ما دفعني للبحث في هذا الأمر بالرغم أنه من المسائل التي لا ينبني عليها عمل أنني وجدت الكثير من النساء ممن يصرحن بقلة اشتهاؤهن للجنة بسببه .. بل وصل الحال بالبعض أعاذنا الله وإياكم إلى الشك في عدالة الله سبحانه وتعالى عما يصفون .. وقرأت فتوى على إحدى المواقع الإسلامية الشهيرة يقول فيها المفتي : أن الله قضي بتمييز الرجل على المرأة في الجنة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!! ... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم !!
والأمر الذي سبب كل هذه الجلبة هو : للرجال في الجنة حور العين فماذا للنساء ؟!
حسناً ... هذا الأمر من الأمور الغيبية ...
والأمور الغيبية لا يجوز الخوض فيها إلا بنص صحيح ( قاعدة فقهية ).
وقد ورد في القرآن الكريم :
قول الله تعالى :
((من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) سورة النحل .
إذاً فالذكر والأنثى سواء عند الله في الأجر والثواب لا تمييز بينهما .
وقد قال الله تعالى مبشراً كل المؤمنين ذكوراً وإناثاً وإن كان الخطاب للذكور فالإناث يدخلن فيه كما هو معروف لغوياً وفقهياً ما لم يؤتي بدليل على الاختصاص:
(( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير )) سورة الشورى .
وقال تعالى : (( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد )) . سورة ق .
وقال تعالى : (( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم )) سورة فصلت .
إذاً فالقرآن الكريم في غير موضع نص و بوضوح أن للمؤمنين في الجنة ما تشتهي أنفسهم .. ولهم ما يشاءون ....
فيقتضي ذلك أن التي تشتهي أن تتزوج ملاكاً لها في الجنة ما تشتهي .. والتي تشاء أن تتزوج رجلاً من بني آدم لها ما تشاء .
إلا أن بعض العلماء رحمهم الله وأثابهم على اجتهادهم كانت لهم أقوالاً أخري في هذه المسألة أرى من الواجب عدم إغفالها ومناقشتها :
في شأن التي لا زوج لها :
قيل : ليس لها إلا رجلاً من أهل الدنيا ...
قال ابن عثيمين رحمه الله في فتواه : أن الأيم ستتزوج رجلاً من أهل الدنيا وكذلك قال الشعراوي رحمه الله .. بتصرف .
إلا أن فضيلتيهما لم يذكرا على قولهما أي دليل !!
وفي شأن المتزوجة :
قيل : ليس لها إلا زوجها واستدلوا بالآتي :
قول الله تعالى :
((جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم )) سورة الرعد .
وقوله عز وجل : (( ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون )) سورة الزخرف.
وليس في الآيتين ما ينص على زواج المؤمن من زوجته في الجنة ... بل النص أنها إن صلحت ستدخل الجنة مثله ...
قيل : وما فائدة نص الآية على الجمع بين الرجل وزوجته في الجنة إذا كانت ستتزوج غيره؟ قلت : الآية لم تنص على الجمع بين الرجل وزوجاته في الجنة أصلاً ... الآية تقول : أن المؤمنين سيدخلون الجنة وسيدخل الجنة مثلهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وكذلك قالت الآية الثانية ... مثلهم وليس معهم !!
فتلك ( الواو ) هي واو العطف التي تفيد الاشتراك في الحكم وليست ( واو ) المعية التي تفيد المصاحبة .. وإلا فإعراب ( من ) : اسم موصول مبني في محل ( رفع ) معطوف وإعراب ( أزواجكم ) : معطوف مرفوع ... وليس ( مفعول معه منصوب ) !!
فإن قلتم : وما فائدة تبشير المؤمن بدخول زوجته الجنة وهي ستتزوج غيره ؟!!
قلت : الأمر ليس على هذا النحو ... فعندما يقرأ المؤمن القرآن الكريم .. فيجد هذه الآية : (( والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبي الدار )) .. فيقول لنفسه : أنا من هؤلاء .. فما عقبى الدار ؟ فيجد الآية التالية : (( جنات عدن يدخلونها )) .. هؤلاء لهم الجنة فما مصير أبي وأمي وزوجتي وأولادي ؟هل سيدخلون الجنة أيضاً أم أن المذكورين فقط هم من لهم الجنة ؟! فيكمل القراءة (( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم و ذريا تهم )) .
