أثارت فتوى فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك بشأن مقالين نُشرا في صحيفة سعودية، حيث تضمنا قدحاً وطعناً في ثوابت الشريعة الإسلامية، ضجة رجت لها الساحة السعودية، وما تلاها من بيانات وفتوى، طارت بها صحف سيارة وقنوات فضائية، تنعي حرية الرأي، وتسكب دموع الأسى على من تعتبرهم ضحايا للإرهاب الفكري، وتجاوزت بعض الأقلام في نقدها، ليُلحق فتاوى ثلة من كبار العلماء بتيار العنف، في موقف يعكس "مكارثية" هذه الأقلام، التي دأبت على استعداء السلطة وعموم الناس ضد خصومها الإسلاميين، في تنكر واضح لأحد أهم مبادئهم التي نادوا بها مراراً، وهو حرية الرأي والفكر، وقد ارتكبت هذه الأقلام خطأين منهجيين في نظري:
الخطأ الأول: أن مسائل الكفر والإيمان والفسوق ومثيلاتها من قضايا الشرع من شأن أهل الاختصاص بالعلم الشرعي، ولو أن أحد الفقهاء تحدث مثلاً في مسألة طبية صرفة ..لجاز للعقلاء الإنكار عليه، بل ومطالبة السلطات بمنعه من الحديث في علم ليس من اختصاصه، إذ إن التسامح في مثل هذا قد يلحق الأذى بأرواح الناس وأبدانهم، وقديماً قيل "من تكلم في غير فنه جاء بالعجائب"، وفي ظني أنه قد يأتي بالغرائب والمصائب أيضاً !!!
والمتأمل في معظم الأقلام التي انتقدت فتاوى العلماء، يجد أن أصحابها ليس لهم دراية معمقة بالعلم الشرعي، ولهذا جاءت حيثيات اعتراضاتهم وأقوالهم "أجنبية" عن المسألة المثارة.
الخطأ الثاني: أن دستور هذه البلاد المعلن هو الشريعة الإسلامية، وفي كل بلاد العالم يمنع منعاً باتاً المساس بدستور البلد ومخالفة ثوابته، ومن يتجرأ على ذلك، يكون عرضة للمحاسبة والمحاكمة، وبحسب رأي علماء الشرع في البلاد، والذي يعد أحدهم عضو لأكبر هيئة شرعية أقامها ولي الأمر، فإن المقالين تضمنا مخالفة صريحة وخطيرة لدستور هذه البلاد، وهو الشريعة الإسلامية، والواجب على كل قلم وطني شريف، أن يقف منافحاً عن دستور البلد وثوابته، لا أن يجهد في دعم المتعدي على الدستور والدفاع عنه، وفي هذا دلالة على تغليب الخصومة الفكرية على المصلحة الوطنية.
لقد شكلت هذه الفتاوى، مع كونها مطلباً شرعياً، حماية لدستور البلاد، والذي اجتمع عليه الناس منذ تأسيس هذه البلاد، وتقوية للُحمتها الوطنية، إذ إن فتح المجال لمن يخترق الدستور، يسهم في إثارة جو من الانقسامات، التي تهدد السلم الأهلي في بلد تحيط به الأطماع والتحديات.
كما أن من شأن هذه الفتاوى، أن تساهم في صناعة نوع من الشعور العام لدى الناس، بالامتعاض والنفور والرفض لكل من يطعن في عقيدة هذه الأمة وهويتها، مما يشكل عاملاً اجتماعياً ضاغطاً، وهذا العامل وإن لم يكن مقصوداً من قبل هؤلاء العلماء، ولكنه يأتي تبعاً لانحياز عموم الناس لثوابت دينهم وثقافتهم، وهذا قد يسهم في مراجعة أصحاب هذه المقالات لأقوالهم، ومنع غيرهم من أصحاب التوجهات المشابهة، سيما ونحن نعاني اليوم من انتهاك صارخ لمقدساتنا من قبل غير المسلمين، فكيف لنا أن نتصدى لهذه الإساءات المتكررة وهناك من بني جلدتنا من يؤدي المهمة نفسها عبر نافذة مشتركة، وهي "حرية الرأي والفكر".
لقد كشفت هذه الحملة عن التناقض الصارخ في مواقف العديد من المثقفين والمفكرين، فقد غاب في خطابهم ومقالاتهم مبادئ مشروعهم الفكري، والذي جعلوا من أولوياته، أهمية تقبل واحترام كافة التيارات والمذاهب داخل الوطن، ولكن هؤلاء المفكرين مارسوا مع خصومهم إقصاءً مقيتاً، ولهجة تآمرية موغلة في التجريم ضد الإسلاميين، وهم الذين يشكلون التيار الأكبر داخل الوطن بشهادة صناديق الانتخابات التي طالما دعوا للاحتكام إليها، وإن اختلفوا في تحليل أسباب هذه الشعبية الجارفة للإسلاميين.
وغياب الحس الوطني لا يُستغرب من قبل فئة من الكتّاب، الذين اتسمت معالم مسيرتهم بالاضطراب، والتقلب، والتطرف، ويعيشون صراعاً داخلياً تجلى في صورة مقالات هجومية لكل ما يمت لماضيهم بصلة، ولكن المستغرب من أساتذة ومثقفين دأبوا عبر منابرهم الإعلامية، على الدعوة لائتلاف كافة القوى والتيارات، لرقي الوطن وتنميته حتى اتسعت صدورهم ومنابرهم للعديد من رموز التيارات والطوائف، دون أن تتسع صدورهم ومنابرهم لأصحاب التوجه السائد في النسيج الوطني.
والمتابع، يلحظ أن هؤلاء المثقفين يحللون ويقيمون القضايا المحلية بمنهجية (كمالية أتاتوركية) تجاه الإسلاميين، ولهذا نرى الإقصاء وحملات التشويه، حتى وإن جاءت مواقف خصومهم حماية ومنافحة عن دستور هذا الوطن، وهو الشريعة الإسلامية