بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين ، وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلي يوم الدين أما بعد ......
فإن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالةٍ في النار ، قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ، وقال الله : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) وبعد ... فإني وفي معرض تحرير مراد الإمام البخاري بالحديث : " حديث حسن " تعرضتُ لحديث رفع القلم عن ثلاثة ، وهو من الأحاديث المشهورة ، فارتأيت أن أخرجهُ وإن كان سبقني لذلك بعض الفضلاء ، فكان لابد من ذلك حتى يتبين لنا المراد من كلام الإمام البخاري على الحديث في العلل الكبير للإمام الترمذي – رضي الله عنهما – ، ثم اعلم أن من أهم الطرق في معرفة علل الحديث هي جمع طرق الحديث والتعليق عليها بما يجب مُحاولاً اتباع طريقة الأئمة المُتقدمين – رضي الله عن الجميع – قدر الإمكان للتوصل لحُكم رصين متين على الحديث ، قال الإمام أحمد بن حنبل : (( الحديث إن لم تجمع طرقه لم تفهمه ))[1] ، وقال ابن المديني : ((الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه ))[2] ، وقال ابن معين : (( اكتب الحديث خمسين مرةً ، فإن له آفاتٍ كثيرة )) ، وقال أيضاً : (( لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه ))[3] ، وقال أبو حاتم : ((لو لم نكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه ))[4] ، قال ابن المبارك : (( إذا أردت أن يصحَّ لك الحديث ، فاضرب بعضه ببعض ))[5] ، التَّرجيح بين الرُّواة أو الجمع بين رواياتهم على أسس علمية وقواعد منهجية مستنبطة من صنيع علماء العلل السَّابقين فحسب ، دون نظر إلى قواعد المنطق واحتمالات العقل ، فإن معرفة علل الأحاديث من الفنون الدقيقة التي قلما نجد من يتقنا أيمَ إتقان ، وقد كان الأئمة المُتقدمين – رضي الله عنهم – أكثر الناسِ علماً بعلل الأحاديث ولهم في ذلك طرق شتى وفناً عجبا ، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم ملكةً في هذا الفن وأن يجعلنا من متقنيه .. آمين ..
************
هذا الحديث يرويه جمعٌ من صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم : أم المؤمنين عائشة ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي قتادة ، وشداد ، وثوبان ، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهم – ويروى عن جمعٍ مِنهم ، واختلف في حديث علي بن أبي طالب اختلافاً كبيراً ننظر بيانهُ مع الفوائد الحديثية التي سنتطرقُ إليها في معرضِ كُل دِراسةٍ ومبحثٍ إن شاء الله وقد جعلتُ لدراسة كُل حديث من أحاديثهم – رضي الله عنهم – مبحثٌ ، وفيه فصلٌ حديثي إن شاء الله إن لزم .
طريق الاول :
رواية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –
أما حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقد روي عنه مرفوعاً وموقوفاً من أربع أوجه وإليك البيان إن شاء الله :
v الوجه الأول : فعن طريق أبي ظبيان واختلف عنهُ.
يرويهُ عنهُ الأعمش ، عن ابن عباس واختلف على الاعمش :
أولاً : أخرجهُ أبو داود في السنن (4399) : حدثنا جرير بن حازم ، كذلك أخرجهُ (4400) حدثنا وكيع ، والحاكم في مستدركهِ (8168) أنبأنا جعفر بن عون ، كذا أخرجهُ الحاكم (4/430/8169) ثنا شعبة ، و البغوي في الجعديات (763) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/264) عن ابن نمير ، وذكر الدارقطني رواية ابن فضيل في علله (3/7) ، كذا رواه عمار بن رزيق عند الدارقطني في العلل (3/7) ولم يذكر ابن عباس فرواهُ معلقاً، وعلقهُ الإمام البخاري في الصحيح بالجزمِ كما في الفتح للحافظ ابن حجر (9/300) ، سبعتهم : (( جرير بن حازم ، ووكيع بن جراح ، وجعفر بن عون ، وشعبة بن الحجاج ، وابن نمير ، وعمار ، وبن فضيل )) عن الأعمش عن علي موقوفاً.
قال الحاكم : (( هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِزِيَادَةِ أَلْفَاظٍ ))[6] ، ووافقه الذهبي.
ثانياً : خالفهم جرير بن حازم فرواهُ عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس عن علي مرفوعاً ، أخرجهُ أبو داود (4401) ، والنسائي في السنن الكبرى (7343) ، وابن حبان في صحيحه (143) ، وابن خزيمة في الصحيح (1003) ، (3048) ، وقال الشيخ الألباني : (( إسناده صحيح ولا يضره وقف من أوقفه ولا سيما وله شواهد مرفوعة خرجتها في الإرواء )) ، ومن طريق ابن حبان أخرجهُ الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (608) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (949) وأيضاً : (2351) وقال : «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»، والبيهقي في السنن الصغير (3/300/2582) من طرق عن ابن وهب عن جرير بن حازم عن الأعمش عن ابن عباس عن علي مرفوعاً ، وعند الطحاوي زيادةٌ لا تصح هي شاذة .
قال أبو عبد الله الحاكم عن رواية جرير : (( هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ))[7] ، قال الترمذي : ((وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , هَذَا الْحَدِيثَ. وَرَفَعَهُ وَهُوَ وَهْمٌ , وَهِمَ فِيهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ))[8] ، معناهُ ان الأمر ليس كما قال الحاكم ووافق عليه الحافظ الذهبي ، بل وهم جرير بن حازم في رفع الحَديث قال النسائي : (( وما حدث جرير بن حازم بمصر فليس بذاك ، و حديثه عن يحيى بن أيوب أيضا فليس بذاك ))[9] ، ووافق قول الإمام النسائي الإمام أحمد فقال : (( جرير بن حازم حدث بالوهم بمصر لم يكن يحفظ ))[10] ، وقال أبو زكريا : (( صدوق حديث بمصر أحاديث وهم فيها وهي مقلوبة ))[11] ، وقد أشار الإمام الدارقطني في العلل إلي أن العلة بتفرد ابن وهب عن جرير بن حازم وانها محُتملةٌ ، والأمر كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، والنسائي ، والترمذي ، وأبو زكريا من أنهُ حدث بأحاديث غلط فيها في مصر ، قال ابن عدي : (( وهذان الحديثان تفرد بهما بن وَهب، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ولابن وَهب، عَن جرير غير ما ذكرت غرائب ))[12] وجرير بن حازم من ثقات المسلمين ، وقد تكلم أهل العلم بحديثه عن قتادة ، وذكرهُ غير واحد بالوهم في أحاديث حدث بها في مصر وهذا من أبواب الجرح والتعديل وهو أن يضعف في روايته عن شيخ معين ويوثق في جمع من مشايخه ، أو أن يضعف في روايته في بلد مُعين أو في رواية بلد معين عنهُ ويوثق في رواية بلد آخر عنهُ ، أو أنه حدث بأحاديث على الوهم بها كمعمر بن راشد فحديث أهل البصرة عنهُ وهم لأنه لم يكن معهُ كتبه فتكلم الأئمة برواية البصريين عنهُ ، كذا إسماعيل بن أبي عياش في روايته عن غير أهل بلده كلامٌ وهو من قبيل أن يوثق الراوي في روايته عن أهل بلد ويضعف في آخرين وهذه المسألة من دقائق هذا العلم نسأل الله أن يزيدنا فيه بسطةً .
قال الإمام الحافظ الدارقطني : (( تَفَرَّدَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ))[13] ، وقال : (( وَخَالَفَهُ ابْنُ فُضَيْلٍ، وَوَكِيعٌ، فَرَوَيَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مَوْقُوفًا ))[14].
ثالثاً : خالفهم أبو معاوية الضرير فرواهُ عن الأعمش مُعلقاً سنن سعيد بن منصور (2/94/2078) ، وابن زريق عند الدارقطني في العلل (3/73) ، وسعيد بن عبيدة عند الدارقطني في العلل (3/73) عن علي بن أبي طالب ثلاثتهم عنهُ مُعلقاً دُون ذكر ابن عباس ، فقال الدارقطني : (( وَقَوْلُ وَكِيعٍ، وَابْنُ فُضَيْلٍ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ))[15] ، وهذا معناهُ أن قول من أوقفهُ على علي بن أبي طالب وذكر ابن عباس فيه أشبه بالصوابِ وأصحُ ممن لم يذكر ابن عباس فيه ، وأما حديث جرير بن حازم وهمٌ لأنهُ حدث بأحاديث وهم فيها بمصر ، قال الحافظ ابن حجر : (( وَالْأول أولى ))[16] قُلت : أي من ذكر ابن عباس وليس من قصر فيه ولم يذكر فيه ابن عباس ، بل ورجح الإمام الترمذي رواية من رواهُ وذكر فيه ابن عباس فقال : (( روى غير واحد عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس عن عمر موقوفا ، و كان هذا أصح من حديث عطاء بن السائب ))[17] وما ذكرهُ الإمام الترمذي هو الطريق الثاني.
رواهُ عطاء بن السائب عن أبي ظبيان مرفوعاً ، قال الحافظ : (( وَرَوَاهُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي ظبْيَان عَن عَليّ مَرْفُوعا أَيْضا لكنه لم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس وَرَوَاهُ أَبُو حُصَيْن عَن أبي ظبْيَان عَن عَليّ مَوْقُوفا ))[18] ، أخرجهُ أبو داود الطيالسي (1/89) ، وأحمد في مسنده (1330) ، والترمذي في علله الكبير (2/549) ، والنسائي في الكبرى (7344) ، والبيهقي (8/264) من طرق عن عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي وعمر مرفوعاً ، قال الدارقطني : (( وَرَوَاهُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي ظبْيَان عَن عَليّ مَرْفُوعا أَيْضا لكنه لم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس ))[19] ، وقال : ((حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَّدِ الْعَمِيُّ، وَغَيْرُهُمْ ))[20]، واختلف في سماع أبي ظبيان من علي وعمر – رضي الله عنهما – قال الدارقطني : (( قِيلَ: لَقِيَ أَبُو ظَبْيَانَ عَلِيًّا وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا؟ ، قَالَ: نَعَمْ ))[21] ، قال ابن أبي حاتم : (( كَانَ شِعْبَةُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَبُو ظَبْيَانَ سَمِعَ مِنْ سَلْمَانَ )) ، وسلمان مات قبل علي كما قال الإمام البخاري ، نفى سماعهُ من علي أبو حاتم فقال: (( وَلَا يَثْبُتُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ))[22] ، إلا أن الإمام البخاري أثبت سماعه من سلمان وعلي فقال : (( سَمِعَ سَلْمَانُ وَعَلِيًّا، سَمِعَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ وَالأَعْمَشُ ))[23] ، قال الحافظ الذهبي : (( وَلَا يَثْبُتُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِيْ عَنْ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ ))[24] ، فالحافظ الذهبي لا يثبت لأبي ظبيان سماعاً من علي وعمر – رضي الله عنهما – ، وقال : (( رَوَى عَنْ: عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَحُذَيْفَةَ - إن صحت روايته عَنْ هَؤُلاءِ - ))[25] ، قال الإمام الترمذي : (( وسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، يَقُولُ: أَبُو ظَبْيَانَ لَمْ يُدْرِكْ سَلْمَانَ، مَاتَ سَلْمَانُ قَبْلَ عَلِيٍّ ))[26] ، فالظاهر أن المقياس في سماع أبو ظبيان من راوٍ أو عدمهُ هو تقدم موته عن علي أو عدمه ، وكأن الإمام البخاري – رحمه الله – يشير إلي سماع أبو ظبيان من علي ، قال الصفدي : (( تَابِعِيّ مَشْهُور بِالْحَدِيثِ سمع عليا ))[27] .
فصلٌ : في اعتبار قول الإمام البخاري : "سمع" إثباتٌ أو عدمه
وهُنا مسألةٌ وهي قول الإمام البخاري – رحمه الله – في الراوِ في التَاريخ الكبير : " سمع مِن " هل يُحمل هذا على أنهُ يثبت سَماعهُ مِن الراوي أم أنهُ ليس إثباتاً للسماع ! ، قال فضيلة الشَيخ عمرو بن عبد المنعم سليم : (( على أن ما ذكره البخاري -رحمه الله-في تراجم الرواة من تاريخه من سماعهم من بعض من رووا عنهم، أو مجرد رواياتهم عنهم دون إثبات سماع إنما هو مجرد حكاية سند الرواية، وليس كما يظن البعض أنه إذا قال في تاريخه فلان سمع من فلان ، أنه يثبت له السماع ، وإذا قال روى عن فلان ، أنه لم يصح له سماع منه عنده وقد كنت منذ زمن أذهب هذا المذهب ، وأقول بهذا القول ، حتى تبين لي خلاف ذلك ، ففي ترجمة عبيد بن آدم من التاريخ الكبير(1\3\441) قال:((سمع عمر وأبا هريرة - رضي الله عنهما- روى عنه عيسى بن سنان))قلت: رواية عبيد بن آدم عن عمر -رضي الله عنه - أخرجها أحمد في مسنده (1\38) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم ، قال : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لكعب : أين ترى أن أصلى ... فذكر الحديث قلت وهذا الإسناد منكر ، فأبو سنان وهو عيسى بن سنان ضعيف الحديث، ولاشك أن إثبات سماع راو من راو يلزم له أن يرد بإسناد صحيح ، وهذا منتف في هذا الإسناد ، والله أعلم ))[28] ، قال الشيخ الإمام المعلمي : (( قول البخاري في التراجم (سمع فلانا) ليس حكما منه بالسماع، وإنما هو إخبار بأن الراوي ذكر أنه سمع ))[29] ، ومما يجدر الإشارة إليه أن الإمام البخاري في التاريخ الكبير كان يَتكلمُ على سماعات الرواة باستعماله للفظتي : " عن " ، " سمع " ، وأما أبو حاتم الرازي كذا رأيت ابن حبان في الثقات يذكر مسألة سماع الراوي من شيوخه باستعمال : " روى " ، وقد فرق الشيخ خالد الدريس بين الألفاظ والمسألة تحتاجُ لدراسة ، وقد ذكر الشيخ الجديع في كتابه التحرير ، ترجمة ثعلبة بن يزيد الحماني وقد قال الإمام البخاري فيه : (( سمع علياً روى عنه حبيب بن أبي ثابت، يعد في الكوفيين، فيه نظر ))[30] ، فقال ابن عدي : (( أما سماعه من علي، ففيه نظر، كما قال البخاري ))[31] ، فالإمام ابن عدي يفسر قولهُ : " فيه نظر " في سماعه من علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ، وقد درستُ اصطلاح الإمام البخاري هذا في دراستي : " إعادة النظر فيمن قال فيهم الإمام البخاري : (( فيه نظر )) " أهـ ، والمثال الذي ذكرهُ الشيخ الجديع في ان قول الإمام البخاري : " فيه نظر " وأراد به نفي سماع ثعلبة من علي ، وأن قولهُ : " سمع من علي " ليس اثباتاً ليس قائماً لمُحاكمة الإمام البخاري وفق هذا المثال فقط في إثبات ما إن كان الإمام البخاري يستعمل اللفظة في إثبات السماع أم في نفيه ، بل لابد من دِراسةٍ كاملة لاصطلاح الإمام البخاري في أكثر الرواة لمعرفة ما إن كان يريد به إثبات السماع أم عدمهُ . والله أعلم .
فالذي أراهُ على قصور في علمي ان الإمام البخاري إن قال : " سمع " فإنهُ يثبت السماع للرواةِ على خِلاف قوله : " عن " ، فإن الأولى تُحمل على إثبات السماع ، وآخر عبارة إنما تَكونُ مُتجاذبة فقد تَجد الإمام البخاري قال "عن" ولا يصح لهُ سماع ، وقد تجدهُ قال ذلك وثبت لهذا الراوي سماعهُ مِن الذي فوقهُ ، ويكون ذلك بالنظر للإسناد ، وأما قولهُ : " سمع " فإليك مثالٌ يثبت أن الإمام البخاري إنما يستعمل اللفظةَ لإثبات السماع ، قال الإمام البخاري : (( عُمَر بْنُ مُحَمَّد بْن جُبَيْر بْن مُطْعِمِ بْن عدي الْقُرَشِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن جُبَيْر، سَمِعَ منه الزُّهْرِيّ ولم يقم مَعْمَر عَنِ الزُّهْرِيّ، هو أخو جُبَيْر وسَعِيد ))[32].
وأخرجَ في الصحيح : (( حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم ... الحديث ))[33] ، فصنيع الإمام البخاري هُنا من ترجمة بن مطعم في التاريخ الكبير وذكر أن الزهري سمع منهُ وإخراج حديثهُ في الصحيح يدل على أنهُ يثبت سماع الزهري من عمر بن محمد بن جبير بن مطعم وهذه قرينةٌ على أن استعمالهُ لهذه اللفظة إنما يريد بها اثبات السماع من الراوي ، ولكن حينما تنظر إلي التاريخ الكبير فإنهُ إن استعمل : " عن " في سماع الرواةِ فإنكَ تجد المُترجم لهُ لم يسمع أحياناً ممن ذكرهُ الإمام البخاري : " بعن " ، فلماذا ان ترجم لراوٍ وقال سمع فلاناً ثبت سماع ذلك الراوي ممن فوقهُ ، وان استعمل عن تبين أن الراوي لا يثبت لهُ سماعٌ ممن فوقهُ ، ولكن هل هذا يكونُ يقيناً ؟ لا إذ أنكَ قد تجدُ من قال فيه الإمام : "عن فلانا" أنهُ ثبت سماعهُ من الراوي الذي ترجم لهُ الإمام البخاري ، فالأمر مُتجاذبٌ إذ أنهُ لا يكون نفياً صريحاً للسماع ، فقد يكون هذا الشيخ لم يسمع ممن فوقهُ .
قال الإمام البيهقي : (( قَالَ الطَّحَاوِيُّ: أَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَدِيثُهُ عَنْهُ صَحِيفَةٌ فَقُلْنَا: مَنْ يَزْعُمُ هَذَا؟ نَحْنُ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي سَمَاعِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، مِنْ أَبِيهِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ: عَمْرُو بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سَمِعَ أَبَاهُ، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَطَاوُسًا قُلْتُ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي سَمَاعِ شُعَيْبٍ مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ مَا دَلَّ عَلَى سَمَاعِ شُعَيْبٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ))[34] ، وهذا فهمُ أحد الأئمة الأجلاءِ المشهود لهم بالعلمِ وسعة الاطلاع ، فهم أن قول الإمام البخاري هُنا : "سمع" إنما هو اثباتٌ لسماع عمرو بن شعيب من أبيه وذكر قول الإمام البخاري[35].
إذاً إن قال الإمام البخاري : " سمع " فإنهُ يثبت سماع الراوي ممن فوقهُ ، إلا إن أتبعها بما يشير إلي عدم وقوع سماع المُترجم لهُ من شيخهِ ، كأن يقول : "فيه نظر" ، "ولا يعرف لفلان سماع من فلان" فتكونُ هذه العبارة دالةٌ على السماع إلا إن أتبعت ما يشير فيه الإمام إلي نفي السماع كما نقل عن ابن عدي في ذكر سماع ثعلبة وإتباعه بقوله : "فيه نظر" فتبين أنهُ يريد نفي السماع ، أما إن أتت مُجردة ولم يوجد ما ينص على نفي السماع فإنهُ يثبته ، قال البيهقي : (( وَقَدْ أَثْبَتَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ سَمَاعَهُ مِنَ أَبِي سَلَمَةَ وَعَمْرَةَ ))[36] ، بل وجدتُ الشيخ مُقبل بن هادي الوادعي يثبت أن قولهُ : "سمع" هو إثباتٌ للسماع فقال : (( وقد أثبت البخاري سماعه من عمر ))[37] ، والراوي المعنون هو زبيد بن الصلت المديني قال البخاري : (( زبيد بْن الصلت الكندي أخو كثير، سَمِعَ عُمَر ، روى عنهُ عروة بْن الزبير )) . والله أعلى وأعلم.[38]
ونأتي إلي تَمام حديث عطاء بن السائب قال الشَيخ المحدث عبد الله السعد : (( إن عطاء لم يكن بالمتقن الحافظ، وإنما كان دون ذلك، فهو صدوق جيد الحديث، له بعض الأوهام؛ جمعاً بين أقوال من وثّقه ومن تكلم فيه، وهذا في حديثه القديم، ولذا استثنى الحفاظ من حديثه القديم أشياء لم يضبطها )) أهـ ، وقال ابن القيم : (( وعلى تقدير الاتصال فعطاء بن السائب اختلط بآخره ..فلينظر في حال المذكورين و حال سماعهم منه ، و أيضا فهو معلول بالوقف )) ، والموقوف ما رواه أبو حصين ، كذا ما روي عن الاعمش موقوفاً قال الترمذي : (( وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنْ عُمَرَ , مَوْقُوفًا. وَكَأَنَّ هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ))[39] ، فأعل الإمام الترمذي المرفوع بالموقوف ، وممن رواهُ مرفوعاً جرير بن حازم وهو وهمٌ كما أشار الإمام الترمذي ، ورواهُ عطاء بن السائب وهو ممن اختلط فوجب تمييز حديثه الذي حدث به قبل وبعد الاختلاط ، قال أبو حاتم الرازي في عطاء : (( رفع أشياء كان يرويه عن التابعين فرفعه إلى الصحابة ))[40] ، وقد رواهُ عن عطاء بن السائب حماد بن سلمة وهو ممن سمع من عطاء بن السائب قبل وبعد الاختلاط ، قال الحافظ ابن حجر : (( فاستفدنا من هذه القصة أن رواية وهيب وحمّاد وأبي عوانة عنه في جملة ما يدخل في الاختلاط )) ، قُلت : وحماد هذا هو ابن سلمة ، وقد اختلف في سماعه من عطاء بن السائب أكان قبل الاختلاط ، أم بعد الاختلاط ، أم قبل وبعد الاختلاط على ثلاثة أقوال :
[ أولاً ] قول من قال بأنه سمع منه قبل الاختلاط .
