قال ابن رجب رحمه الله -أخرج أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بين يدي الساعة ، حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
فقوله صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالسيف " :
يعني أن الله بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة ، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف ، قال الله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } .
وفي الكتب السالفة وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث بقضيب الأدب ، وهو السيف . ووصى بعض أحبار اليهود عند موته باتباعه وقال : انه يسفك الدماء ، ويسبي الذراري والنساء ، فلا يمنعهم ذلك منه . وروي أن المسيح عليه السلام قال لبني إسرائيل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه يسل السيف فيدخلون فيه دينه طوعا وكرها
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف بعد الهجرة لما صار له دار وأتباع وقوة ومنعة ، وقد كان يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة ، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحِجر وقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل ، قد سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم . فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول ، فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم ، وفعلوا ذلك به ثلاث مرات ، فوقف وقال : " أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفس محمد بيده ، لقد جئتكم بالذبح " . فأخذت القوم كلمته ، حتى ما فيهم رجل إلا وكأنما على رأسه طير واقع ، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول ، حتى انه ليقول : انصرف يا أبا القاسم راشداً ، فوالله ما كنت مجهولا .
وقال محمد بن كعب : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول : إن محمداً يزعم أنكم ما بايعتموه عشتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن ، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون فيها ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله . فقال : " وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً ، وإنه لآخذهم " .
وقد أمر الله تعالى بالقتال في مواضع كثيرة ، قال تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } وقال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منّاً بعد وإما فداء } ولهذا عوتبوا على أخذ الفداء منهم أول قتال قاتلوه يوم بدر ونزل قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة }
وكانوا قد أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفداء من الأسارى وإطلاقهم .
قال ابن عيينة : أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف : سيف على المشركين من العرب حتى يسلموا ، وسيف على المشركين من غيرهم حتى يسلموا أو يسترقوا أو يقادوا بهم ، وسيف على أهل القبلة من أهل البغي .
. والذي يظهر إن في القرآن أربعة سيوف : سيف على المشركين حتى يسلموا أو يؤسروا ، فأما منّاً بعد وإما فداء ، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة ، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب ، وسيف على أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، وسيف على أهل البغي ، وهو المذكور في سورة الحجرات . ولم يسل صلى الله عليه وسلم هذا السيف في حياته ، وإنما سله علي رضي الله عنه في خلافته . وكان يقول : " أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة " .
وله صلى الله عليه وسلم سيوف أخر ، منها : سيفه على أهل الردة وهو الذي قال فيه : " من بدل دينه فاقتلوه " . وقد سله أبو بكر الصديق رضي الله عنه من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب .
ومنها سيفه على المارقين ، وهم أهل البدع كالخوارج . وقد ثبت عنه الأمر بقتالهم مع اختلاف العلماء في كفرهم . وقد قاتلهم علي رضي الله عنه في خلافته مع قوله : " انهم ليسوا بكفار " .
وقد روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين . وقد حرق علي طائفة من الزنادقة ، فصوب ابن عباس قتلهم ، وأنكر تحريقهم بالنار . فقال علي : " ويح ابن عباس ، لبحاث عن الهنات " .قوله صلى الله عليه وسلم : " بين يدي الساعة " :
يعني أمامها ، ومراده أنه بعث قدام الساعة قريباً منها . ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الحاشر ، والعاقب كما صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : " أنا محمد وأحمد ، والماحي ، الذي يمحو الله بي الكفر ، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، والعاقب الذي ليس بعدي نبي " .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بإصبعيه ؛ السبابة والوسطى ، خرجاه في الصحيحين .
وخرج الإمام أحمد من حديث بريدة : " بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني " . وللترمذي : " بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه لهذه - لإصبعيه السبابة والوسطى - ليس بينهما إصبع أخرى " والصحيح أنه يدل من ذلك على القرب من الساعة .