أمانة العامل ..
محمد سيد حسين عبد الواحد
أيها الإخوة الكرام: ورد عند أصحاب السنن عن عاصم بن كليب عن أبيه رضي الله عنه أنّه: ( «شهد مع أبيه جنازةً شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : وأنا غلامٌ أعقل وأفهم، فانتهى بالجنازة إلى القبر، ولم يمكن لها، قال: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: سووا لحد هذا، حتى ظن الناس أنّه سنَّةٌ، فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إنَّ هذا لا ينفع الميت ولا يضرُّه، ولكن الله يحبُّ من العامل إذا عمل أن يحسن» )
أيها الإخوة الكرام: فى كثير من آيات الله تعالى ، وفى كثير من أقوال النبى صلى الله عليه وسلم حديث طويل عن العمل وعن الحرف وعن المهن التى عمل الناس بها على مر الزمان ..
فى القرآن الكريم نجد الحديث عن النجارة التى علمها الله تعالى لنبيه نوحا عليه السلام ( {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} )..
وفى القرآن حديث عن الرعى الذي عمل به سائر الأنبياء والرسل وأشهرهم فى ذلك نبى الله موسى عليه السلام {(وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )}
وفى القرآن الكريم حديث عن الفلاحة وزراعة الأرض وهى ما أشار إليها قول النبى يوسف عليه السلام {(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ )}
وعن الحدادة قال الله تعالى { (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)}
وعن صناعة الغزل والنسيج وصناعة الأثاث والثياب والرياش قال الله تعالى { (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَه َا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ )}
وعن حرفة الصيد فى البر والبحر قال الله تعالى {(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )}
أما عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فالحديث فيها يطول عن العمل والمهن والحرف ومنها قول النبى صلى الله عليه وسلم «« مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » »
هذه النصوص أيها المؤمنون :
قالت بصريح العبارة إن من الأنبياء والرسل من كانوا ملوكاً وعلى الرغم من ذلك لم يكونوا كسالى ولا خاملين بل كان الواحد منهم أول المشمرين وأول العاملين ..
هذه النصوص تدعو كل مسلم إلى العمل وإلى الحركة وإلى اكتساب الأرزاق بعمل اليد وبعرق الجبين فى أى عمل شريف والأمر ميسور على من يسره الله تعالى عليه {( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )}
فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمل ما يفهم منه أن العمل عبادة بعد العبادة فى حديث رسول الله عن العمل ما يفهم منه أن العمل عبادة بشرط ألا يلهينا العمل عن الصلاة ولا عن العبادة قالَ صلى الله عليه وسلم «(ما أكل العبد طعاما أحب إلى الله من كد يده ومن بات كالا من عمله بات مغفورا له ) »
وحين صافح النبى صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه ووجد في يده خشونه وقال ما لى أراك خشن اليد قال من العمل يا رسول الله فقال النبى هذه يد يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
أنت أخى تثاب على صلاتك وصيامك وتسبيحك وتهليلك , وفى المقابل تثاب على إتقان عملك، على إخلاصك ، تثاب على قضاء مصالح الناس ويبارك الله لك فى أهلك ومالك ..
فى العمل أيها المؤمنون :
وفى الاحتراف والسعى فى الأرض وفى الكسب من حلال طريق الغنى وحفظ لكرامة الإنسان وفرار من الفقر والحاجة وفى العمل حفظ لماء الوجه عن ذل السؤال قال أَنَس بْن مَالِكٍ
«جاء رَجُل مِنْ الْأَنْصَارِ إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ طعاماً يقتات عليه هو وزوجه وأولاده فَقَالَ له النبى صلى الله عليه وسلم أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ بَلَى عندى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَعندى قَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ فقَالَ النبى ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ أنس فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ النبى مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ فقَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا رسول الله إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ السائل وَقَالَ اذهب واشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُّومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا قال أنس فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ وبعد خمسة عشر يوماً جَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» .
العمل أيها المؤمنون :
يوضع مع الحياة فى كفة واحدة , كما توضع البطالة وكما يوضع الخمول والكسل فى كفة واحدة مع الهلاك والفساد والدمار ..
يذكر التاريخ أيها المؤمنون أن :
كائنات ومخلوقات وجدت على وجه الأرض قبل بنى آدم بآلاف السنين كانت هذه المخلوقات منها ما هو عظيم قوى فتى ومنها ما هو ضئيل حقير ضعيف ..
