لا نشك بأن ّالنبيeيتكلم في هذا الحديث عن كيفية علاقة الأمّة بالحاكم الذي وصل إلى الحكم بطريق شرعيًّ، فالذي وصل بغيره ليس محلاً للبحث.
    ونحن عندما نقول :حاكم،فلا نعني شخص الحاكم،بل نعني مؤسسة الحكم والتي تتكوَّن من:1-الحاكم بذاته 2-من دونه من أركان النظام 3-الأنظمة،وهي مجموعة المبادئ والقوانين والقيم التي تحكُم الأمة.وهنا ما نعتقد أنّ الرسولeعناه في هذا الحديث.
    إذن،مقصود الحديث سلطة قانونية أولاً،ومؤسسة حاكمة وليس حاكمًا،ثانياً.
    ب-ومن حقِّ هذه السلطة " القانونية " على الأمة الطاعة حتى لو اختلف معها الأمّةُ بالاجتهادات،أو برغبتها وموافقتها.وحتى لو استأثر الحاكم على الأمة بشي من حقوقها،عند من يقول بأن معنى"وأثرة علينا"هنا امتناع الحاكم عن إيصال حقوقها إليها،وتقدميه نفسه عليها(1).
    ومن الطبيعي أن الشريعة تقدِّر أنّ الحاكم الشرعيَّ الذي وصل إلى الحكم بعقد صحيح مُنتدباً من الأمة،بشر وليس ملاكاً ،قد يعتريه ما يعتري البشر مّمن هم في مثل موقعه،من ضعفٍ أمام المنصب قد يؤدي إلى بعض التجاوزات في حقِّ البيعة ولذلك فإنها لا تُطالَب بالمبادرة إلى تنحيته سراعاً ، بل تُطالِب بنصحه وأمره ونهيه،مع بقاء الطاعة على ما هي عليه . وهذا أمر معلوم من النصوص الأخرى ،ومن طبيعة الحياة، ومفهومٌ من النَّصِّ الذي بين أيدينا .
    جـ - أمّا إنْ رأت الأمة المعصية البواح التي لا يختلف اثنان على أنّها معصية ، فلا سمع ولا طاعة.وهذا هو المقطع الأخير من الحديث الذي يتضمن أمر الرسولeفي منازعة الأمرِ أهلَه عند رؤية المعصية، وهو موطنٌ يحتاج بياناً ،خاصةً أنّه فُهم بشكل خاطئ استُخدم في تسكين المسلمين،وتشويه مفهوماتهم .وهذا نتيجة اتباع المنهج "الذَّرِيِّ" في دراسة النُّصوص،وتناول المسائل.فقد تمَّ التركيز على رواية "إلاّ أن ترو كفراً بواحاً"وأُهمِلت الروايات الأخرى .إضافةً إلى حصر مصدر " الكفر" في شخص الحاكم ! وكأنّ الحُكم في أذهاننا لا يعني غير الحاكم! وهذا ــ في الحقيقة ــ هو واقعنا منذ قرون ، فلا مؤسسة للحكم ولا دستورية، وإنّما حاكم بأمره مُتنفِّذ ، والأمة تدور في فلكه،وتخضع لهواه!
    أمّا إذا اعتمدنا المنهج الشموليَّ في دراسة النصوص ،فسنجد أنّ "الكفر" أحد القيود التي يترتب على وجودها وجوب المنازعة ، وسنجد" المعصية" قيداً،"والأمر بالإثم" قيداً ثالثاً.فهل هناك تعارض بينها؟
    كذا ظنّ البعض فحاول الجمع بحمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية ،فلا يُنازع بما يَقْدحُ في الولاية،إلاّ إذا ارتكب َ الكفرَ ، وبحمل رواية "المعصية" على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية،فإذا لم يقدح في الولاية نازعه (1).ولا أجد داعياً لهذا التفصيل الذي لا دليل عليه من الحديث ، والذي لا يخلو من تكلُّف في الجمع.
    والحقيقة أنّ الأمر لا يخلو من أحد احتمالين: أولهما: أنّ الصحابي روى الحديث أكثر من مرة، وذكر ما فهمه عن رسول الله e بأكثر من لفظ : "الكفر"و"المعصية" و"الإثم".
    ثانيهما:أنْ يكون الرواة عن الصحابي تصرفوا بالمقصود فرووا النَّصَّ بالمعنى الذي فهموهُ عن الصحابي،وكلا الاحتمالين يؤدي إلى نفس النتيجة،وهي أنّ الكفر هو المعصية والإثم .ويؤيد هذا أن الكفر ورد في بعض النصوص وأريد به المعصية. ويؤيد هذا ــ أيضاً ــ ما قاله عبادة لأبي هريرة رضي الله عنهما ــ في حضرة معاوية على ما يبدو ــ مُستدلاً بالحديث بما يدعم ما ذهبنا إليه ،فقد روى الإمامُ أحمد رحمه الله من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم حدثني إسماعيل بن عبيد الأنصاري فذكر الحديث(2)،فقال عبادةُ لأبي هريرة:"يا أبا هريرة إنّك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله e إنّ بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في اليُسر والعسر،وعلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وعلى أنْ نقول في الله تبارك وتعالى ولا نخاف لومة لائم فيه، وعلى أن ننصر النبي e إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ،ولنا الجنة،فهذه بيعة رسول الله e التي بايعنا عليها، فمن نـــــــــكث فإنّما ينكث على نفسه،ومن أوفْى بما بايع عليه رسول الله e ،وفّى الله تبارك وتعالى بما بايع عليه نبيه e .
    فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان أنَّ عبادة بن الصــــامت قد أفسد(1) عليَّ الشام وأهله ،فإمّا تَكُنَّ إليك عبادة وإمّا أُخلي بينه وبين الشام ، فكتب إليه أن رَحِّل عبادة حتى ترجعه إلى داره في المدينة. فبعث بعبادة حتى قَدِم المدينة،فدخل على عثمان في الدار وليس في الدار غير رجل من السابقين،أو من التابعين قد أدرك القوم .فلم يفجأ عثمان إلا وهو قاعد في جنب الدار، فالتفت إليه ، فقال: يا عبادة بن الصامت مالنا ولك؟ فقام عبادة بين ظَهْرَي الناس، فقال:سمعت رسولَ الله e أبا القاسم محمداً e يقول:"إنه سيلي أمورَكم بعدي رجالٌ يُعرِّفُونكم ما تُنكِرون ،ويُنكرون عليكم ما تَعرِفون ،فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى ،فلا تَعْتلُّوا (2)بربكم"(3).
    وقفات مع الحديث:

    1- فكرتُ مليَّاً بالذي قاله أبو هريرة رضي الله عنه، حتى قال له عبادة رضي الله عنه ما قاله.
    فالحديث لم يُبيِّن لنا السبب،فقد اختُصر من القصة قولُ أبي هريرة رضي الله عنه.
    ثُمَّ إنّي وجدتُ بعد البحث أنّ أبا هريرة رضي الله عنه كان يروي الحديث هكذا:"عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك،ومنشطك ومكرهك،وأَثَرة عليك"(1).أي أنّه كان يروي المقطع الذي يتعلق بالطاعة المطلقة،دون ذكر للمقطع الثاني الذي يُقيِّد هذه الطاعة : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وبالقول في الله تبارك وتعالى دون خوفٍ من لومة لائم ، وعدم طاعة من يُعرِّفُوننا ما نُنْكِر ، ويُنْكِرون علينا ما نَعرِفْ.
    2- يظهر من النَّصِّ أنّ عبادة رضي الله عنه اعترض على رواية أبي هريرة رضي الله عنه .
    3- يبدوا أن المناقشة بين عبادة وأبي هريرة رضي الله عنهما تمّت في حضرة معاوية(2).
    4- فإذا جئنا بعد هذه المقدمات لتمثيل ما حصل من خلال تعبئة الفراغات ، لَخَرجَتِ الصور كما يلي:
    كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه يعيش في الشام أثناء إمارة معاوية عليها في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.بدأ عبادة رضي الله عنه يلاحظ وقوع مخالفات شرعية من معاوية،فقام بما بايع عليه رسولَ الله e من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وقول الحق ، والامتناع عن الطاعة .
    وفي ذلك الأثناء كان أبو هريرة رضي الله عنه يروي حديث البيعة ــ التي حضرها عبادة ــ ناقصاً ! لماذا؟ لا أعرف،قد يكون هكذا سمعه، وقد يكون قصد ذكرَه ناقصا لغاية في نفسه !
    ثم إنّه اجتمع عبادة وأبو هريرة رضي الله عنهما في مجلس معاوية، يبدو أنّ معاوية جمعهما ،ويبدو أنّ معاوية كان مستاءاً من إنكار عبادة رضي الله عنه عليه،فحاول إقناعه بالكفِّ عن الإنكار،ويبدو أنّ من ضمن الوسائل التي استخدمها للإقناع ،حديث البيعة كما يرويه أبو هريرة ، مستعينا بأبي هريرة نفسه حيث حاول أبو هريرة رضي الله عنـــــه ــ كما يبدو ــ إقناع عبادة بالكفِّ،وروى له الحديث . وبما أنّ عبادة رضي الله عنه كان حاضراً البيعة ، فهو أدرى بالرواية كلِّها ،وأدرى بفقهها . لذلك كان ردُّه على أبي هريرة رضي الله عنه حاسماً مسكتاً :"يا أبا هريرة إنّك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله e ...".
    ولما لم يُجْدِ الإقناع مع عبادة،أرسل معاويةُ إلى عثمان رضي الله عنه لِيَكُنَّ إليه عبادة....وهكذا كان.
    5- ما مضى استطراد اقتضاه الحال ونعود إلى محلِّ الشاهد من إيراد هذا الحديث .
    فقد استدلَّ عبادة رضي الله عنه بحديث البيعة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،الذي قد يقتضي مواجهة مع السُّلْطة أو شيئاً منها، إضافة إلى أنّ فعل عبادة في الشام ،وكلامه لعثمان رضي الله عنه تطبيق عملي للحديث يؤيد ما ذهبنا إليه.