وفي سورة الزخرف : (( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين * يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ))
فيقول : أنا من المتقين ... ولكن كيف لا يخافون ولا يحزنون مع كونهم لن ينسوا الأخلاء ولن يكون بينهم إلا الخير ؟؟ وأول خليل يأتي في ذهن المرء هو زوجه فكيف لن يخاف عليه وعلى مصيره ؟! فيأتي قول الله تعالى بالجواب : (( ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون )) .
فالمرء ينشغل بأمر ذويه فجاءت الآيات تبشر المؤمنين بأن ذويهم الصالحين سيدخلون الجنة مثلهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
أما الدلالة السابق ذكرها ... ففيها نظر .. لأن فكرة أن الله سيجعل الرجل مع زوجته لم تنص عليها أي من الآيتين وعموماً لا يجزم بنفيها بل قولي أنها دلالة ظنية مرجوحة لأن النص لم يأتي بها ولم يشتمل عليها.
قول الله تعالى :
(( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين )) سورة الواقعة.
هذه الآيات تفيد أن نساء الدنيا مقصورات على أصحاب اليمين .
فقد ورد تفسير عن الرسول صلوات الله عليه وسلامه : (( إن من المنشآت اللائى كن في الدنيا عجائز عمشاً رمصاً )) وقد روى هذا التفسير عن ابن عباس أيضاً.
الأظهر أن هذه الآيات تتحدث عن حور العين .. فقوله تعالى : لأصحاب اليمين .. هذه اللام صلة فأنشأناهن كما وجهها ابن جرير الطبري .. وهو حجة في اللغة العربية كما هو معروف .. فكأن الله أنشأ هؤلاء فقط ليكن أزواجاً لأصحاب اليمين .. وهذا ليس حال المؤمنات اللائي يبعثن للحساب والجزاء .
كذلك فقد استظهر ذلك أبو حيان ودليله أن الإنشاء لغة معناه الخلق من العدم .. ومجازاً يطلق على إعادة الخلق ...
وكما تقول القاعدة الفقهية : الأصل في المعاني الحقيقة لا المجاز .
أما الحديث المذكور فمحكوم بضعفه .
وأما الأثر ففيه أبو عبيد الوصابي عن محمد بن حمير وقد قال ابن أبى حاتم فى أبو عبيد في الجرح والتعديل : أدركته وقصدت السماع منه فقال لي بعض أهل حمص : ليس بصدوق ولم يدرك محمد بن حمير فتركته .
والأصل لا يصرف عنه بحديث ضعيف فضلاً عن الأثر الضعيف .
قول الله تعالى : (( عندهم قاصرات الطرف أترابا)) سورة ص .
فالمؤمنة في الجنة لن تشتهي أصلاً سوى زوجها .. فلن يمكنها الله من غيره .
الآية تقول : لكم فيها ما تشتهي أنفسكم .. وليس ما ستشتهي أنفسكم ... فالمؤمن له في الجنة ما تشتهيه نفسه الآن ولاحقاً حيث يعبر الفعل المضارع عن الحاضر ويفيد الاستمرار والتجدد في المستقبل .. فإن قلتم أن الاشتهاء لن يحدث في الآخرة ولذلك لن يمكن الله المؤمنات منه.. فجواب ذلك: بأن الله قد وعد المؤمنين بتمكينهم ما يشتهون في الدنيا والآخرة وليس ما سيشتهونه في الآخرة فقط !!
كما أن هذه الآية أيضاً الظاهر فيها أنها تتحدث عن حور العين :
لأن هذه الصفة من صفاتهن تحديداً فقد وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم هذه أحدها والمرة الأخرى في سورة الرحمن:((فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان )) والمرة الباقية في سورة الصافات: ((عندهم قاصرات الطرف عين) .. وفي هاتين المرتين .. المنعوتات هن حور العين بلا شك .
و لأن ذكرهن ورد في تلك الآية في سياق نعيم المتقين فهن متاع في الجنة ليس إلا وقد قال الله تعالى بعدها مباشرة (( هذا ما توعدون ليوم الحساب * إن هذا لرزقنا ماله من نفاذ )) وهذا الوصف لا توصف به المؤمنة التي تدخل الجنة مالكة آمرة مكرمة متمتعة ... فهو أقرب لحور العين منه للمؤمنات .
أما التي تزوجت بأكثر من رجل فاختلفوا فيها :
فقيل : ستتزوج بأحسنهم خلقاً ودليلهم حديث شريف : جاء في حديث طويل عن أم سلمة رضي الله عنها وفيه : قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها , من يكون زوجها ؟ قال : يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً فتقول أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقاً في دار الدنيا فزوجنيه , يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة . أخرجه الطبراني
وهذا حديث حكم بضعفه .
وقال ابن عثيمين رحمه الله : ستخير بينهما فتختار من تشاء ...
و مرة أخرى لم يذكر فضيلته على ذلك أي دليل .
وقيل : هي لآخر أزواجها .... استناداً على هذا الحديث :
خطب معاوية أم الدرداء فأبت أن تزوجه قالت : سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المرأة لآخر أزواجها ولست أريد بأبي الدرداء بدلاً وقد تتبع طرقه الشيخ الألباني رحمه الله : فأجزم بضعف أحدها لاختلاط الراوي وذكر في الطرق الأخري ورود مجهولين لم يجد لهما ترجمة .. إلا أن أحدهما الجوهري وقد وجد له الألباني رحمه الله قول أبو الشيخ عنه : ثقة حسن الحديث ... ثم ذكر له هذا الحديث كواحد من حسان حديثه . ثم قال الشيخ الألباني عقب ذلك : والحديث بجموع الطريقين قوي والمرفوع منه صحيح !!
والصحيح : أن الحديث ضعيف فقد ورد من طرق كثيرة أصحها طريق به مجهول ...
لم يجد له الشيخ الألباني ترجمة إلا عند أحد العلماء وهذا العالم ساق له ذلك الحديث كواحد من حسان حديثه ... أي أن الحديث في أحسن أحواله قد يصل إلى مرتبة التحسين ... لكنه لم يصل إلى مرتبة الصحيح أبداً !!
ولكن مذهب الألباني في تصحيح الأحاديث بمجموع الطرق مذهب معروف بين أهل العلم ... ولا مجال لشرحه ها هنا .
فإن قيل : ومن أنتي حتى تطعنين في حديث صححه الألباني ؟!
قلت : لست بشيء في علم الحديث .. إلا أنني تجرأت على قول ذلك لسببين:
الأول : أن الحديث لو ثبتت صحته بشكل قطعي لما خالفه الشيخ ابن عثيمين .. فلا اجتهاد مع نص .
أما الثاني : قول أحد العلماء الأفاضل بل وهو من الذين يتبنون رأي أن المرأة لآخر أزواجها .. : (( لاحتمال حسن الحديث مرفوعاً )) ... ففضيلته لم يستطع الجزم بصحة الحديث ولا حتى بتحسينه لأمانته العلمية التي أغبطه عليها .. وقد قال أن له شواهد تصلح لتقوية المرفوع .. وهو قول وجيه لولا أن هذه الشواهد لا تخلو من ضعف كما أقر فضيلته بذلك .
http://islamport.com/w/ftw/Web/2601/6149.htm
فالصحيح أن هذا الحديث ... ضعيف إلا أنه يحتمل التحسين .
الترجيح و الخلاصة :
كل الأقوال والأدلة السابق ذكرها .. ليس فيها ما يطمئن القلب إليه .. لأن الشك يعتريها كلها وإن كان بنسب متفاوتة ... إما شك ثبوت وإما شك دلالة ....
أما نص القرآن الكريم الذي يقر بأن :
(( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد )) ......
(( لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون )) ...
فمن ناحية الثبوت : فهي يقينية الثبوت .
ومن ناحية الدلالة : فالأصل (وهو الذي عليه اليقين) أن الخطاب عام يشمل الرجال والنساء و
كذلك ورود وتكرار ( ما ) وهو الاسم الموصول الذي يفيد العموم بلا شك .أي أن هذه الأدلة يقينة الثبوت ويقينة الدلالة .
وأحد الأصول الشرعية : أن اليقين لا يزال بالشك.