حكم العودة لقيام الليل بعد أداء صلاة التراويح في أواخر رمضان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. أما بعد:
فحرصا مني على الفائدة بعيدا عن الإكثار من الكلام ؛ ألخص للقارئ الكريم هذه المسألة ؛ من خلال أبرز ما ورد فيها من أدلة وآثار أسأل الله التوفيق.
فأما تخصيص أواخر رمضان وبخاصة العشر بمزيد من الاجتهاد في القيام:
ـ بأنْ يزيد المصلي في عدد ركعات التراويح على ما كان عليه أمره في أول رمضان.
ـ أو بالعودة للتهجد في الجزء الأخير من الليل بعد أنْ صلَّى التراويح في أوّله.
ـ أو بتغييره لوقت قيامه في أواخر رمضان مِن أوّل الليل إلى آخره.
كل هذا قد جاءتْ فيه آثارٌ عن سلفنا الصالح ، ودل عليه بالعموم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره" رواه مسلم.
وعنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، "إذا دخل العشر، أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشد المئزر" متفق عليه
فبنص هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص العشر الأواخر من رمضان بعمل وطاعة واجتهاد زيادة عن أوله.
وعن وقاء بن إياس قال: "كان سعيد بن جبير يؤمنا في رمضان، فيصلي بنا عشرين ليلة ست ترويحات، فإذا كان العشر الآخر اعتكف في المسجد وصلى بنا سبع ترويحات"
رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريقين.
وكانت كل ترويحة بمقدار أربع ركعات.
وعن يونس [ابن جبير] رحمه الله قال: "أدركتُ مسجد الجامع قبل فتنة ابن الأشعث يصلي بهم عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن أبي الحسن , وعمران العبدي كانوا يصلون خمس تراويح , فإذا دخل العشر زادوا واحدة" رواه ابن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل".
وعن ذكوان الجرشي رحمه الله قال: "شهدتُ زرارة بن أوفى يصلي بالحي في رمضان ست ترويحات , فإذا كان في آخر الشهر صلى سبع ترويحات كل ليلة , وشهدته في آخر صلاته يصلي ست ركعات لا يقعد بينهن يقعد في السادسة" رواه ابن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل".
وقال سفيان الثوري: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك" نقله ابن رجب في لطائف المعارف
وكلام السلف واضح في تخصيص أواخر رمضان بزيادة في الركعات عن أوله.
وقد أجمع السلف الصالح على جَواز الزيادة على أحد عشر ركعة ، كما نقله غير واحد ؛ ودلت عليه آثارهم المستفيضة.
فلا إشكال في تخصيص أواخر رمضان بالزيادة ، لأنه تخصيص قد دل عليه عمل السلف.
وأما عن عودة المصلي لصلاة القيام جماعة ؛ بعد أن صلى التراويح في أول الليل ؛ فلها عدة صور:
1 ـ أنْ يصلي في أول الليل التراويح كاملة بوترها جماعة في البيت ثم يصلي القيام أيضا في منتصف الليل أو آخره في المسجد جماعة:
وهذه الصورة لا إشكال فيها ؛ لما ثبت عن الصحابي الجليل طلق بن علي رضي الله عنه وهو أحد الصحابة الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم من أول مجيئه إلى المدينة ، وكان له دور كبير في بناء المسجد الحرام ، فهذا الصحابي العالم الجليل قد روى عنه ابنه قيس بن طلق فقال:
"زارنا أبي في يوم رمضان ، فأمسى عندنا وأفطر ، وقام بنا تلك الليلة وأوتر بنا ، ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى بقي الوتر ، ثم قدَّم رجلا من أصحابه فقال : أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا وتران في ليلة" .
أخرجه أبو داود وغيره.
وهو أثر صحيح ؛ صححه العلامة الألباني ، لأنه من رواية الابن العدْل عما شاهده من أبيه مما يبعد فيه جدا الوهم ؛ وخاصة في حق قيس العدل الصدوق ، الذي وثقه ابن معين في رواية عنه ؛ وكذا العجلي وذكره ابن حبان في الثقات.
وإنِ اختلف العلماء في ضبطه ، فقد قال ابن القطان عن هذا الاختلاف : "يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا" ، وكذا قال العلامة الألباني بأنه حسن الحديث ؛ ولم يصفه أحد بشدة في اختلال الضبط.
فرواية مثله لما شاهده مقبولة وثابتة في قواعد علماء الحديث ، وخاصة أنَّ رواية الابن عن أبيه لها مزية تُقَوّي جانب القبول.
2 ـ أن يصلي التراويح جماعة في المسجد أول الليل ثم يرجع فيصلي القيام جماعة في المسجد أيضا.
فهذه الصورة قد ذكر فيها محمد بن نصر المروزي في كتابه "قيام الليل" عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: أنه كان لا يرى بأسا بها.
قال قتادة: "كان أنس لا يرى بأسا بالتعقيب في رمضان".
والتعقيب هو أن يصلي الرجل مع الناس التراويح ثم يعود بعدها ويصلي أيضا جماعة
وأسنده ابن أبي شيبة في مصنفه متصلا من طريق عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بلفظ: " لا بأس به إنما يرجعون إلى خير يرجونه، ويبرؤون من شر يخافونه"
وهذا إسناد رجاله ثقات ، وعباد بن العوام وإن كان ثقة فرواياته عن سعيد فيها أخطاء ونوع اضطراب ، ولكنْ قد حكم الشيخ الألباني بصحة هذا الإسناد في أكثر من حديث ،
واحتج بهذا الأثر نفسه الإمامُ أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قال ابن قدامة: "أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة ، أو يصلي التراويح في جماعة أخرى . فعن أحمد : أنه لا بأس به ؛ لأن أنس بن مالك قال : ما يرجعون إلا لخير يرجونه ، أو لشر يحذرونه . وكان لا يرى به بأسا".
وروي عن أنس بإسناد غير متصل أنه سئل عن التعقيب ؟ فأمر أن يصلوا في البيوت.
فاتفق الطريقان عن أنس على جواز العودة لصلاة القيام جماعة في البيوت بعد أداء التراويح ، واختلف الطريقان في العودة لصلاتها في المسجد ، فرخصتها الطريق الأولى بينما أشارت الطريق الثانية إلى تركها في المسجد.
ومذهب أحمد بن حنبل فيما رجحه ابن قدامة وغيره أن هذه الصورة جائزة عند الإمام أحمد وهو الذي استقر عليه قوله.
ورواية الكراهة عنه قال ابن قدامة عنها: "قول قديم، والعمل على ما رواه الجماعة"
وهي التي رجحها ابن مفلح أيضا وغيره.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وأكثر الفقهاء على أنه [التعقيب] لا يُكره بحالٍ" ا.هـ
وقال العلامة بابطين النجدي رحمه الله:
"التعقيب هو التطوع جماعة بعد الفراغ من التراويح والوتر ؛ هذه عبارة جميع الفقهاء في تعريف التعقيب أنه التطوع جماعة بعد الوتر عقب التراويح ... والمذهب عدم كراهة التعقيب" ا.هـ
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
"ولا بأس أن يزيد في عدد الركعات في العشر الأواخر عن عددها في العشرين الأول ويقسمها إلى قسمين قسما يصليه في أول الليل ويخففه على أنه تراويح كما في العشرين الأول ؛ وقسما يصليه في آخر الليل ويطيله على أنه تهجد ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها ، وكان إذا دخلت العشر الأواخر شمر وشد المئزر وأحيا ليله وأيقظ أهله تحريا لليلة القدر ، فالذي يقول لا يزيد في آخر الشهر عما كان يصليه في أول الشهر مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من طول القيام في آخر الشهر في آخر الليل فالواجب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وحث المسلمين على صلاة التراويح وصلاة القيام لا تخذيلهم عن ذلك وإلقاء الشبه التي تقلل من اهتمامهم بقيام رمضان .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وقال العلامة صالح الفوزان:
"ولو أن الإنسان صلى التراويح، وأوتر مع الإمام، ثم قام من الليل وتهجد؛ فلا مانع من ذلك، ولا يعيد الوتر، بل يكفيه الوتر الذي أوتره مع الإمام، ويتهجد من الليل ما يسر الله له، وإن أخر الوتر إلى آخر صلاة الليل، فلا بأس، لكن تفوته متابعة الإمام، والأفضل أن يتابع الإمام أن يوتر معه" ا.ه
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (ج 3/ ص 76) [ رقم الفتوى 116]
3 ـ أن يصلي الرجل القيام جماعة ؛ مباشرة بعد صلاته للتراويح جماعة ، فلا يفصل بينهما فاصل معتبر.
فهذه الصورة قد كرهها البعض واشترطوا لجواز التعقيب وجود فاصل من فعل أو زمن ، قال القاضي أبو يعلى الحنبلي:
"وعندي أن المذهب غير مختلف في ذلك، وأنهم إذا صلوا في جماعة في آخر الليل لم يكره، وإنما يكره أن يجمعوا بعقب صلاة التراويح [يعني دون فاصل بخروج أو نحوه ]" ا.هـ
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد ناقلا ومقرا:
قال أبو عبد الله [أحمد بن حنبل] في الرجل يصلي شهر رمضان ؛ يقوم فيوتر بهم وهو يريد يصلي بقوم آخرين [قال:] "يشتغل بينهم بشيء بأكل أو شرب أو يجلس" رواه المروذي وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة ؛ فيشتغل بينهم بشيء ليكون فصلا بين وتره وبين الصلاة الثانية ، وهذا إذا كان يصلي بهم في موضعه ، أما في موضع آخر فذهابه فصل ، ولا يعيد الوتر ثانية "لا وتران في ليلة" ا.هـ.
قال حرب: عن أحمد: قالَ: وأحب أنْ يكون بينهما ضجعة أو نوم أو عمل أو شيء ا.هـ
ونقل المروذي وأبو طالب عن الإمام أحمد ؛ وقد سئل عن التعقيب وهو أن يصلوا التراويح ثم ينصرفون ثم يرجعون يصلون ؛ فقال أحمد : لا بأس.
وقال في رواية أبي طالب: "لا بأس إذا صلوا التراويح وانصرفوا ثم عادوا"
و قال الحافظ العراقي في ( طرح التثريب ) : " ولما ولي والدي رحمه الله إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين واستمر على ذلك عمل أهل المدينة بعده فهم عليه إلى الآن ".اهـ
4 ـ أن يصلي التراويح جماعة ثم يعود قبل أن ينام فيصلي القيام جماعة أخرى ولو مع فاصل من انصراف أو نحوه.
فهناك من كره العودة للصلاة دون فاصل بنوم.
قال أبو بكر المروذي: وإنما الخلاف فيما إذا رجعوا قبل النوم.
قال العلامة بابطين: "وعلى القول الآخر، فنص أحمد: أنهم لو تنفلوا جماعة بعد رقدة، أو من آخر الليل لم يكره".
5 ـ أن يصلي التراويح بوترها جماعة أو منفردا ثم يعود ليصلي القيام جماعة أو منفردا
قال إسحاق بن راهويه: "إن لم يتم بهم في أول الليل [يعني لم يوتر] وأخّر تمامها إلى آخر الليل لم يكره".
وقال إسحاق: "وأما الإمام إذ صلى بالقوم ترويحة أو ترويحتين، ثم قام من آخر الليل فأرسل إلى قوم فاجتمعوا فصلى بهم بعد ما ناموا فإن ذلك جائر" ا.هـ
فإن كان له تهجد لم يوتر معهم بل يؤخره إلى آخر الليل كما سبق ، فإن أراد الصلاة معهم صلى نافلة مطلقة وأوتر آخر الليل ".اهـ
وقال العلامة ابن بابطين في الدرر السنية: "مسألة في الجواب عما أنكره بعض الناس على من صلى في العشر الأواخر من رمضان زيادة على المعتاد في العشرين الأول، وسبب إنكارها لذلك غلبة العادة، والجهل بالسنة وما عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام ... إذا تبين أن إحياء العشر سنة مؤكدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي جماعة، كما قدمنا، فكيف ينكر على من زاد في صلاة العشر الأواخر عما يفعله أول الشهر، فيصلي في العشر أول الليل كما يفعل في أول الشهر، أو أقل، أو أكثر، من غير أن يوتر؟ وذلك لأجل الضعيف لمن يحب الاقتصار على ذلك، ثم يزيد بعد ذلك ما يسره الله في الجماعة" ا.هـ
قال العلامة ابن عثيمين: لو أنَّ هذا التَّعقيبَ جاء بعد التَّراويح وقبل الوِتر، لكان القول بعدم الكراهة صحيحاً، وهو عمل النَّاس اليوم في العشر الأواخر من رمضان، يُصلِّي النَّاس التَّراويح في أول الليل، ثم يرجعون في آخر الليل، ويقومون يتهجَّدون.
وقال : "يصلي في أول الليل أربع ركعات طويلة ثم ينصرف الناس إلى بيوتهم ثم يأتون في آخر الليل ويصلون ما بقي وهذا عمل حسن طيب يوافق السنة مع راحة الناس والمطلوب هو الراحة مع فعل السنة".
وقد ذكر العلامة ابن رجب العلماءَ الذين أجازوا الصلاة بعد الوتر في رمضان وغير رمضان فقال رحمه الله: " الأكثرون، لم يكرهوا الصلاة بعد الوتر" ا.هـ
6 ـ من كره الأمر بالتعقيب وإملال الناس بكثرة الصلاة
قال الحافظ ابن رجب:
"وكره الحسن أن يأمر الإمام الناس بالتعقيب؛ لما فيهِ من المشقة عليهم، وقال [الحسن]: من كانَ فيهِ قوة فليجعلها على نفسه، ولا يجعلها على الناس".
قال ابن رجب: وهذه الكراهة لمعنى آخر غير الصلاة بعد الوتر.
حدثنا وكيع، قال: ثنا الربيع عن الحسن: أنه كره التعقيب في شهر رمضان، قال الحسن: "لا تملوا الناس"
قال ابن رجب: "وعلل الحسن بقوله: "لا تُملوا الناس"
فهنا الحسن أجاز التعقيب لمن عنده قوة دون أن يحمل غيره عليه.
7 ـ أثران مجملان في هذه المسألة
ما سبق من آثار كلها واضحة ، وهي تتكلم عن جواز التعقيب بشروط وبدون شروط
أما كراهة التعقيب دون إيضاح للمراد ؛ هل هو التعقيب بعد إتمام التراويح بوتره كما كرهه إسحاق ؟ أم كراهته بدون فاصل ؟ أم كراهته قبل النوم كما تقدم ؟ وإنما بسياق مجمل ؛ فهو ما نقله ابن رجب دون إسناد عن الإمام الثوري ، فقد نقل قوله: "التعقيب محدث".
وهو أثر مجمل ، فهل أراد التعقيب المباشر بعد التراويح بدون فاصل ؟
أم أراد التعقيب بعد إتمام التراويح بصلاة الوتر ؟
أم أراد التعقيب قبل النوم ؟
ومثله ما يروى عن قتادة وسعيد بن أبي عروبة من الكراهة.
وهذه مذاهب السلف في المسألة بوضوح.
وأرجحها والله أعلم من أجاز التعقيب بعد وجود فاصل بين التراويح وما بعده ، وأحوطها تأخير الوتر بعد القيام الثاني والله أعلم.
"وأكثر الفقهاء على أن [التعقيب] لا يُكره بحالٍ" ا.هـ كما قال ابن رجب رحمه الله في كتابه فتح الباري.
أما أصل التعقيب ، وهو أن يصلي المسلم ركعات من التراويح جماعة دون الوتر ، ثم يعود بعد نومه إلى الصلاة في الليل ما شاء ثم يوتر فهو جائز بلا خلاف أعلمه ولعله بالإجماع والله أعلم.
وكتبه : محمد بن خليفة الرباح
<span style="font-family:traditional arabic;"><font size="5"><span style="color: rgb(0, 0, 255);">http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=374432