قال الإمام الدارقطني : (( دخل عطاء البصرة مرتين، فسماع أيوب وحماد بن سلمة في الرحلة الأولى صحيح )).
وقال يعقوب بن سفيان : (( وما روى عنه سفيان وشعبة وحماد بن سلمة فسماع هؤلاء قديم )) أهـ .
[ ثانياً ] قول من قال بأنه سمع منه بعد الاختلاط.
قال ابن معين : ((جميع من سمع من عطاء سمع منه في الاختلاط إلا شعبة والثوري )) ، فظاهر كلام ابن معين أن حماد بن سلمة سمع منه بعد الاختلاط وأن كل من سمع فإنما سمع بعدهُ إلا شعبة والثوري ، ولم يذكر الإمام أحمد بن حنبل ، وأبو حاتم الرازي إلا شعبة وسفيان ممن سمع منه قبل الاختلاط وهذا من الأئمة الثلاثة تعميمٌ في أن حديث عطاء بن السائب لم يسمع منه قبل الاختلاط إلا شعبة وسفيان وحديثُ غيرهم عنهُ فيه مناكير وأغلاط لأنهم سمعوا من عطاء بن السائب بعد اختلاطه.
[ ثالثاً ] من قال أنهُ سمع منه قبل وبعد .
قال ابن المديني : (( وكان أبو عوانة حمل عنه قبل أن يختلط، ثم حمل عنه بعدُ، فكان لا يعقل ذا من ذا، وكذا حماد بن سلمة )).
قال الشيخ المحدث عبد الله بن عبد الرحمن السعد : (( والأقرب القول الثالث من أنه سمع منه قبل وبعد الاختلاط )) أهـ .
وممن سمع منه حديثاً كما قال الإمام أحمد بن حنبل : ((سألت أحمد يعني ابن حنبل عن عطاء بن السائب قال: من سمع منه قديماً كان صحيحاً، ومن سمع منه حديثاً لم يكن بشيء، سمع منه قديماً شعبة، وسفيان، وسمع منه حديثاً جرير، وخالد بن عبد الله، وإسماعيل يعني ابن علية، وعلي بن عاصم، فكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها، وقال وهيب: لما قدم عطاء البصرة قال: كتبتُ عن عَبيدة ثلاثين حديثاً ولم يسمع من عَبيدة شيئاً، فهذا اختلاط شديد ))[41] ، وجرير هنا هو جرير بن عبد الحميد ، وأما حماد بن سلمة فيتوقف في حديثه لأنهُ سمع منهُ مرتين مرة قبل الاختلاط ومرة بعد الاختلاط ، والمرة الاولى مع أيوب السختياني قال الحافظ ابن حجر : (( فيتحصل لنا من مجموع كلامهم أن سفيان الثوري وشعبة وزهيراً وزائدة حماد بن زيد وأيوب عنه صحيح، ومن عداهم يتوقف فيه إلا حماد بن سلمة فاختلف قولهم، والظاهر أنه سمع منه مرتين: مرة مع أيوب كما يومئ إليه كلام الدارقطني، ومرة بعد ذلك لمّا دخل إليهم البصرة، وسمع منه جرير وذويه. والله أعلم ))أهـ.