قراءة في تاريخ الأمم (1)


سعيد السواح

كم نحن في حاجة ماسة للقراءة في تاريخ الأمم السابقة عندما يشتد الكرب والمحن! لنتعرف على سنن الله الكونية، وخير الكتب التي نقرؤها في هذا الموضوع (القرآن الكريم)، ولقد حوى القرآن الكلام عن الأمم السابقة، وهذه القصص لم تذكر في القرآن على سبيل التسرية أو التسلية، بل للعبرة والعظة، والثبات على الطريق: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود:120)، وقال الله -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف:111)، فلنقرأ سويًا في تاريخ الأمم السابقة مِن خلال هذا العرض الذي اشتملت عليه سورة هود -عليه السلام-، فأول أمة ذكرت في هذه السورة وذلك بترتيب الوجود قوم نوح -عليه السلام-.

قصة نوح -عليه السلام

نوح -عليه السلام- أول رسول أرسله الله -تعالى- إلى أهل الأرض لما ظهر الشرك بالله -تعالى-؛ فنادى نوح في قومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:59)؛ فانقسم الناس تجاه هذه الدعوة إلى فريقين: فريق آمن بنوح -عليه السلام- وبرسالته، وفريق اعترض على دعوة نوح -عليه السلام- وتصدى لها وحاربها لوأدها.

- الفريق الأول: مِن المستضعفين، والفريق الثاني: الملأ الذي في يده القوة والبطش والمال والسلطة.

هذا الملأ (الأشراف والسادة والكبراء) سخروا مِن نوح -عليه السلام- وممن آمن معه؛ فقالوا لنوح -عليه السلام-: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:27).

موقف نوح عليه السلام

ولنتأمل موقف الداعي مِن هذا الهجوم الشرس الذي قاده السادة والكبراء: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُو هَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (هود:28-31).

قوة الداعي

فانظر إلى قوة الداعي لدين الله -تعالى-، وحسن منطقه، وحسن ترتيب كلامه ودفاعه عن قضيته بلا عصبية أو تهور، بل انظر إلى سعة صدره وعدم مقابلة سفاهة هؤلاء الكبراء إلا بالحلم وسعة الصدر؛ فهو صاحب قضية لابد له مِن التحمل في سبيلها، ولابد مِن تفنيد الأمور وحسن ترتيبها، ولابد له مِن حسن بيان ومنطق.

كيف قابل السادة والكبراء ما عرضه نوح -عليه السلام-: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(ه ود:32)؛ فانظر إلى جهلهم وشدة غبائهم، وكيف يزيفون الحقائق؟؛ فمن المجادل؟ الذي جاء بالحق وعرضه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، أم هذا الذي يُعارِض الحق الساطع المنير المبين برأيه وهواه؟!

الحلم وسعة الصدر

مزيد مِن الحلم وسعة الصدر ووضع الأمور في نصابها: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (هود:33-34)؛ فالأمور بيد الله وحده هو المتصرف -سبحانه- في شؤون الكون كلها بلا منازع أو ممانع، وأن الهداية والإضلال بيده وحده دون سواه؛ فمرجعهم جميعًا إلى ربهم؛ فعنده يوم القيامة تجتمع الخصوم ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

الاستمرار في الدعوة

فنوح -عليه السلام- لم يقصِّر في دعوته لإنقاذهم من الدمار والهلاك؛ ولذلك لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو ماضٍ في دعوته، لم يثنيه سفاهة هؤلاء القوم في رفضهم لدعوته، بل ومحاربتهم لها، ولم يقعده عدم استجابتهم في مضيه في الدعوة ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، يغشاهم في أماكنهم ونواديهم، ويدعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نوح:5-9).

السرعة والاستجابة

بعد هذه المدة الزمنية التي قضاها نوح -عليه السلام- في دعوة قومه بلا ملل ولا سآمة وبلا إحباط، أو هزيمة نفسية، أو انهزامية يأتيه البيان من ربه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود:36-37)؛ فتجد السرعة والاستجابة في التنفيذ بلا مناقشة، وبلا إبداء رأي؛ فأمْر الله -عز وجل- غير قابل للمناقشة أو الاعتراض عليه أو إبداء الرأي: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (هود:38).

ترى لماذا كان الملأ (السادة والكبراء) يسخرون؟ وما الدوافع التي دفعتهم للسخرية من نوح -عليه السلام؟

لا شك أن العقول غير قابلة لأن يصنع إنسان سفينة في صحراء؛ فماذا سيفعل بها في هذه الصحراء التي لا نبات فيها ولا ماء ولا حياة؟ وهو مكان ليس بقريب من ماء؛ فكانوا يستغربون من ذلك، بل وكانوا يسخرون مِن نوح -عليه السلام.

ثقة الداعية بالله

ولكن ثقة الداعية بالله الدافع الأساسي لسرعة الاستجابة والامتثال؛ لعلمه ويقينه أن عواقب الأمور بيد الله وحده، وأن حدود العبد هو التنفيذ الفوري لأوامر ربه مع يقينه أن الله لن يضيعه، بل صيانة العبد وحفظه في الامتثال لأوامر ربه وسرعة الاستجابة والتنفيذ، وأنه لا يَفُتُّ في عضده استهزاء المستهزئين وسخرية الساخرين {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}(المط ففين:29-33).

تبدل الحال

هل يستديم ذلك؟ {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين:34-36)؛ فماذا كان رد نوح -عليه السلام- على سخرية هؤلاء القوم؟ {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (هود:38-39).

اللحظة الحاسمة

فكانت اللحظة الحاسمة التي فصل الله فيها بين المؤمنين والفجار الكافرين {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيل وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (هود:40-43).


لمن كانت العاقبة؟


فلمن كانت العاقبة؟ ولمن كانت النهاية؟ {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود:44)؛ فالعاقبة للمؤمنين الطائعين على صبرهم على طاعة ربهم وعلى مشقة الطريق، الذين صبروا على سفاهة السفهاء الجاهلين {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين} (هود:49).