وهذه الأمم التي ما جاءها نذير ربما قامت عليها الحجة بنبي من غيرهم أو بأحد حملة دعوته ، كما حصل للأوربيين في دخولهم في النصرانية بدعوة من أحد الحواريين ، وهو بطرس ، المدفون في الفاتيكان (حسب المعتقد النصراني) ، وكما حصل لبعض العرب قبل الإسلام من اتباعهم لليهودية أو النصرانية .ومن قامت عليه الحجة الرسالية بغير الأنبياء والرسل فليس محتاجا لبعثة نبي أو رسول .فما أدرى هذا المعترض أن تلك الأمم ما بلغتها دعوة بعض الرسل الشرق أوسطيين ، وكفت دعوتهم على يد أتباعهم في إقامة الحجة عليهم . وبذلك يتبين أن إنكار وجود أنبياء في الأمم التي لم تخبرنا الآثار ولا كتب الأنبياء عن أنبيائهم لا يخلو حالها عن أحد ثلاثة أمور :1- إما أنه قد خلا فيها نذير ، ولكن ضاع خبره واندثرت آثاره كما اندثرت كثير من الحضارات على وجه الأرض .2- وإما أنه ما جاءها نذير منهم ، لكن قامت عليهم الحجة بنبي من غيرهم ، كما سبق بيانه .3- وإما أنه ما قامت عليهم الحجة الرسالية ، وهم من أهل الفترة .فلا يكون في هذه الاحتمالات ما يجيز الاعتراض على النبوات بمثل تلك الفرضية التي لا تقوم على دليل ، بل الأدلة تنقضها .رابعا : أما قول هذا المتشكك : ((عدم وجود معجزة للنبى مطلقا بنص الكتاب - بم كان يقنع اهل بيداء الحجاز)) ، فهو كذب صريح ، يخالف القرآن قبل غيره . فالقرآن نفسه أعظم المعجزات ، وله خضع العرب ، وبه تحداهم ، وعجزوا عن التحدي ، وبه صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم . أفلا يخجل هذا المعترض من هذا الهراء ؟! ألا يقرأ القرآن ليعلم عظمته الدالة على ربانية مصدره ؟! ألا يسأل نفسه : لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بلا دلائل نبوة ، كيف تم له أن أقنع أهل بيداء الحجاز وأهل الشام والعراق والشام ومصر والعالم حتى دخلوا في دين الله أفواجا ؟!ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها القرآن إخباره بالمغيبات التي أخبر بأن مصداقها سيقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أخبر عنها وتبين صدقها في حياته صلى الله عليه وسلم :- من مثل قوله تعالى { غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } . - ومن مثل الحكم على بعض الكفار بالخلود في النار وبالموت على الكفر : كأبي لهب وامرأته والوليد بن المغيرة ، فما كذب الواقع خبر القرآن ، بل صدّقه ، ولا استطاع هؤلاء تكذيب خبر القرآن ولو بالنفاق وادعاء الإيمان .ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا ، جمعها العلماء في كتب ، هي كتب دلائل النبوة . وهي بمجموعها تقطع بوقوع معجزات حسية كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن تكون كلها مفتراة ، لكثرتها البالغة ، ولتعدد طرقها التعدد المفيد لليقين ، والذي بلغ حد التواتر المعنوي .خامسا : قوله : ((وجود بعض التعارضات العلمية بين الكتاب والعلم الحديث ففى المسائل الفلكية على سبيل المثال مسئلة الشهب الراجمة للشياطين وخلق الارض وتقديرها فى اربعة ايام مقابل يومين للسماوات وسبق خلق الارض على السماء ولم اجد احدا يأول هذه الامور تأويلا مقنعا)) .جوابه : بل في القرآن الكريم إعجاز علمي ، سبق به العلم الحديث .أما التعارضات المزعومة فكلها إنما هي تعارضات في مخيلة هذا الشكاك ، وللعلماء قديما وحديثا عنها أجوبة مقنعة غاية الإقناع ، وكونها لم تقنعه (بزعمه) لا يعني أنها بذاتها وأدلتها غير مقنعة ، فربما منع من الاقتناع هوى أو جهل أو ضعف عقل . ولو كلف نفسه البحث في النت لوجد أجوبة كافية ، لكنه كعادة أتباع الهوى : يعتقد ثم يستدل ، وهو يعتقد ثم يقرأ !وسأجيب عن هذه التعاضات المزعومة بجواب مختصر ، يكفي لبيان جهالتها وبعدها عن العلم والعقل :1- فاستنكار كون الشهب رجما للشياطين ، هل هو ناشيء عن إنكار وجود الشياطين ؟ أم ناشيء عن كونها رجما مع أن العلم يفسرها بغير ذلك ؟فإن كان ناشئا عن إنكار وجود الشياطين ، فإنكارها إنما يقوم على إنكار كل ما لا تثبته أدوات اختبار المادة ، والتي تعجز عن إثبات أو نفي ما لا يدخل في نطاق اختبارها . ومثل هذا الإنكار جهل ؛ لأنه إنكار بغير دليل ؛ إلا من دليل عدم العلم بالوجود ، وعدم العلم ليس علما بالعدم .وإن كان ناشئا عن أن للعلم تفسيرا آخر لهذه الشهب ، فلو افترضنا أن العلم يجزم بهذا التفسير ، ولديه الأدلة القاطعة عليه ، فذلك لا ينفي أن يتفق ذلك مع كونها رجوما للشياطين أيضًا ، كما فسر العلم سبب الكسوف والخسوف وأن الله تعالى جعلهما علامة لتذكير الناس بيوم القيامة يوم تزول الشمس والقمر ، فيدعوهم ذلك للخوف من لقاء الله تعالى على عصيانه .2- وأما مسألة ((خلق الارض وتقديرها فى اربعة ايام مقابل يومين للسماوات وسبق خلق الارض على السماء)) : فلا أدري أين هو التعارض ؟!!-- فلا حقائق العلم قد حددت مدة خلق السموات والأرض ، ولا اقتربت من معرفة ذلك أصلا . حتى تكون المدة هي المشكلة . -- ولا سبق الأرض على السموات بالذي للعلم فيه كلام أصلا ، بل العلم لا يعلم شيئا عن السموات التي تُقصَد في هذا السياق ، وهي نهاية العالم المشاهد ، والتي تحيط بالفضاء بكل مجراته وأجرامه من كواكب ونجوم وأفلاك . فالعلم لا يعلم شيئا عن نهاية العالم ، وما زال عاجزا عن إدراك ما وراء هذه المجرات والعوالم الفضائية . فكيف يتدخل في خلق السموات والأرض نفيا أو إثباتا ؟!!وهذا الادعاء للتعارض يذكرني بادعاءات عدنان إبراهيم بتعارض السنة مع العلم ، وبأن جمع العلماء فيه تعسف غير مقنع . فهو من نمط مقالاته ، ومن جنس مغالطاته ، فكأنه هو الذي يقول : (( يا جماعة ! العلم يقول إن هذه الشهب ما هي إلا نيازك فضائية تخترق حجاب الأرض ، فتحترق ، ولا علاقة لها بشيطان ولا غيره . وأنتم تقولون { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } ، ما هذا التخريف؟! وإلى متى نلغي عقولنا ونعارض العلم بحجة هذه النصوص ؟!! نجب أن نتحرر من هذه الأوهام )) .وحتى تعلمون أنه لا فرق بين هذا الهراء وما يمارسه عدنان إبراهيم ، قدّروا هذه الآية حديثا مرويا ، هل كان سيغيب عن الطعن فيه بمثل هذا الكلام ؟فإن كان جنس هذا الطعن باطلا في ادعاء معارضة القرآن للعلم ، كما بيناه ، فسيكون كذلك بالنسبة للسنة .سادسا : أما عن قوله : ((عدم وجود دلائل تاريخية على شخصية ابراهيم والنبى وشخصيات كثر)) .فهذا يدل على أن صاحب هذه الأسئلة مجنون ، وأبدأ بأول أدلة جنونه :هل يشك كافر أو مؤمن بوجود شخص اسمه محمد ، هو رسول دين الإسلام ، الذي يتبعه مليار ونصف مليار مسلم ؟!! هل يشك عاقل بأن التاريخ البشري كله تبدل بعد ظهور هذه الشخصية العظيمة ؟!! وأي تاريخ يزعم الكلام عنه ، إذا كان يجهل التاريخ الإسلامي كله الذي قام على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى اتباع ملته ؟!!هذا قدر من الجنون لا يجوز أن يُدرج ضمن الشبه التي تنطلي على الجهلة أو تحتاج جوابا ، فهو بهذيان المجانين أشبه ، أو بكلام عُتاة أهل الاستكبار وبهت أئمة أهل العناد !وأما وجود إبراهيم عليه السلام فيكفي إيمان ثلاثة أرباع أهل الأرض بوجوده (من يهود ونصارى ومسلمين) ، مع شهرة ضريحه في الخليل ، بل مع تسمية بلدة باسمه ، مع بقاء كعبته منذ بناها لله تعالى ، وعدم اندثار خبرها في جاهلية ولا إسلام ، وبقاء معالم حجه إليه في الجاهلية والإسلام = لبيان أن التشكيك فيه مكابرة لا تشكك أحدا إلا المرضى في عقولهم .فكيف إذا ضممنا إلى ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ؟! وهما الخبران اللذان نقيم دائما الأدلة اليقينية والعقلية على كونهما وحي الله المنزل على خاتم الأنبياء ، ولولا هذه الأدلة اليقينية لما جاز لنا الاحتجاج بهما على المنكر لمصدرهما الرباني .سابعا: أما عن قوله ((وجود بعض الامور فى الكتاب مبهمة كالاحرف المقطعة وبعضها فى القصص - فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها - والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب مم اضطر المفسرين الى اللجأ لاهل الكتاب للبيان وفتح بابا للخرافات والاسرائيليات)) .فجوابه : كل هذا الكلام جهل ، لا يغتر به إلا من لا يريد أن يعرف الحق .فهل يريد منا هذا الجاهل أن نتجاهل فصاحة القرآن وبلاغته المعجزة ، لكونه هو جهل حكمة أو معنى بعض آياته ؟!! هذا كمن يريد حجب الشمس بكفيه يضعها على عينه ، ثم يظن أنه حجبها عن أعين الناس كلهم .وللجواب عن أمثلته الفارغة أقول :أما الأحرف المقطعة : فما الذي ألزم بذكرها في القرآن الكريم ، لو كان القرآن الكريم مفترى ؟ لماذا يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، مع بقية الكلام البليغ الذي بلغ قمة البلاغة الموجود في القرآن الكريم ؟!لا شك أن السبب ليس هو العجز عن البيان ، مع كل ذلك البيان الفصيح البليغ المعجز ! وما عهدنا العاجزين عن الكلام يبدؤون كلامهم بحروف مقطعة ، ثم ينثرون علينا من بليغ الكلام وفصيح البيان ما يعجز عن مثله الجن والإنس مجنمعين !!إذن لا بد أن يكون المقصود بها حكمة ما ، ذكر العلماء عددا منها . فإذا لم يعجبك شيء منها ، لا يصح أن تكون تلك الأحرف سببا للشك في القرآن ؛ لأنها لم تكن كلاما ككلام العاجزين عن البيان في الفهاهة والعيّ والـحَصَر ، وإنما كانت كالرموز التي يُقصد بها الإشارة على معنى خفي ، وهذا ظاهر من كونها أحرفا مقطعة .وأما بقية الآيات : فالقرآن الكريم ككلام العرب يكتفي بأقل ما يدل على المطلوب ، والذي يفضّل الإيجاز غالبا ، ويكره الخوض في كل أمر قليل الفائدة .فالعربي يفهم من قوله تعالى : ((قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)) : أن السامري رأى أمرا غريبا لم يره غيره ، مما جعله يأخذ قبضة من أثر رسول ما ، وأخذه لهذه القبضة بعد أن رأى ما لم يره غيره مما يعني أن لأخذه تلك القبضة علاقة بما رآه ، وأنه قد علم من تلك الرؤية أن تلك القبضة لها أثر لا يعرفه الناس ومما لم يبصروه من قبل . وأنه بعد أن قبضها ألقاها ، فكان ذلك هو سبب الفتنة بالعجل الذي كان السؤال عنه ابتداءً . هذا ما سوف يفهمه العربي من الآية ، وهو كاف في فهم مغزى القصة . فليس تحديد هذا الرسول بمهم ، بعد أن عرفنا من الآية أنه رسول لا يبصره الناس ولا يعرفونه { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } ، ولا من المهم معرفة طبيعة العلاقة بين القبضة والفتنة بعبادة العجل ، والمهم ينحصر في كون السامري رأى ما يوجب عليه زيادة الإيمان (لأنه من الخوارق التي لا يراها الناس) ، وأنه استغل ذلك في إغواء الناس .هذا ما سوف يفهمه العربي دون حاجة للإسرائليات ، وهو كاف في الإفهام ، وفي الوصول للمغزى الحقيقي للقصة .والرجوع للإسرائليات بعد ذلك لا عيب فيه ، ما دام يكشف تفاصيل أخرى ، تشبع نهم الإنسان في اكتشاف المجهول وتشبع فضوله في معرفة التفاصيل وتثري مخيلته في تصور المشهد المذكور .وكذلك الشأن والقول في الآية الأخرى .وهكذا أعود لأتذكر كلام عدنان إبراهيم , وفوضاه الفكرية باسم حرية التفكير ، لأرى هنا نموذجا آخر من نماذجها يُطبق على القرآن الكريم !!ثامنا : أما قوله : ((هل باقى اهل العالم معذبون وهم لا يعرفون العربية ولم يقرأوا الكتاب ناهيك من افتقارنا للدلائل القاطعة )) ، فجوابه قد سبق فيما مضى ، في بيان أن من لم تقم عليه الحجة الرسالية فحكمه حكم أهل الفترة .ولكن : من قال أن من لم يعرف العربية لا تقوم عليه حجة رسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ؟! ليت هذا السائل سأل أكثر المسلمين من غير العرب ما الذي جعلهم يؤمنون ؟ ليته سأل أو سمع أو شاهد حديثي عهد بإسلام من المعاصرين ، من الأوربيين والأمريكان واليابانيين وغيرهم ، ومشاهدة ذلك متيسرة الآن في اليوتيوب ، ليعلم ما هي الأدلة التي قادتهم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم .وبعد أن أجبت على هذا الهراء ، أود من أبنائنا أن يحصنوا أنفسهم بالمحكمات : من الدلائل اليقينية على وجود الله تعالى ، وعلى الوجوب العقلي لإرسال الرسل وبعثة الأنبياء ، والأدلة اليقينية على صحة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم . فإن تحصينهم بهذه الأدلة القطعية يجعل هذه الشبه كنفخة تجاه قرص الشمس ، لا تطفئه ، ولا تزيده اشتعالا !!وقد كتبت في ذلك كتابي (المحكمات) ، تنبيها على ضرورة هذا الأمر في معرفة الحق وفي التثبيت عليه .والمطالبة بتكرار ذكر تلك الأدلة القطعية مطالبة المعاندين ، ولكن طالب الحق يحق له أن يذكر شبهه حولها ، إذا لم يتم الجواب عليها . فإنا نعلم أن من الناس من لا يخجل من إنكار العيان ، ولا يستحيي من جحد المشاهَد أمامه !!