-21-
تأملت ُحال الناس اليوم في تسابقهم في رمضان للخير والطاعة وغفلتهم عن ذلك فيما سوى ذلك، فحصل عندي يقين- وقد كان ذلك قبلُ كائنا- أن هذا الشهر مبارك محفوف بالملائكة، مقيدة شياطين الإغواء وتزيين الشهوة، والترغيب في المعصية، تصديقا للخبر الوارد في ذلك، وإن كنا نشاهد في بعض ليالي الشهر معاصي وذنوبا، ومصائب فنونا وألوانا، فإن ذلك من النفس الأمارة بالسوء، فلا داعي لتكذيب الخبر، والدفع في الصدر، فإن للفهم في ذلك لمتسعا، وللإدراك السليم لمجالا...
وفي الحق فإن ليالي هذا الشهر لمما تُلتمس بركاتها، وتُطلب عوائدها، وتُرجى خيراتها ونفحاتها، ويتأكد ذلك ويرغب فيه في هذه العشر الأواخر ، لموضع ليلة القدر منها...ليلةٍ خير من ألف شهر، وهل يعيش المسلم ألف شهر؟؟؟
ونقرأ في هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه إذا دخلت العشر الأواخر شد مئزره، وأحيى ليله، وأيقظ أهله...ولعمر الله هذا صنيع من أحب دوام الطاعة، وبقاء العبادة، ولم يمل من الصيام ولم يضجر من القيام، وعلم أن ملاك الأمر كله حسن الختام...
وليلة القدر مخفية لترغيب الناس في الطاعة، والحرص على العبادة، وإن كان أغلب أهل زماننا على أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، فتراهم على الصلاة مقبلين، ولأنواع الخير فاعلين، ويكثر ذلك ويشتد حتى من العصاة الذين لا يصلون، ومن المذنبين الذين لا يلتزمون، فالكل متوجه إلى رب رحيم يطلب ما عنده، ويرجو خيره، ويأمل مغفرته ورحمته وجوده...
وفي الحق فإن التماس الليلة الشريفة لا يكون في ليلة معينة، بل يكون في الوتر من العشر كما أرشد إلى ذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم...
ولأهل هذا الزمان في هذه الليلة العظيمة عادات معروفة وممارسات مشهورة، فأهل أفقنا يصوِّمون في نهارها صبيانهم، وفيهم من يجعلها يوما لزيارة المقابر وإن كان ذلك غير وارد ولا محكي عمن سلف ممن يقتدى بفعله، وفيم من يفطر في ليلتها على طعام مخصوص، لا يفطر عليه في باقي ليالي الشهر، ومنهم من يقوم الليل كله في مساجد لا توصد أبوابها، ومنهم من يقوم جزءا منه لا يزيد عن ورده صلى الله عليه وسلم المنقول، ومنهم يعمر ليله بقراءة القرآن الكريم ويقسم أجزاءه بين أناس مخصوصين يقرؤون منه قسما يرجون الختم عند مطلع الفجر وهكذا....
اللهم وفقنا لقيام ليلة لقدر وألهمنا أن ندعوك فيها قائلين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا...
-22-
تأملت حال الناس اليوم في صلاتهم للتراويح جماعة وإقبالهم على ذلك، فألفيت أكثرهم يعجبه أن يكون مصليا وراء إمام حسن الصوت، ندي القراءة، عذب التلاوة، حتى إن بعض الناس يشدُّ الرحال من مدينة إلى أخرى طلبا لذلك، مفضلا بذل الجهد في سبيل الوصول إلى إمام قارئ متقن في الأداء، حسن في التلاوة، يأخذ بالألباب، ويأسر بتجويد كلام ربِّ الأرباب.
وفي الحق فإن تلاوة المتقن التلاوة، وقراءة حسن القراءة، وإمامة عذب الصوت، تيسر القيام، وترغب في طول القنوت و الالتزام، فتهَشُّ لذلك النفس وتتشوف، وتتوق إلى ذلك وتتشوق، وتلذُّ بذلك الأعين والخواطر، ويطمئن إلى ذلك القلب والجد العاثر، بيْد أن في كثير من تصدي أئمة هذا الزمان الذين هم على هذا الضرب – لهذا الأمر بعض مؤاخذات، فمن ذلك: الإكثار من إبكاء المصلين، وقصد ذلك وتعمده، واستكراه ذلك والمبالغة فيه، إلى حد يكاد المصلي يخرج عن طوره، ويصير من يراه يظنه خارجا عن الصلاة ...ولسنا هنا نقول بعدم جواز ذلك ولا بمنعه، فلقد بكى الصالحون من قبل في الصلاة وأبكوا، وأشجوا وذرفت عيونهم بسخي الدمع وأخلصه، وأكثره وأقواه وأغزره وأشجاه...
وإنما المذموم من ذلك ما كان مصطنعا غير خالص لوجه الله، وماكان منه متعمدا خاليا من النية الصالحة لا يراد به الإخلاص.
وأما خروج ذلك عن الحد ومجاوزة القصد، ووصول الأمر فيه إلى الإغماء والسقوط، والتمايل المفضي إلى الرقص والترنح..فذاك مما ليس يعرف من هدي من هو أهل للتأسي والاقتداء.
وأحق ما قال العبد في هذه الليالي الشريفة: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني..