علل الترمذي الكبير


صنَّف الإمامُ الترمذيُّ عِلَلَه الكبير ولم يُرتِّبْه، مما يصعُب على طالب العلم أن يجدَ الحديث الذي ينشُده ويطلبه؛ مما جعل بعضَ أهل العلم يقوم بترتيبه على طريقة الأبواب الفقهيَّة، على نسَقِ كتاب الجامع[1] للترمذي؛ مما يُسهِّل على طالب الحديث.

وقد قام بترتيب "العِلل الكبير" الإمام أبو طالبٍ القاضي، عَقيلُ بن عطيةَ بن أبي أحمدَ جعفر بن محمد بن عطيةَ القضاعيُّ رحمه الله، ت 608هـ.

وقال رحمه الله في مقدمة ترتيبه هذا: "هذا كتابٌ قصدتُ فيه ترتيب كتاب "العلل" لأبي عيسى الترمذيِّ رحمه الله على نسَقِ كتاب "الجامع" له؛ حتى يسهُلَ فيه طلبُ الحديث؛ إذ الأحاديثُ فيه مفترقةٌ منثورةٌ، فلا يضبِطُها أبوابٌ تُذكرُ فيها، فرددتُ أحاديثَ كتاب "العلل" إلى ما يليقُ بها من كتب "الجامع"، فجعلتُ أحاديثَ الطهارة في كتاب الطهارة، وأحاديثَ الصلاة في كتاب الصلاة، وهكذا إلى آخر الجامع، إلا أن يكون كتابٌ لم يكن فيه - أي: الجامع - في كتب "العلل" حديثٌ، فإني أُسقِطه، وأدخلت أحاديثَ هذه الكتب تحت أبوابها التي هي تبويبُ الترمذيِّ على ما أذكره، وذلك إما بأن يكون الحديثُ المذكورُ في "العلل" مذكورًا بعينه في ذلك الباب من كتاب "الجامع"، وإما أن يُنبِّه عليه أبو عيسى بأن يقول: (وفي الباب عن فلان من الصحابة)، ويكون الحديثُ في "العلل" مُخرَّجًا عن ذلك الصاحب، وإما بأن يكون مطابقًا للحديث الذي تضمَّنه الباب وفي معناه.

فعلى هذا النَّحو جعلتُ الأحاديث تحت الأبواب، وأسقطتُ من تراجم الأبواب ما لم يكن في كتاب "العلل" فيه الحديث، كنحو ما فعلتُ في كتب "الجامع"، وقد يجيء في كتاب "العلل" أحاديث لا يذكرها أبو عيسى في الجامع، ولا يُبوِّب فيه بابًا يقتضي أن تجعل فيه، فأفردتُ لما كان من هذا النوع فصولًا في أواخر الكتب التي تكون تلك الأحاديثُ منها، ونبَّهتُ على أنَّها ليست في الجامع، ولم أُنبِّه بذلك على ما أدخلتُه من الأحاديث في الأبواب مما ليس في "الجامع"؛ إذ يتبيَّنُ من مطالعة الكتابين ما زاد كتابُ "العِلل" على كتاب "الجامع"، وذلك هو الأقل..." ا هـ.

ويظهرُ أن الإمام الترمذيَّ صنَّف كتاب "العلل الكبير" قبل "الجامع"؛ حيث أفاد منه في تعليل مجموعةٍ من أحاديث "الجامع"، وقد دوَّن الترمذيُّ فيه آراءَ عددٍ من نُقَّاد وجهابذة الحديث؛ كالإمام الدارمي عبدالله بن عبدالرحمن (181 - 255هـ) صاحب المسند - السُّنن - وبلغت سؤالاته للدارمي - مع مذاكرته له - سبعة مواضع، يقول فيها: سألت فيها عبدالله بن عبدالرحمن، وفي موضعٍ واحدٍ قال عن حديث موقوف، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ﴾ [الحشر: 5]، قال - بعدما سأل البخاري عنه -: فاستغربه وسمعه منه، وذاكرتُ بهذا الحديث عبدالله بن عبدالرحمن، وفي موضعٍ آخر قال الترمذي: ورأيت عبدالله بن عبدالرحمن يُكثر الرواية عن أبي هشام، وذلك في حديث فاطمة بنت قيس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلَّقها زوجها.

ومن النقاد أيضًا الذين سألهم الترمذي في كتابه "العلل الكبير": الإمام البخاريُّ أمير المؤمنين[2] في الحديث، محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256هـ).
وإفادةُ الترمذيِّ من شيخه البخاري أكثرُ من غيره، يظهرُ ذلك من كثرة سؤالاته؛ حيث بلغت قرابةَ ثلاثمائةٍ وأربعين موضعًا.

وممن سألهم الترمذيُّ: الإمامُ أبو زُرعةَ الرازيُّ عبيدالله بن عبدالكريم (200 - 264هـ)، ووقعت سؤالات الترمذيِّ له في هذا الكتاب في ثمانية مواضع، وقد سأل شيخَه إسحاق بن منصور في موضعٍ، وكذا شيخَه الحسنَ بن عليٍّ الخلالَ في موضع واحد أيضًا.

وأحيانًا يُورد الترمذيُّ الحديثَ بسنده ومتنه، ويُبيِّن ما فيه من اختلافٍ أو علةٍ، دون أن يذكُرَ سؤالاتٍ لمشايخه، وفي بعض الأحايين يُورد كلام شيخه الذي سأله، ثم يُؤكِّد كلامه ببعض الأدلَّة أو ذكر أوجه الاختلاف؛ ليُدلِّل على كلامه وكلام شيخه، وفي أحايين أخرى ينقُلُ توقُّفَ شيخِه وعدم ترجيحه لشيءٍ؛ فيقولُ مثلًا: ولم أرَ محمدًا - يعني البخاريَّ - يقضي في هذا الحديث بشيء، ثم أحيانًا يرجحُ قولًا بعد نقلِه توقُّفَ شيخه، وأحيانًا يسوقُ الحديثَ ولا يذكر شيئًا، وهذا نادرٌ قليلٌ جدًّا.

وقد كان الترمذيُّ رحمه الله يسأل شيوخه المذكورين، ويُدوِّن إجاباتهم، وهي طريقةٌ معروفةٌ عند مصنِّفي الكتب، لا سيما ما يعرفُ ب "كتب السؤالات".

وهناك أحاديث في "العلل الكبير" ليست معلولةً، بل فيها أحاديثُ مقبولةٌ، لكنَّ الترمذيَّ ذكرها لإزالة شبهةِ تعليلها، وأحيانًا كانت الشبهةُ في علَّةِ حديثٍ ما، ثم زالت بعد بيانِ البخاريِّ - أو غيره - له ما يزيلُ العلةَ عنه، لكن غالب الأحاديث المذكورة في الكتاب معلولةٌ، وهو موضوعُ أصلِ الكتاب.

ولا شكَّ أنَّ علمَ العِلل من أدقِّ علوم الحديث وأهمِّها، مما يحتاجُ إلى مستوًى رفيعٍ عالٍ، وخبرةٍ عميقةٍ، وممارسةٍ طويلة، وقد يخفى بعضُ ذلك على بعض أئمة الحديث، فالترمذيُّ يسألُ شيوخَه لبيان وجود العلَّةِ أو عدمها، وقصَّةُ الإمام مسلمٍ مع شيخه البخاريِّ في سؤاله عن علَّةِ حديثِ كفارة المجلس - مشهورةٌ ومعروفةٌ في هذا الباب.
وكتابُ "علل الترمذي الكبير" كتابٌ مهمٌّ في هذا الباب، لا بدَّ لطالب العلم أن يُعنى به عنايةً فائقة.


[1] المعروف بالسنن، وتسميته بالجامع أَولى؛ لاشتماله على الفنون الثمانية: العقائد - الأحكام - التفسير - السِّيَر - الآداب - الفتن وأشراط الساعة - المناقب - الشمائل، وتسميتُه بالجامع أكثر استعمالًا وأشهر عند أئمة الحديث.
[2] أمير المؤمنين في الحديث: لقبٌ يلقَّبُ به أئمة الحديث الكبار، أمثال: شعبة بن الحجاج، والثوري، وأحمد، والبخاري.
قال ابن أبي حاتم في مقدمة "الجرح والتعديل"(1 /126): "يعني فوق العلماء في زمانه".




رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/122371/#ixzz4xzCsBVAD