"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (25)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "هود": (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وفي سورة "الحجر": (قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)

القول الأقرب أن المراد بنات لوط, فعرض على (أسيادهم) الزواج من بناته.
ولقد قال بعض المفسرين: إن لوطاً إنما عرض بناته لهم مدافعة لهم لا يريد بذلك حقيقته وإمضاؤه لعلمه أن ذلك ممتنع.
وسوف أنقل نصوص أقوالهم في ذلك عند ذكر هذا القول.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في قوله: (هؤلاء بناتي) على قولين:

القول الأول:
أن المراد نساء أمته, فهو يرشدهم إلى ما خلق الله لهم من نسائهم.
(اقتصر على هذا القول ابن جرير*, وابن كثير*) (واقتصر عليه الزمخشري* عند تفسير آية الحجر) (ورجحه الرازي*, وابن عاشور* عند تفسير آية هود) (وكذلك مال إليه القرطبي* عند تفسير آية هود)

قال الماتريدي: "لأن الرسل هم كالآباء لأولاد قومهم ينسبون إليهم, ألا ترى إلى قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)".

وقال ابن كثير: "فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد, فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون}.
قال مجاهد: لم يكن بناته، ولكن كن من أمته، وكل نبي أبو أمته, وكذا روي عن قتادة، وغير واحد"اهـ

ورجح هذا القول الرازي عند تفسير آية هود فقال: "وهذا القول عندي هو المختار، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر مستبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء.
الثاني: وهو أنه قال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم, أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل.
الثالث: أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان، وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة"اهـ

وكذلك قال ابن عاشور: "الظاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي. وأراد نساء من قومه بعدد القوم الذين جاؤوا يهرعون إليه. وهذا معنى ما فسر به مجاهد، وابن جبير، وقتادة، وهو المناسب لجعلهن لقومه إذ قال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون، فيكون المعنى: هؤلاء النساء فتزوجوهن. وهذا أحسن المحامل"اهـ

ولكنْ في هذا القول إشكالان.
الأول:
قال الشنقيطي: "هذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى، أما القرينة التي تقربه فهي أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر... وأما القرينة التي تبعده فهي أن النبي ليس أبا للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: (النبي أولى بالمؤمنين الآية).
وقد صرح تعالى في "الذاريات" بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط، وذلك في قوله: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)"اهـ

الإشكال الثاني: قولهم: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق), فهذا الرد منهم وقولهم: (بناتك) يوحي بأنه أراد بناته لصلبه.
ثم كيف يستقيم قولهم: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) ولوط هو الذي يدعوهم إلى الزواج من النساء.

القول الثاني: أن المراد بنات لوط, فعرض على (أسيادهم) الزواج من بناته.
(اقتصر عليه الزمخشري* عند تفسير آية هود) (وذكر القولين دون ترجيح الماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والشنقيطي*)
وهذا القول الثاني هو الأقرب والله أعلم.

قال الزمخشري: "أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوجوهن".

ولقد قال بعض المفسرين: إن لوطاً إنما عرض بناته لهم مدافعة لهم لا يريد بذلك حقيقته وإمضاؤه لعلمه أن ذلك ممتنع.

قال ابن عطية: "يحتمل أن يكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته, وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر: اقتلني ولا تقتله, فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه"اهـ

ولكن الغريب ابن عطية نفسه ضعف هذا عند تفسير آية الحجر فقال: "قالت فرقة: إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، وهو ضعيف، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا, وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء".

وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثم قالوا: لقد علمت مستشهدين بعلمه ما لنا في بناتك من حق لأنك لا ترى مناكحتنا".

وقال القرطبي: "وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه، روي هذا القول عن أبي عبيدة، كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا".

قلت: ويؤيد أنه كان مدافعة لهم لا يريد بذلك حقيقته قولهم: (لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)
أي: لقد علمت أن هذا الذي تذكر لا يمكن الوصول إليه.

والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/