أما المخلوقات قوية البنيان فلم يبق منها إلى يومنا هذا غير عظام ورفات..
أتدرون ما السبب وراء هلاكها وزوالها هذه الكائنات لم تعمل ولم تتكيف مع بيئتها ولم تتعاون فيما بينها بل وصل بهم الحال فى بعض الأوقات أن أكل بعضهم بعضاً فكانت النتيجة المحتومة أن عفى عليهم الزمن وأصبحوا أثراً بعد عين..
فى حين بقيت ضعاف المخلوقات وصمدت رغم ما تعرضت له عبر التاريخ من ويلات وأهوال بقيت لأنها عرفت كيف تتكيف وتتعاون وتعمل ..
ونظرة يلقيها الإنسان منا على خلق الله من حوله تؤكد هذا, أمة النحل على سبيل المثال لا الحصر أمة عجيبة قال الله عز وجل فى شأنها ..
{(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ )}
تقوم حياة أمة النحل من الألف الى الياء على العمل المتقن وعلى النشاط والتعاون بين أفرادها فى كل صغيرة وكبيرة , ولهذا بقيت أمة النحل قوية متماسكة منذ آلاف السنين فى حين هلكت أمم أقوى منها وأشد ولم يبق منها إلا عظام ورفات وتراب ..
للمرة الثانية لماذا أيها المؤمنون ؟؟
للمرة الثانية لأن أمة النحل نشطت ، وأتقنت عملها، ونظمت حياتها ، ووزعت الأدوار فيما بينها ووضعت الفرد المناسب فى المكان المناسب فعملوا معاً وتعاونوا معا طائفة تبني البيوت، وطائفة تنظف البيوت، وطائفة تحرس البيوت وطائفة تدل على مواضع الأزهار، وطائفة أخرى تمتص الرحيق وتخرج العسل
قال الله تعالى {{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وِلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }}
ثم تعال أخى إلى ما هو أكبر من ذلك :
مع العمل الناس يعيشون فى سلام مع العمل يتحقق الغنى يتحق النماء والرخاء وفى غياب العمل تجد الفساد والإفساد مع البطالة وتجد العنف والظلم والغشم ومع البطالة تجد العدوان على الأموال والأنفس والأعراض وقد قيل النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ..
ولذلك أمر الله عز وجل ابن آدم ألا يسلم نفسه للفراغ والكسل بل أمره ربه أن يخرج من عمل إلى عمل قال الله تعالى (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ )
هذه الآية طبقت بحذافيرها أيام النبى سليمان عليه السلام لما سخر الله له الجن ووجدهم مفسدون مخربون شغلهم عن الإفساد والتخريب بالعمل فى إشارة إلى أنه بالعمل يتقى شر الأشرار وفساد المفسدين
قال الله تعالى {(وَلِسُلَيْمَان َ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها..
الخطبة الثانية
قال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف وفي كُلٍّ خير احرص على ما ينْفَعُك واستعن بالله ولا تَعْجز فإنْ أصابك شيءٌ فلا تقولنَّ لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا ولكن قُلْ قَدَرُ الله وما شاء فعل ، فإنَّ لو تفتحُ عمل الشيطان»
بقى لنا فى ختام الحديث أيها المؤمنون أن نقول إن العمل يحقق للإنسان حد الكفاية ويحقق له الغنى ويحقق له القوة ويحقق له السعادة فى الدنيا والآخرة وقد ورد أن الأقوياء والأغنياء الذين يعرفون حق الله فيما عندهم من النعم بأعلى وأشرف المنازل يوم القيامة ..
وقد أكدت أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوى أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف وفى كلٍ خير وأن المؤمن الغنى أحب إلى الله تعالى من المؤمن الفقير وفى كلٍ خير وأن اليد العليا خير وأحب إلى الله تعالى من اليد السفلى
الله يحب جميع خلقه لكنه يحب الأقوياء أكثر ..
لأن القوى ينفع نفسه وينفع الناس فيقضى للناس حوائجهم ويساعد العجائز ويعين المرضى والضعفاء ..
الله يحب جميع خلقه لكنه يحب الأغنياء أكثر لأن الغنى ينفع نفسه وينفع الناس يتصدق ويطعم ويواسى ..
وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن أحب العباد إلى الله تعالى فقال أحب العباد إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربه أو تطرد عنه جوعاً أو تقضى عنه جوعاً
إن لله عباداً اختصهم الله تعالى لقضاء حوائج الناس يفزع إليهم الناس فى حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ..
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء....