استنفار الصديق أهل اليمن لغزو الشام*:
كتب الصديق إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، وهذا هو نص الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم،
من خليفة رسول الله إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن:
سلام عليكم.
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد،
فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً،
وقال: جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله،
والجهاد فريضة مفروضة،
وثوابه عند الله عظيم،
وقد استنفرنا مَن قِبَلَنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام،
وقد سارعوا إلى ذلك،
وعسكروا وخرجوا وحسنت بذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم،
فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه ولتحسن نيتكم فيه؛
فإنكم إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة،
فإن الله -تبارك وتعالى- لم يرضَ من عباده بالقول دون العمل،
ولا يزال الجهاد لأهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم الكتاب.
حفظ الله دينكم وهدى قلوبكم وزكَّى أعمالكم،
ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين.
وبعث الصديق هذا الكتاب مع أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي هذا الكتاب يظهر دور أبي بكر رضي الله عنه في حث المسلمين وجمعهم للجهاد في سبيل الله وهو ما يمكن أن يسمى بـ(التعبئة العامة).
*ومن خطاب الصديق لأهل اليمن يتضح أن الجهاد من أجل تحقيق غرضين*:
تحقيق إسلام المسلمين؛ لأن الله لا يرضى لعباده بالقول دون العمل،
ومقاتلة غير المسلمين حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم كتاب الله، وهذا هو السبب الذي جعل أهل اليمن ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعداد هائلة،
ولم يصل إلى علمنا أن أحدًا منهم خرج مستكرهًا بل خرجوا طواعية،
وأقبلت جموعهم بنسائهم وأولادهم،
وكانوا من أسرع المستجيبين للنداء حبًّا ورغبة في الجهاد.
ويعبر عن هذا أنس بن مالك حامل رسالة الصديق إلى أهل اليمن، والذي تنقل بين أحيائهم قبيلة قبيلة وجناحًا جناحًا يقرأ عليهم كتاب أبي بكر ويحثهم على الإسراع،
فقال:
فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع هذا القول يحسن الرد عليَّ ويقول:
نحن سائرون وكأنا قد فعلنا،
حتى انتهيت إلى *ذي الكلاع*،
فلما قرأت عليه الكتاب وقلت هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض في قومه من ساعته ولم يؤخر ذلك،
وأمر بالعسكر،
فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن،
وقد قام فيهم خطيبًا فقال فيما قاله:
ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفير معي الساعة.
فعاد أنس بن مالك في حوالي 11 رجب 12هـ وبشر أبا بكر بقدوم القوم،
فقال:
قد أتوك شعثًا غبرًا أبطال اليمن وشجعانها وفرسانها،
وقد ساروا إليك بالذراري والحرم والأموال،
وما لبث إلا أيامًا حتى قدم ذو الكلاع الحميري وقومه في حوالي 16 رجب 12 هـ،
ولم تكن هذه الاستجابة الفورية الراغبة خاصة بأهل «حمير»؛ بل كل من جاء من اليمن كان على نفس المستوى؛
وعلى سبيل المثال فقد قدم من «همدان» أكثر من ألفي رجل وعليهم حمزة بن مالك الهمداني،
وعندما قدم أهل اليمن على المدينة ودخلوا المسجد على أبي بكر فلما سمعوا القرآن اقشعرت جلودهم من خشية الله وجاشت أنفسهم، وجعلوا يبكون خاشعين،
فبكى أبو بكر وقال:
هكذا كنا، ثم قست القلوب.
وعندما رأى ذو الكلاع الحميري الصديق وجده شيخًا نحيلاً معروق الوجه وعليه ثوب خشن ولا شيء يسطع من ثيابه!
لا شيء على الإطلاق غير الورع يضيء وجهه الأبيض،
وكان ذو الكلاع قدم على الصديق من اليمن ومن خلفه ومن حوله ألف عبد من الفرسان،
وعلى رأسه التاج وعلى حلته الجواهر المتلألئة وبردته تسطع بخيوط الذهب المرصع باللآلي والياقوت والمرجان،
فلما شاهد ما عليه الصديق من اللباس والزهد والتواضع والنسك،
وما هو عليه من الوقار والهيبة،
تأثر ذو الكلاع ومن معه من السادة فذهبوا مذهب الصديق ونزعوا ما كان عليهم.
وقد تأثر ذو الكلاع بالصديق وتَزيَّا بزيه حتى إنه رئي يومًا في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة ففزعت عشيرته،
وقالوا له:
فضحتنا بين المهاجرين والأنصار!
قال: فأردتم أن أكون جبارًا في الجاهلية جبارًا في الإسلام؟
لا ها الله (أي لا والله) لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع والزهد في هذه الدنيا.
وصنعت ملوك اليمن كما صنع ذو الكلاع الحميري،
فتخلوا عن التيجان المثقلة بالجواهر،
وتركوا حلل المخمل الموشى بخيوط الذهب والياقوت والدر والمرجان،
واشتروا من سوق المدينة ثيابًا خشنة،
ووضع الصديق في بيت المال ما تخلوا عنه جميعًا من نفائس.
كان أبو بكر رضي الله عنه خير من تمثل بالإسلام في حياته بعد رسول الله،
وكان لسان حاله دعوة إلى الله تعالى،
وأبلغ نصيحة تلك التي يشاهدها الناس من طريق العين لا من طريق الأذن،
وخير الناصحين من ينصح بأفعاله لا بأقواله،
فلما رأى ملوك اليمن أن أبا بكر خليفة رسول الله وصاحب الأمر والنهي في الجزيرة العربية يمشي في الأسواق ويلبس العباءة والشملة،
علموا أن هناك شيئًا أعظم من الثياب المزركشة والذهب واللآلئ؛
هو النفس العظيمة فسعوا ليتشبهوا بأبي بكر،
واستحيوا من الله والناس أن يقابلوا خليفة رسول الله بالتاج والبرود والحلي وهو بعباءة،
فقد صغرت عليهم نفوسهم وهانت وهدأت ثورتها وانطفأت سورتها كما ينطفي النجم الصغير إذا واجه الشمس!
رحم الله أبا بكر؛ فقد كان عظيمًا في تواضعه، متواضعا في عظمته.
ما صحة ذلك ؟