الخازن الأمين


من فضل الله تعالى على عباده أن جعل المشارك في الطاعة مشاركاً في الأجر، فالصدقة طاعة وقربى إلى الله، والمتصدق له الأجر العظيم من رب العالمين، وهذا الأجر لا يناله فقط صاحب الصدقة، بل من كان مسلماً وخازناً أمينا لها، يرعاها ويؤديها بحقها، ملتزماً شروطها، مع الرضى والسرور، وطيبة النفس منه، فله بذلك أجر كما لصاحب الصدقة أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، لهذا نصيب بماله، ولهذا نصيب بعمله، لا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله.
أخرج البخاري في صحيحه، برقم (1438). ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين برقم (1023)، واللفظ لمسلم، بالسند عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي [ قال: «إن الخازنَ المسلمَ الأمينَ، الذي يُنْفِذُ (وربما قال يُعطي) ما أُمرَ به، فيعطيه كاملاً مُوَفَّراً، طيبةً به نفسُهُ، فيدفعُه إلى الذي أُمر له به؛ أحدُ المتصدقين»(1).
والحديث يخبرنا ويبشرنا رسولنا الكريم [ بأن الخازن المسلم المؤتمن، الذي عمل على حفظ الأمانة ورعاها، وأداها كما أَمر بذلك صاحبها، مع طيب نفس منه، فهو بهذا يكون أحد المتصدقين.
قال النووي: «فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء. واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن أذن أصلاً فلا أجر للخازن، بل عليه وزر بتصرفه في مال غيره بغير إذنه»(2).
وقال ابن حجر في فتح الباري : «وقد قيد الخازن فيه بكونه مسلما فأخرج الكافر لأنه لا نية له، وبكونه أمينا فأخرج الخائن لأنه مأزور، ورتب الأجر على إعطائه ما يؤمر به غير ناقص لكونه خائناً أيضاً، وبكون نفسه بذلك طيبة لئلا يعدم النية فيفقد الأجر وهي قيود لا بد منها»(3).
وفي شرح الحديث قال الشيخ محمد بن صالح عثيمين - رحمه الله -: «الخازن مبتدأ، وأحد المتصدقين خبر، يعني أن الخازن الذي جمع هذه الأوصاف الأربعة: المسلم، الأمين، الذي ينفذ ما أمر به، طيبة بها نفسه.
فهو مسلم : احترازاً من الكافر، فالخازن إذا كان كافراً وإن كان أميناً وينفذ ما أُمر به ليس له أجر؛ لأن الكفار لا أجر لهم في الآخرة فيما عملوا من الخير، قال الله تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}(الفر قان: 23)، وقال تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }(البقرة: 217)، أما إذا عمل خيراً ثم أسلم فإنه يسلم على ما أسلف من خير ويعطى أجره.
- الوصف الثاني: الأمين، يعني الذي أدى ما اؤتمن عليه، فحفظ المال، ولم يفسده، ولم يفرط فيه، ولم يعتد فيه.
- الوصف الثالث: الذي ينفذ ما أمر به، يعني يفعله؛ لأن من الناس من يكون أميناً لكنه متكاسل، فهذا أمين ومنفذ يفعل ما أمر به، فيجمع بين القوة والأمانة.
- الوصف الرابع: أن تكون طيبة به نفسه، إذا نفذ وأعطى ما أمر به أعطاه وهو طيبة به نفسه، يعني لا يمن على المعطى، أو يظهر أن له فضلاً عليه بل يعطيه طيبة به نفسه، فهذا يكون أحد المتصدقين مع أنه لم يدفع من ماله فلساً واحداً(4).
والمؤتمن هو أحد المتصدقين، فالمتصدق طرف والمؤتمن على تلك الصدقة طرف آخر، وكلاهما ينالون من الله تعالى الأجر بهذا العمل؛ فالذي يرعى الصدقة ويحفظها ويوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها بالوجه الصحيح الذي اشترطه صاحب الصدقة، وكان أميناً على ذلك المال فلا يحابي ولا يداهن، ولا يمنُ على أحد، فيعطيه كاملاً من دون أن يقتطع لنفسه منه، وهو في نفس الوقت فرح مسرور بهذا العمل، لأنه نقل الأمانة من صاحبها إلى مستحقها.
