حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين
أ. د. وهبة الزحيلي
حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الإسلام الحنيف الخالد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الالتزام بتعاليمه العامة وبين الواقعية أو السماحة، فهو يراعي ظروف الحياة وأوضاع التطور، ويقدِّر ما يقدمه العلم والاكتشاف العلمي للبشرية من أجل الحفاظ على البنية أو الصحة الإنسانية، ومراعاة الظروف الاجتماعية وتطوراتها لعلاج الأمراض، والتخلص من ظاهرة الألم بقدر الإمكان.
لذا كان الأصل العام هو التمسك بنصوص الشريعة العامة، مع الأخذ أحياناً بالأحكام الاستثنائية أو الاضطرارية ضمن ضوابط الضرورة المقررة شرعاً والمأذون بها في خمس آيات من سورة البقرة:173، والمائدة:3، والأنعام:119، و145، والنحل/:115.
ونص الآية الأولى على سبيل المثال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وهذا الاتجاه ينطبق على مقتضيات التوسع العلمي في مجال الصناعات الغذائية والدوائية، في المصانع الغربية الضخمة وأمثالها، بالاعتماد على التركيبات الكيميائية، وإضافة بعض المحرَّمات إليها في شرعنا من النجاسات المختلفة أو المحظور تناولها، ومنها الكحول والخمور وشحوم الخنازير، وقد تتعين هذه الأدوية فلا يوجد لها بديل، وقد يتوافر بديل مساوٍ لها في المنفعة أو أقل منها فائدة، مثل دواء الهيبارين المشتمل على شيء من نجس العين باستخدام أمعاء الخنزير مصدراً رئيساً لتحضير هذا الدواء، وهو تحضير الهيبارينات العادية، ثم تحويلها بتأثير التحطيم الجزئي إلى هيبارينات ذات وزن جزيئي منخفض وهو الهيبارينات الجديدة، لعلاج الخثرات الدموية وجراحة الأوعية الدموية، والوقاية من التخثر في الأوردة العميقة، وعلاج آفات القلب الإكليلية والذبحة الصدرية غير المستقرة، واحتشاء عضلة القلب الحاد، واستطبابات كثيرة أخرى.
فما الحكم الفقهي لاستخدام الهيبارين الجديد ونحوه؟
خطة البحث:
الجواب عن الحكم الشرعي لهذا الدواء ونحوه يتطلب ما يأتي:
- التزام أحكام الضرورة الشرعية في تناول الدواء المشوب بمحرَّم شرعاً.
- بيان معنى الاستحالة وضوابطها الشرعية.
- توصيف مدى الحاجة إلى إدخال بعض الأطعمة المحرمة في شرعنا في المنتجات الغذائية والدوائية.
- حكم الاستحالة وبيان آراء الفقهاء الثمانية في المسائل المتفق عليها والمختلف فيها.
- القواعد المتعلقة باستحالة النجاسة في رأي المجيزين لها.
- إباحة تناول بعض الأغذية والأدوية الناتجة عن الاستحالة الكاملة، أو عدم الاستحالة للضرورة.
- استهلاك المادة بغيرها بحيث تصير كالهالكة كاختلاط الخمر في ماء أو مائع.
التزام أحكام الضرورة الشرعية في تناول الدواء المشوب بمحرَّم شرعاً:
الحكم الشرعي العام هو الواجب تطبيقه بصفة عامة في الأحوال العادية، فهو بمثابة "العزيمة" وهي الأحكام الكلية المشروعة ابتداء لتكون قانوناً عاماً لكل المكلفين في جميع الأحوال كأحكام العبادات الأساسية، وقواعد المعاملات الأساسية، وأحكام الحدود والقصاص.
ولا يلجأ إلى الرخصة أو الأحكام الاستثنائية إلا في أحوال خاصة لا دائمة ولا عامة؛ لأن الرخصة هي: الأحكام التي شرعها الله تعالى بناء على أعذار العباد، رعاية لحاجتهم، مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي، مثل رخص السفر والمرض وأكل المضطر أو شرب العطشان ما هو محرَّم شرعاً عند ضرورة إنقاذ الحياة من الموت أو الهلاك جوعاً أو عطشاً، ولا بديل من الحلال في ظرف معين كالوجود في الصحراء أو غصة الطعام، وقد تكون الحاجة مثل الضرورة، علماً بأن الضرورة أشد باعثاً أو دافعاً من الحاجة، لأن الضرورة يترتب على مخالفتها احتمال الوقوع في خطر الهلاك، وأما الحاجة فيترتب على مخالفتها الوقوع في المشقة.
فمن قواعد الضرورة ما يأتي(1):
1- أن يقتصر الشخص فيما يباح تناوله للضرورة في رأي جمهور الفقهاء على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر؛ لأن إباحة الحرام ضرورة و"الضرورة تقدر بقدرها" ومثلها "الحاجة تقدر بقدرها".
2- أن يصف الحرام – في حالة ضرورة الدواء – طبيب مسلم عدل ثقة في دينه وعلمه، وبشرط ألا يوجد بديل آخر من الأدوية المباحة شرعاً، يقوم مقام الحرام، ويحقق الشفاء المطلوب، تطبيقاً للحكم الشرعي وهو: أن يكون ارتكاب الحرام متعيناً لا مفر منه.
3- يحل للمضطر أو المحتاج تناول أي شيء من الحرام، سواء كان ذلك للغذاء أو الدواء، دفعاً للضرر، وحفظاً للصحة، وصوناً عن الهلاك، إذا كان الجوع الذي لا يجد معه الجائع شيئاً يسد رمقه إلا المحرَّم(2)، أو كان المرض لا علاج له إلا الدواء المخلوط بحرام، لأن الضرورة ومثلها الحاجة المتعينة تبيح تناول شيء من جميع المحرمات والمطعومات والأشربة، لعموم الآية الكريمة: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] يوضح ذلك ما قاله ابن رشد "الحفيد": إذا لم يجد المضطر شيئاً حلالاً يتغذى به، جاز له استعمال المحرمات في حال الاضطرار، ولا خلاف في ضرورة التغذي(3).
أي وضرورة التداوي حفاظاً على النفس كضرورة الغذاء تماماً، ومن المعلوم في القواعد الشرعية الكلية: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (م32 من المجلة) والمراد بالخصوص: ما تحتاجه فئة أو طائفة معينة كأهل حرفة أو صناعة.
التداوي بالخمر على طبيعتها من غير استحالة (تحول):
هذا مثال واضح يبين مدى مشروعية التداوي بالحرام، ومن أهم الأمثلة: الخمر والخنزير، فعلى الرغم مما قرره أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من تحريم الانتفاع بالخمر للمداواة وغيرها، كاستخدامها في دهن أو طعام أو بلّ طين، عملاً بالحديث النبوي: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حَرَّم عليكم"(4) فإن فقهاء الحنفية قالوا: يجوز التداوي بالمحرَّم إن علم يقيناً أن فيه شفاء، ولا يقوم غيره مقامه، أما بالظن فلا يجوز، وقول الطبيب الواحد لا يحصل به العلم (أي اليقين) ولحم الخنزير لا يرخص التداوي به، وإن تعين، ويرخص شرب الخمر للعطشان، وأكل الميتة في المجاعة إذا تحقق الهلاك، ولا بأس بشرب ما يذهب بالعقل، فيقطع الأكِلة(5) ونحوه(6).
وقيد الشافعية حرمة التداوي بالخمر بما إذا كانت صرفاً غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه، أما الترياق المعجون بها مما تستهلك فيه فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حيَّة وبول، وكذا يجوز التداوي بما ذكر لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك أو معرفته للتداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر(7).
وقال العز بن عبد السلام: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها، لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها(8).
وأجاز الحنابلة شرب الخمر لعطش إذا كانت ممزوجة بما يروي من العطش، فإن شربها صرفاً أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش، لم يبح له ذلك، وعليه عقوبة الحد المقررة(9).
وأباح الشيعة الإمامية استعمال الخمر للضرورة مطلقاً، وللدواء كالترياق والاكتحال، لعموم الآية الدالة على جواز تناول المضطر إليه(10).
وقرر جماعة من الزيدية الحكم بقولهم: الأقرب جواز التداوي بالخمر، حيث خشي المريض التلف، أو تلف عضو منه، وقطع بحصول البرء بذلك، إذ هو حينئذ كمن غص بلقمة، فإن لم يقطع بالشفاء لم يجز، إذ الخبر يقتضي أن لا شفاء به، فيبطل ظن حصوص الشفاء(11).
وقال جماعة من المالكية: من اضطر إلى خمر: فإن كان بإكراه شُرب بلا خلاف، وإن كان لجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية وقال: لا يزيده الخمر إلا عطشاً، وحجته أن الله تعالى حرَّم الخمر مطلقاً، وحرَّم الميتة بشرط عدم الضرورة، وقال أبو بكر الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعاً أو عطشاً، شربها، وقد قال الله تعالى في الخنزير: إنه (رجس) فتدخُل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وتردّ الجوع ولو مدة، فإن غص الآكل بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا؟ قيل: لا يسيغها بالخمر مخافة أن يدعي ذلك، وقال ابن حبيب من المالكية: يسيغها لأنها حالة ضرورة(12)
وأبان ابن العربي الرأي الراجح في الانتفاع بالخمر عند المالكية، فقال(13): والصحيح أنه سبحانه حرَّم الميتة والدم ولحم الخنزير أعياناً مخصوصة، في أوقات مخصوصة، ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض الأعيان، وتطرق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال، فقال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فرفعت الضرورة التحريم، ودخل التخصيص أيضاً بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين:
أحدهما – حملاً على هذا بالدليل، كما تقدم من أنه محرم، فأباحته الضرورة كالميتة.
والثاني – أن من يقول: إن تحريم الخمر لا يحل بالضرورة، ذكر أنها لا تزيده إلا عطشاً، ولا تدفع عنه شبعاً، فإن صح ما ذكره كانت حراماً، وإن لم يصح – وهو الظاهر – أباحتها الضرورة كسائر المحرّمات.
وأما الغاصّ بلقمة: فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شهدناه، فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه(14) ظاهراً، وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطناً.
وقال القرطبي بعد أن ذكر آراء العلماء في التداوي بالخمر: إن الأحاديث التي تمنع التداوي بالخمر، يحتمل أن تقيد بحال الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه(15).
يتبين من هذه النقول في المذاهب المختلفة أن استعمال الكحول(16) ومشتقاته على الطبيعة من غير استعماله في الأدوية جائز للضرورة عند أكثر العلماء؛ لأنه لا بد منه لإذابة الدواء، وإذا كان السُّكْر اضطرارياً كما في حالة العلاج الطبي أو حال الخطأ في تناول شيء كعصير فاكهة، فلا عقاب شرعاً على السكران، أما في حالة السكر الاختياري، فيعاقب السكران على كل الجرائم التي يرتكبها، وفي كل الأحوال يسأل السكران مدنياً بدفع التعويض عما ارتكبه في أثناء سكره، سواء أكان اضطرارياً أم اختيارياً.
بيان معنى الاستحالة وضوابطها الشرعية:
لكلمة الاستحالة في اللغة العربية معنيان(17):
الأول – عدم الإمكان، فيقال: هذا شيء مستحيل أي باطل غير ممكن الوقوع، وليس له هنا مناسبة، لتعلقه بالمنطق والفلسفة في تقسيم الأشياء إلى جائز (ممكن) ومستحيل، وواجب.
