القاضي الفارس
الفرج بن كنانة وأسد بن الفرات
للأستاذ ناجي الطنطاوي
نحن نتصور القاضي رجلاً ذا هيئة وسمةٍ ووقارٍ ،هادئاً ساكناً قليل الحركة ، ولكنّ كثيراً من أجدادنا كانوا إلى جانب فضلهم وعلمهم أقوياء الأجسام ذوي عزيمة وجرأةٍ وأصحاب حميةٍ وشجاعة، وكانوا يعتبرون الفروسية والتمرن والتدرب على فنون القتال باباً من أبواب العلم الشرعي لأنه من متطلبات الجهاد ، والجهاد من أسمى أنواع العبادة.
وقد ذكر صاحب كتاب (تاريخ قضاة الأندلس) أن الفرج بن كنانة وهو من الفقهاء المعروفين ومن كبار قضاة قرطبة، كان فارساً شجاعاً يقود الخيل، وعيَّنه الأمير قائداً للجيش ، فخرج إلى الغزو ، وقاتل النصارى وقتلهم قتلاً ذريعاً ثم رجع إلى عمله في القضاء، ثم خرج ثانياً إلى الثغر، أي إلى حدود الأندلس، وغزا مع الغزاة وجاهد مع المجاهدين، وكانت له منزلة رفيعة.
وكان أسد بن الفرات من كبار القضاة في إفريقية، وكان مع ذلك أحد الشجعان المعروفين وأحد الفرسان الذين يشار إليهم بالبنان وكان أسداً مثل اسمه، كلَّفه الأمير بغزو جزيرة صقلية، فخرج في عشرة آلاف رجل، فيهم ألف فارس، ولما خرج من بلده خرج معه وجوه أهل العلم يشيعونه وقد صهلت الخيول وضُربت الطبول وخفقت الأعلام والبنود، فوقف وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا معشر الناس ما بلغت هذه المنزلة التي ترونها إلا بالأقلام فاجهدوا أنفسكم فيها وثابروا على تدوين العلم تنالوا به خير الدنيا والآخرة . ثم خرج مع الجيش والتقى بملك صقلية الذي كان في جيش يبلغ عدده مئة ألفٍ وخمسين ألفاً، وكان جيش المسلمين لا يزيد على عشرة آلاف أي بنسبة جندي واحد إلى خمسة عشر جندياً ، قال الراوي: وشجَّعهم ثم حمل وحملوا على العدو ، وقاتلوا النصارى حتى هزموهم وشتتوا جموعهم وكان أمير الجيش وقاضي المسلمين وتوفي عام 213 للهجرة ـ رحمه الله تعالى ـ .
وما أجدرنا نحن اليوم بأن نقرأ مثل هذه الأمثلة الرائعة من تاريخنا لنستثير النفوس الراكدة ونهز القلوب الخاملة، ونوقظ فيها روح الإيمان وشعلة الجهاد، فالمؤمن الصادق لا يعرف الخنوع ولا يصبر على الذل، ولا يركن إلى الراحة والنوم، وهو مأمور بالجهاد والغزو وقتال أعداء الله ومحاربتهم دون هوادة ولا تردد، وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم أشداء على الكفار ، وأمرهم في الآية الأخرى بقوله :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ] {التوبة:123} .صدق الله العظيم.