وكل من يعمل في المجال الخيري والوقفي والتطوعي هو مؤتمن، وناظر للوقف، مؤتمن على أصل وريع ذلك الوقف، وكل من يعمل في المشروع الوقفي هو مؤتمن لذلك الأصل المحبوس. فالناظر للوقف هو خازن مؤتمن، مكلف برعاية ما اؤتمن به، فإن أدى هذه الأمانة موفرة كاملة، غير منقوصة أو مستغلة، مع طيب نفس ورضا وسرور منه، بهذا يكون هو أحد المتصدقين، أي له ثواب بوصفه متصدقاً؛ لأنه أعان صاحب المال على إيصال المال والصدقة إلى مستحقيها.
وللشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – قول نفيس في التزام الناظر بشروط الواقف نصه: «على نظار الوقف أن يلتزموا بشروط الواقف، وأن يرعوا الوقف ويحافظوا عليه، وأن يحذروا التساهل بحفظ أصله وتوزيع ريعه، قال تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}(ال بقرة: 283)؛ والمؤمَّل في النظارِ بذلُ النفيس في تنفِيذ وتحقيق شروطِ الواقف وإقامة ضوابط الوقفِ وتعمير أصوله واستثمارِ محصولِه والسلوك بالمستفيدين ما يوجِب لهم الإكرام والإنعامَ وأخذهم بطرائق الرحمة وسجيحِ الأخلاق وسُبُل الشفقة والإرفاق. روى البخاري من حديثِ أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله: «إن الخازن المسلم الأمين أحدُ المتصدِّقين»(5).
والحديث دليلٌ على فضل الأمانة، وعلى فضل التنفيذ فيما وُكل فيه وعدم التفريط فيه، ودليلٌ على أن التعاون على البر والتقوى يكتب لمن أعان مثل ما يكتب لمن فعل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
والحديث توجيه وحث على القيم الأساسية التي ينبغي أن تتجذر في نفوس العاملين وتتجلى في أعمالهم، من إخلاص وأمانة وصدق وتجرد، فإن ذلك أنفع للمؤتمن في دنياه وأخراه، وأدعى للبركة والتوفيق في عمله.
وفيه الحث على حسن التعامل مع الآخرين، فالعاملون على الصدقات والأوقاف تسلط عليه الأنظار؛ لأن أهل الخير قد أمّنوهم على صدقاتهم ومشاريعهم، فكل فعل محسوب عليهم، فلا بد أن يكون لدي الشخص الذي يتصدى لهذه المهمة السامية إخلاص في القصد والنية من خلال ابتغاء وجه الله عز وجل وحده بهذا العمل، كما يجب أن يكون متبعا فيه للكتاب والسنة، وعليه أن يكون نموذجاً للشخص المتفاني في خدمة المسلمين، وأن يتعامل مع أهل العوز والحاجة بالحسنى والكلمة الطيبة؛ فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فالواجب على كل من جنَّد نفسه للعمل الخيري والوقفي أن يسلك مسالك الإصلاح، وأن يعمل بما فيه الخير للأمة، وأن يجتنب كل شيء يقدح في عمله؛ لأنه عمل لأجل الدار الآخرة، ورجاء الثواب من الله تعالى. لذا أنصح إدارات العمل الخيري والوقفي أن تهتم بتأهيل موظفيهم ومتطوعيهم وتدريبهم وتنمية قدراتهم في حسن استقبال المراجعين من متبرعين، ومحتاجين، والتعامل مع جميع الفئات بالأخلاق الإسلامية السمحة.
الهوامش:
1- فتح الباري شرح صحيح البخاري.
2- صحيح مسلم بشرح النووي،(7/156- 158)، وبتصرف يسير، مؤسسة قرطبة، ط1 (1412هـ - 1991م).
3- فتح الباري شرح صحيح البخاري، (3/382)، دار السلام الرياض، ط1(1418هـ= 1997م).
4- شرح رياض الصالحين، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، (4/461)، دار الوطن، ط1، 1416هـ.
5- خطبة للشيخ بن عثيمين بعنوان: الوصية والوقف. www.ibnothaimeen.com.



اعداد: عيسى القدومي