والثاني – تغير الشيء عن طبعه ووصفه، أي تغير الذات والصفات والاسم، وهذا المعنى هو المتعلق بهذا البحث، وهو واضح في بيان تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى شيء آخر أو نوع آخر.
والمراد بالاستحالة في الاصطلاح الفقهي هنا هو ذات المعنى اللغوي، أي تحول الشيء وتغيره عن وصفه، ويعبر الفقهاء عنه بمناسبة استحالة الأعيان النجسة كالعذِرة والخمر والخنزير، فإنها قد تتحول عن أعيانها أو ذواتها وتتغير أوصافها بالتخليل أو الاحتراق أو الوقوع في شيء طاهر، كالخنزير الذي يقع في الملاحة، فيصير ملحاً.
وقد ذكر العلامة ابن عابدين الحنفي نيفاً وثلاثين مطهراً، منها انقلاب حقيقة الأعيان بانتفاء بعض أجزاء مفهومها أو كلها، كانقلاب الخنزير ملحاً، وجعل الزيت المتنجس صابوناً، وتخلل الخمر بنفسها أو تخليلها بواسطة أو بإلقاء شيء فيها، قال الكمال بن الهمام في فتح القدير: ولو صب ماء في خمر أو بالعكس، ثم صار خلاً طهر في الصحيح(18).
وهذا المعنى ينطبق أيضاً على التفاعلات الكيميائية التي تحوِّل المادة إلى مركب آخر، فهي استحالة العين إلى عين أخرى(19).
وتكون ضوابط الاستحالة ما يأتي:
1 – تغير حقيقة الشيء وتحوله إلى مادة أخرى مغايرة للأصل في الاسم أو الذات، والخصائص أو الصفات.
2 – لم يبق لأصل الشيء وجود مادي بطبيعته، وإنما تحولت أجزاؤه وتغيرت صفاته، والتغير مطهر عند محمد بن الحسن من الحنفية خلافاً لأبي يوسف، والعلة هي التغيير وانقلاب حقيقة الشيء، كتغير الخمر وصيرورتها خلاً، وصيرورة العذِرة رماداً، وتحول الزيت النجس إلى صابون، فهو انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى، وهو المفتى به عند الحنفية لعموم البلوى، واختاره أكثر المشايخ خلافاً لأبي يوسف، كما قال ابن عابدين(20) وأضاف قائلاً:
ومقتضاه: عدم اختصاص ذلك الحكم بالصابون الذي صنع من زيت نجس، فيدخل فيه كل ما كان فيه تغير وانقلاب حقيقة، وكان فيه بلوى عامة، فيقال كذلك في الدبس المطبوخ إذا كان زبيبه متنجساً، ولا سيما أن الفأر يدخله، فيبول ويبعر فيه وقد يموت فيه.
وقد بحث كذلك بعض شيوخ مشايخنا فقال: وعلى هذا إذا تنجس السمسم ثم صار طحينة يطهر، خصوصاً وقد عمت به البلوى، وقاسه على ما إذا وقع عصفور في بئر، حتى صار طيناً، لا يلزم إخراجه لاستحالته.
فكل ذلك انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى، لا مجرد انقلاب وصف، أي إن الذات تغيرت، وإن استحالت من شيء آخر.
توصيف مدى الحاجة إلى إدخال بعض الأطعمة المحرمة في شرعنا في المنتجات الغذائية والدوائية:
لجأت بعض المصانع الغذائية في الشرق والغرب لاستخدام بعض المواد المحرمة أو النجسة في شرعنا في صناعة أنواع مختلفة من المواد الغذائية والمستحضرات الدوائية، ومن أمثلة هذه المواد المحرمة أو النجسة ما يأتي:
1- الاعتماد على لحم الخنزير وشحمه وجلده، وبعض دهون الحيوانات الميتة وعظامها الرخيصة الكلفة في الأطعمة المعلبة والجيلاتين والأجبان (بالمنفحة) والمربيات والعلكة والكراميل، والأسماك والدهون الحيوانية، والخبز والكعك والبسكويت والشكولاتة والفطائر والشوربة، سواء في أمريكا أو أوربا.
2- استخدام جلد الخنزير في تصنيع الصابون والمنظفات والغليسرين والحلويات كالتوفي والآيس كريم وفي الصناعات الدوائية الطبية، والمستحضرات الإنزيمية العلاجية، والهرمونات المستخلصة من الخنزير.
3- الاعتماد على شحم الخنزير ولحمه في تحضير الإنسولين لمعالجة مرضى السكري، واستخراج الببسين من الميتة أو من الخنزير.
4- دخول الكحول في بعض الأدوية ولا سيما أدوية السعال.
5- استعمال الدم وبقايا اللحوم والعظام من الخنزير وغيره من الميتات في إنتاج أعلاف الدواجن وغيرها.
6- تصنيع الدم الناتج من الحيوانات المذبوحة في معلّبات مأكولة.
7- تستورد أمريكا الآن أشعار الآدميين من الهند لإدخال البروتين المستخرج منها في دقيق (طحين) الخبز الأبيض.
8- سقاية النباتات وتغذيتها بالنجاسات كالأرواث والدماء والمياة الملوثة وما فيها من سموم وأضرار، تخل بتوازن التربة وتسمم النبات وتمرضه.
وذلك كله بحجة زيادة الإنتاج وتوفير الغذاء للجائعين، وتحقيق أنواع الترف، مع الربح السريع، وقلة التكاليف وغير ذلك من الدوافع غير الإنسانية في الواقع.
هذه الطفرة بالاعتماد على ما هو محرم في شرعنا، هل يعدّ ذلك مجرد تجزئة لهذه المواد، أو أنه يحدث بالفعل تفاعل كيماوي يغيِّر حقيقة المواد ويحوِّلها إلى مواد أخرى؟ وبالتالي يمكن انطباق صفة الاستحالة الشرعية التي ذكرها فقهاء الحنفية ومن وافقهم، لا بد في الإجابة عن هذا من التأكد السريع والجاد من أهل الخبرة وتحليل المخابر للمادة.
فإذا كانت العملية مجرد تفكيك التركيب وتجزئة المادة الأصلية وبقاء التركيب السابق في وضعه الطبيعي، فلا يعد هذا استحالة؛ لأن مجرد التحلل الجزئي لروابط المادة وتغيرها من شحم خنزير إلى جيلاتين أو شيكولاتة لا يسوغ الإباحة، وأما إذا تغير التركيب الأساسي للمادة الأصلية، فيمكن القول بالإباحة بعد التخلص من المواد الشائبة.
وينبغي المبادرة إلى القول: إن مجرد الطبخ مع مادة أخرى، أو تحليل جزيئات الدهون إلى مكوناتها، لا يعد مسوغاً للقول بالإباحة، وإنما لا بد من تغير التركيب الكيماوي للدهول، فدهن الخنزير المكرر مثلاً يبقى محتفظاً برائحة خاصة تظهر عند تسخينه دون تنقيته من الأحماض الدهنية ودون تغيير التركيب الخاص بهذا الدهن الحرام في ذاته أو عينه، وحينئذ لا يباح هذا الدهن، حتى وإن اتخذ شكلاً أو صفة أخرى، مع بقاء تركيب المادة الأصلي.
وبعبارة أخرى: هل يقبل عقلاً وشرعاً القول بإباحة شحم الخنزير ولحمه إذا تحول إلى شيكولاتة ونحوها مثلاً؟ علماً بأن هذا التحول مجرد إضافة مواد أخرى إلى الشحم أو اللحم، فتجعل له طعماً جديداً أو مذاقاً جديداً، كإضافة المقبِّلات أو البهارات والفلفل إلى الطعام، فيجعل له شهية وقبولاً، أي إن تغير الصفات من غير تغير الطبيعة والذات لا يجيز تناول هذا الشيء المتغير شكلاً، إلا إذا كانت هناك ضرورة علاجية بضوابطها المقررة والمعروفة شرعاً، كما أوضحت سابقاً.
حكم الاستحالة شرعاً في المذاهب الثمانية:
تغيّر حقيقة الشيء أو ذاته مع تغيّر صفاته وخصائصه هو الاستحالة كما تبين سابقاً، والموضوع يتناول ما هو متفق عليه بالنصوص الشرعية، أو مختلف فيه، لكن بعضه راجح الدليل، وبعضه الآخر ضعيف الدليل، مع الاتفاق على نجاسة الخمر والخنزير والميتة وغيرها من المضار والمؤذيات، والمنصوص عليه يتناول مسألتين:
المسألة الأولى – تحول الخمر إلى خل بطريق ذاتي دون مخلِّل.
المسألة الثانية – تحول الخمر إلى خل بالعلاج أو بمخلِّل خارجي.
وغير المنصوص عليه مختلف فيه.
أما المسألة الأولى وهي تحول الخمر إلى خل بطريق ذاتي دون مخلل:
فإن الفقهاء اتفقوا(21) على أن الخمر إا تخللت بنفسها دون مخلل خارجي ولو بالنقل من الظل إلى الشمس أو على العكس، فإنها تطهر ويحل أكلها واستعمالها، للنصوص الشرعية في السنة النبوية المقررة ذلك، ومنها:
- ما روي عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الأُدْم الخل" أو "نعم الإدام الخل"(22)، وهذا صحيح بالاتفاق.
- وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير خلِّكم خل خمركم"(23) وهو ليس بالقوي، كما قال البيهقي في المعرفة.
لكن قيد الحنابلة حالة النقل من مكان إلى آخر بما لم يكن هناك قصد التخليل، فإن قصد تخليلها بنقلها لم تطهر؛ لأنه يحرم تخليلها، فلا تترتب عليه الطهارة.
وأما المسألة الثانية وهي تحول الخمر إلى خل بمخلل خارجي:
وهي أن يتم التخليل بشيء من البصل أو الخبز الحار أو الخميرة أو نحو ذلك، ففيها اتجاهان للفقهاء:
1- اتجاه الحنفية والمالكية والشيعة الإمامية والظاهرة(24) وغيرهم: أنها تطهر بالتخليل ويجوز استعمالها، للحديث السابق: "خير خلكم خل خمركم" دل على أن خير الخل هو خل الخمر مطلقاً، بواسطة أم بغير واسطة، ويؤكده عمل بعض الصحابة كعلي وابن عمر رضي الله عنهما حيث كانا يأكلان خل الخمر، وقياساً على طهارة الجلد بالدباغ عند من يجيزه، ولزوال النجاسة والشدة المسكرة منها دون ترك أي أثر.
2- اتجاه الشافعية والحنابلة والزيدية(25): أن الخمر لا تطهر بالتخليل، لكن إذا تخللت بنفسها طهرت، مستدلين بما روي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا(26)، ولأن ما ألقي فيها ينجس، ولا يطهر بعده أبداً لا بغسل ولا بغيره(27)، وعن أنس "أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، قال أهرقها، قال: أفلا نجعلها خلاً؟ قال لا(28)، والصحابة أراقوا الخمر حين نزلت آية التحريم، كما ورد في الصحيح، فلو جاز التخليل لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما نبّه في الشاة الميتة على دباغها(29).
وقال عمر رضي الله عنه على المنبر: لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو الذي تولى إفسادها(30).
وهناك أحاديث ثلاثة أخرى في معناها عن أنس (عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه) وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد، وعن أنس أيضاً عند أحمد والدارقطني، قال الشوكاني بعد إيراد الأحاديث الأربعة (ثلاثة عن أنس، والرابع عن الخدري): فيه دليل للجمهور على أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل أي إذا خلَّلها بوضع شيء فيها(31).
آراء العلماء في حكم الاستحالة في غير المنصوص عليه: كصيرورة دم الغزال مسكاً، والميتة ملحاً، والكلب إذا وقع في ملاحة، والروث إذا صار بالإحراق رماداً، والزيت المتنجس بجعله صابوناً، وطين البالوعة إذا جفّ وذهب أثره، والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها:
اختلف الفقهاء على اتجاهين في حكم الاستحالة في غير المنصوص عليه شرعاً بين موسع ومضيق:
1 – الاتجاه الأول – للجمهور (الحنفية والمالكية والشيعة الإمامية والظاهرية، والزيدية في الظاهر، وابن تيمية وابن القيم، والشوكاني وصديق خان(32): الاستحالة مطهرة.
2 – الاتجاه الثاني – للشافعية والحنابلة: الاستحالة لا تطهر النجاسات. وعند الإباضية قولان: أحدهما – أن النجس إذا صار جمراً أو رماداً فإنه يطهر بالاحتراق. والثاني – أنه لا يصير طاهراً به، فهو ذات واحدة تغير لونها، أما ما تنجس (أي أصابته نجاسة من غيره) فإنه يطهر بالاحتراق، فيكون جمره ورماده ولهبه طاهراً؛ لأن ما تنجس بغيره تزول نجاسته بمزيل كالنار، أي إنهم كأصحاب الاتجاه الأول في المتنجس دون النجس، والراجح عندهم أن غبار النجس لا يطهر بالإحراق، لأن غبرة الشيء جزء لطيف منه، أما دخانه فقد قالوا بطهارته؛ لأنه لا توجد فيه ذات النجس ولا طعمه، ولا لونه، ولا رائحة يحكم عليه بالنجاسة بها، أما المتنجس بغيره فلا خلاف عندهم في طهارة غباره ورماده وجمره ودخانه.
الأدلة:
استدل أصحاب الاتجاه الأول بما يأتي:
1 – الحكم بالنص الشرعي بطهارة الخمر إذا انقلبت خلاً، وحل تناولها.
2 – الحكم بالنص أيضاً بطهارة جلود الميتة إذا دبغت، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دّبغ فقد طهر"(33).
3 – الأصل في الأعيان الطهارة والإباحة، سواء في أصل نشأتها، أم بعد انقلابها من النجاسة إلى الطهارة، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:29].
قال ابن تيمية(34): الصواب أنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وكذلك في المائعات كلها، وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.
ثم قال: ومما يبين القول بطهورية الماء إذا استحالت النجاسة: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب، لم يكن شارباً للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر، إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صبّ لبن امرأة في ماء واستحال، حتى لم يبق له أثر، وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها في الرضاعة بذلك.
وجاء في الفتاوى الهندية(35): إذا حرِّق رأس الشاة ملطخاً بالدم يحكم بطهارته، والطين النجس إذا جعل منه الكوز والقِدْر، فطبخ يكون طاهراً، وكذا اللبن إذا لبِّن بالماء النجس وأحرق، والدباغ يطهر الجلود النجسة؛ لأن الدباغ تطهير للجلود كلها إلا جلد الإنسان والخنزير.
وقال الدردير في الشرح الكبير(36): من الطاهر لبن الآدمي ولو كافراً، لاستحالته إلا صلاح.
وقال ابن حزم الظاهري(37): إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر، وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئاً آخر ذا حكم آخر.
وقال صاحب دليل العروة الوثقى الشيخ حسن الحلي(38): الاستحالة وهي تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى، فإنها تطهر النجس بل المتنجس كالعذرة تصير تراباً، والخشبة المتنجسة إذا صارت رماداً والبول أو الماء المتنجس بخاراً، والكلب ملحاً وهكذا كالنطفة تصير حيواناً، والطعام النجس جزءاً من الحيوان، وأما تبدل الأوصاف وتفرق الأجزاء فلا اعتبار بهما كالحنطة إذا صارت طحيناً أو عجيناً أو خبزاً، والحليب إذا صار جبناً.
وذكر ابن القيم(39) أن طهارة الخمر بالاستحالة على وَفْق القياس، فإنها نجسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات، وقد نبش النبي صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب، وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فَرْث ودم، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا عُلِفت بالنجاسة ثم حبست وعلقت بالطاهرات حل لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر، حلت، لاستحالة وصف الخبث وتدبله بالطيب.
وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثاً صار نجساً كالماء والطعام إذا استحال بَوْلاً وعذرة، فكيف أثّرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟! والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم، والوصف دائر معه وجوداً وعدماً، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، لا تتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً.
وقال صديق حسن خان(40): والاستحالة مطهرة، أي إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان ذلك الشيء الآخر مخالفاً للشيء الأول لوناً وطعماً وريحاً، كاستحالة العذرة رماداً.
وقال الزيدية(41): الخمر نجسة لعموم تحريمها، فإذا تخللت بنفسها، طهرت، لعدم العلاج، وقيل: لا تطهر بذلك كعلاجها، والدِّنْ والمغرفة يطهران بالاستحالة.
واستدل أصحاب الاتجاه الثاني(42): بأن نجاسة غير الخمر مثل الخنزير والكلب لعيها أو ذاتها، أي ملازمة لها، فلا تطهر بالاستحالة، كالكلب إذا وقع في ملاحة، فصار ملحاً، أو احترق فصار رماداً، أما الخمر إذا انقلبت خلاً بنفسها فتطهر؛ لأن نجاستها إنما كانت لشدتها المسكرة الحادثة لها، فوجب أن تطهر كالماء الكثير الذي تنجس بالتغير إذا زال تغيره بنفسه.
وأما المتنجس بغيره: فإن كانت النجاسة حكيمة: وهي ما تُيقِن وجودها ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا ريح، فيطهر الشيء بإجراء الماء عليه.
وإن كانت النجاسة عينية: وهي ما لها عين ملموس، فيجب بعد زوال عينها إزالة الطعم، وإن عسر؛ لأن بقاءه يدل على بقاء العين، ووجب محاولة إزالة العين ولا يضر بقاء لون كلون الدم أو ريح كرائحة الخمر، عسر زواله، فيطهر دفعاً للمشقة، بخلاف ما إذا سهل فيضر بقاؤه لدلالة ذلك على بقاء العين.
والخلاصة: إن دليل هؤلاء يتلخص في بقاء عين النجاسة، فلا يطهر الشيء بالاستحالة، ولا سيما الخنزير لأنه نجس العين.
قال الشافعية: لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا ثلاثة أشياء: الخمر مع إنائها إذا صارت خلاً بنفسها، والجلد (غير جلد الكب والخنزير) المتنجس بالموت يطهر ظاهره وباطنه بالدبغ، وما صار حيواناً كالميتة إذا صارت دوداً لحدوث الحياة(43).
وقال الحنابلة: ولا تطهر نجاسة باستحالة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل الجلّالة وألبانها"(44) لأكلها النجاسة، ولو طهرت بالاستحالة لم ينه عنه، وتطهر الخمرة بالاستحالة بأن تنقلب خلاً بنفسها، لأن نجاستها لشدتها المسكرة الحادثة لها، وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير إذا زال تغيره بنفسه، ولا يلزم عليه سائر النجاسات، لكونها لا تطهر بالاستحالة؛ لأنها نجاستها لعينها، والخمرة نجاستها لأمر زال بالانقلاب(45).
يتبين مما تقدم أن أدلة القائلين بالاستحالة أقوى وأحكم من أدلة القائلين بالمنع، لوجود التغير ولم يبق وجود للنجاسة، وكل مادة نجسة إذا تغير تركيبها الكيميائي، فقد صارت عيناً أخرى، بالاسم والصفات، فيتغير الحكم من النجاسة إلى الطهارة وإباحة التناول.
يتبع