    6- الحديث الذي ذكره عبادة بين ظَهْرَي الناس بعد أنْ عاتبه عثمان ابن عفان رضي الله عنهما وهو قوله e :"إنّه سيلي أموركم بعدي رجال يُعرِّفُونكم ما تُنْكِرون ،ويُنكرون عليكم ما تعرفون،فلا طاعة بمن عصى الله تبارك وتعالى ،فلا تَعتَلُّوا بربكم ".(1)
    هذا الحديث صريح في بيان المراد بالكفر في حديث البيعة من راوِ حديث البيعة ،فعبادة رضي الله عنه يرى وجوب عدم طاعة من عَرَّفَنَا ما نُنكر ،وأنكر علينا ما نَعرِف ،وسمَّى ذلك معصيةً لله تبارك وتعالى .وهذا دليل على أنّ المراد بالكفر: المعصية.ولا يخفى على ذي لُبٍّ أنّ الكفر داخل دخولاً أوليَّاً في مقصود الحديث.
    وهذا الفهم موافق لطبائع البشر،ولعلاقاته م بعضهم مع بعض، منسجم مع وقائع الحياة،لأنّه يربط الطاعة وعدمها بقرينةٍ ظاهرة منضبطة، لا يمكن الاختلاف عليها، بعكس الكفر الذي قد يحتاج لحفريات للتنقيب عنه(1)!
    ولعلِّي لا أتجنّى على الحقِّ إذا قلت: إنّ النبي e إدراكاً منه لأساليب المنافقين ،جعل المعصية والأمر بالإثم مَناط الخروج على الحاكم ،وليس الكفر ،لأنه e يعرف أنه ليس من المعقول أن يُصرِّح حاكم ما في بيئةٍ إسلاميةِ بالكفر،ويعرف e أنّ قوماً سيشاغبون فيشترطون التصريح بالكفر من الحاكم!
    وأمّا بالنسبة لمصدر المعصية ،فهذا خطأ شنيع آخر وقع فيه بعضُ العلماء ،وبعضُ الحركات الإسلامية،حيث قَصَرُوا مصدر المعصية بشخص الحاكم،مع أنَّ الحديث لا دلالة فيه على هذا التحديد بل هو عام " إلا أنْ ترو كفراً بواحًا " ،" إلاّ أن يكون معصيةً"،"إلا أن تكون معصية لله بواحاً" ،" ما لم يأمروك بإثم بواحاً" ،هكذا مطلقاً ،معصيةً بواحاً،في الدستور،في الأنظمة،في الممارسات ، في السياسة الخارجية ، في علاقة السلطة مع الأمة،في حال الحكم،باختصار"م صية بواحاً" تعني أيَّ مخالفةٍ لأحكام الإسلام .
    وبناءً عليه، يكون الضابط واضحاً منضبطاً ، لا ينبغي أن يكون محلَّ خلاف فإذا رأى المسلمون المعصية وإذا أُمِروا بالإثم وجب عليهم منازعة الأمرِ أهلَه.
    وفي الحديث فائدة نفيسة ،لا بأس من التنبيه عليها زيادة في البيان: ــ إنّ الأمة لا تنزِع يدَ الطاعة عند صدور أيِّ معصيةٍ من الحاكم،أو وجودها في الأنظمة ،فهذا أمرٌ متوقَّع من البشر.
    ولكن الشرط في المعصية:
    أولا: أنْ تظهرَ المعصيةُ وتنتشر ويُجاهَرَ بها ، بمعنى أنْ تصبحَ ظاهرةً اجتماعية لا أمراً استثنائياً متوقَّعاً محتَملاً من البشر....... وهذا هو معنى "المعصية البواح" .
    ثانيا: أن يكون الانتشار والمجاهرة نتيجةَ سياسةٍ مقصودة،تتبنى المنكرَ وَتَسْعَى لنشره.وليس هذا فحسب ،بل أنْ تسعى السلطة من خلال أجهزتها المختلفة إلى قلب المعايير ونَكْسِ الموازين ،فتدلِّس على الأمة، وتريها المعروف منكراً والمنكر معروفاً . وهذا هو معنى "يُعرِّفونكم ما تُنكرون،ويُنكرو ن عليكم ما تعرفون".
    وقد استنبط النوويُّ رحمه الله من حديث قتال مانعي الزكاة فائدةٌ مهمّة موافِقة للفهم السابق ،فترجم للحديث بقوله :"فيه وجوب قتال مانعي الزكاة أو الصلاة أو غيرها من واجبات الإسلام قليلاً كان أو كثيراً (1).
    و هذا واضح في التدليل إلى ما ذهبنا إليه ،لأنّ هؤلاء الممتنعين مغيرون لحكم الله سبحانه،مُظهِرون للمعصية،فما بالك بمن يمتنع عن حكم الله جملةً وتفصيلاً،ويُروّ ِج للمعاصي والكفر الصريح؟!
    هذا بالنسبة للوجه الأول وهو:معرفة المقصود من الحديث،أمّا بالنسبة للوجه الثاني والمتعلِّق بمدى انطباق الحديث على واقعنا، فأقول:
    كما سبق وذكرتُ فإنّ هذا الحديث، وغيره من الأحاديث،يتكلّم عن حاكم مسلمٍ شرعيٍّ وصل إلى الحكم بطريق شرعيٍّ صحيح،أي باختيار وعقد صحيح من الأمة،ثم وقع في الكفر،أو حكم بأنظمة الكفر، أو فَسَقَ وظَلَمَ ووقع في المعاصي، ولا شكَّ بأنَّ واقعنا لا علاقة له بهذا،ومع ذلك،وتنزُّلاً في الحوار مع ذوي الورع البارد، فإنّنا لو افترضنا أنّ واقعنا محلٌّ لخطاب هذا الحديث،فإنّ شرط منازعة الأمر أهله مُتحقِّقٌ واقعٌ على أيِّ معنى حَمَلْتَ الكفر البواح،سواء حملته على ظهور الكفر،أو على ظهور المعاصي.
    إن المعاصي رائجة و منتشرة و مُجاهر بها،و هي تُروج بسياسة مرسومة مقصودة.و إنَّ الأنظمة التي تحكم المسلمين اليوم أنظمة جاهلية،و هذا لا يشك فيه عاقل،فلا أظنه يحتاج لجدال أو شغب.
    و عليه فإنه من حيث الوجوب النَّظري، يجب على المسلمين أن ينازعوا الأمر أهله، لأن النبيeعلّق وجوب المنازعة على وجود المعصية بالشروط التي ذكرتُها،و قد تحققت،و تحقق ما هو أكثر منها، ألا و هو الكفر و لا يعنينا بعد ذلك ذوات الحكام.فليكن الحاكم أتقى عباد الله، و ليكن سكنُه الفردوس الأعلى من الجنة،ولكنَّ ذلك لا يؤهله لتبوُّء
    منصب الحكم إن لم يكن حاكماً بالإسلام،عادلا عادلاً محافظاً على الأمة....الخ.
    و بهذا تُضبط المسألة بعلامات مُنضبطة ظاهرة، و يسلم الناس من الكلام في خفايا الصدور،و سويداء القلوب،ويأمنون من القدح في المقامات العليا التي تتبعها مساءلة " العيون الساهرة " التي لا تغفل و لا تنام في حراسة الأنظمة،ورصد ما يقوله الشعب و ما لا يقوله.
    إن حقيقة الحاكم من الداخل،لا قيمة لها كثيراً في هذا المقام،فلا يُعقل أن يربط الإسلام هذه القضية الخطيرة بحقيقة حال شخصِ ،قد يتلاعب بالأمة بتزويق حاله،و تسويق نفسه على الناس و هذا ما حصل و يحصل.و من هنا فقد رُبطت القضية بحاله الظاهر،وبواقع الأنظمة و القوانين الحاكمة،وبوجود المعاصي،وهذه كلها ضوابط ظاهرة .
    و الحال هذه الأيام في شرق العالم الإسلامي و غربه ظاهر لذي عينين لا يُجادل فيه إلا كل مُماحك ٍمُشاغبٍ أرمدِ سقيم ،و لم يبق إلا أن نُردد مع المتنبي :

    قد تُنكر العينُ ضوء الشمسِ من رَمَدٍ
    و يُنكرُ الفمُ طعمَ الماء من سقمِ



    نسأل الله السلامة و الهداية،وعليه نتوكل وبه نستعين .

    (1) البخاري /الفتن/باب (2) قول النبي e :"سترون بعدي أموراً تنكرونها........." حديث 7056 أنظر الفتح 13/7 .ورواه مسلم /الإمارة/باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية / حديث 42.

    (2) مسند الإمام أحمد 5/321.

    (3) "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 10/425،ح4562، بإسناد حسن.

    (4) السابق،10/428، ح 4566، بإسناد حسن.

    (1) ولكنّا نعتقد أن الأثرة عند من يقول بهذا القول معناها:تقديمه نفسه في بعض سلوكا ته الشخصية،لا أن تكون هذه الأثرة القاعدة العامة المستمرة،فإن كانت كذلك فإنها تصبح عندئذ معصية بواحاً،لا يرضاها الإسلام ويأمر برفضها.

    (1) أنظر فتح الباري 13/11.

    (2) كذا في الرواية لم يبين لنا الراوي ما هو الحديث ،بل بدأ مباشرة : فقال عبادة .... وسياق الرواية يقتضي أن عبادة قال ما قال بعد كلام لأبي هريرة .

    (1) لأنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر !!!

    (2) فلا تحتجُّوا بربكم ، والمعنى كما يبدوا لي والله أعلم فلا تحتجوا على سوءِ أوضاعكم ،وتحكُّم الحكام بكم ،وتغييرهم لأحكام الشريعة،بقدر الله سبحانه وتعالى فتُسوِّغوا جلوسكم عن إنكار المنكر.

    (3) المسند 5/325.

    (1) المسند 2/501.

    (2) فإن قول الراوي: "......فكتب معاوية إلى عثمان...." بعد كلام عبادة لأبي هريرة رضي الله عنهما يدلُ على تَرتِّيب ما بعد الفاء على ما قبلها.إذ لما رأى معاوية تمسُّكَ عبادة برأيه بعد المناقشة كتب إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

    (1) سبق تخريجه ، انظر صفحة: 39.

    (1) هذا عند من يُعَقِّد المسألة لدرجة الحاجة للحفريات!

    (1) "شرح النووي على صحيح مسلم " 1/212.

  7. #7

    افتراضي رد: الأمة و السلطة باتجاه الوعي و التغيير

    بارك الله فيك أخي المغربي

    و هذا رابط للكتاب

    http://www.altaghyeer.com/books/book_01.zip
    أنـا مسلم جرمي بأني كــافر بشريعة قـد حكّمت كـفارا
    نقموا علـيّ بأنني لم أنحـرف عن شرع ربٍ يحفظ الأبرارا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •