تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مفهوم تقسيم الدين إلى أصلٍ وفرعٍ

  1. #1

    افتراضي مفهوم تقسيم الدين إلى أصلٍ وفرعٍ

    مفهوم تقسيم الدين إلى أصلٍ وفرعٍ
    ونسبة آثاره السيِّئة إلى الشرع


    الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
    فإذا ما نُظر إلى تقسيم الدين إلى أصولٍ وفروعٍ -من جهة كونه قضيَّةً اصطلاحيةً بحتةً- لا تُنسب إلى الشرع، لا تترتَّب عليها أحكامٌ شرعيةٌ فلا حرج في هذا التقسيم ولا مانع منه، وإنما النكير حاصلٌ في نسبة التفريق بينهما إلى الشرع بحيث يخلِّف هذا التفريقُ بينهما آثارًا سيِّئةً لا يصلح نسبتُها إلى الشرع.
    والتفريقُ بينهما -بهذا الاعتبار- لم يدلَّ عليه كتابُ الله ولا سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل اللهُ تعالى قد جَمَع بين الأمرين وساقهما مساقَ المؤتلِف المتزاوِج، وكذلك في السنَّة النبوية، وليس له -أيضًا- أصلٌ لا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمَّة الإسلام -كما سيأتي-، وإنما كان القاضي الباقلانيُّ هو أوَّلَ مَن صَرَّح من المتكلِّمين مِن أهل الأصول بالتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، وإن كان هذا التفريقُ أحدثه الجهميَّةُ وأهلُ الاعتزال، وسرى بعده إلى كافَّة المتكلِّمين من أهل الأصول.
    وقد ذكر المقسِّمون بين الأصول والفروع عدَّةَ فروقٍ، وكلُّ واحدٍ منها ليس عليه دليلٌ معتمدٌ -كما سيأتي-.
    وهذا لو كان مجرَّدَ اصطلاحٍ وتقسيمٍ جديدٍ يدلُّ على معانٍ صحيحةٍ -كالاصطلاح على ألفاظٍ وتقسيماتٍ للعلوم الصحيحة- لَما ذُمَّ هذا النظر، بل يُستحسن القول به لاشتماله على الصحَّة ودلالته على الحقِّ.
    لكنَّ هذا المتقرِّرَ -عندهم- مشتمِلٌ على حقٍّ وباطلٍ، بل هذه المقدِّمة التقسيميَّةُ رُتِّبتْ عليها آثارٌ مكذِّبةٌ للحقِّ مخالِفةٌ للشرع الصريح والعقلِ الصحيح، ذلك لأنَّ حقيقة هذا التقسيم -فضلاً عن كونه منتفيًا شرعًا- فإنه يَلْزَمُ من القول بصِحَّته نتائجُ خطيرةٌ بعيدةٌ عن المنهج القويم بل هي في شقٍّ عنه.
    أمَّا من حيث انتفاءُ ثبوتِ هذا التقسيم والتفريقِ بين مسائل الأصول ومسائل الفروع فلكونه حادثًا لم يكن معروفًا عند الرعيل الأوَّل من الصحابة والتابعين، حيث إنه لم يفرِّق أحدٌ مِن السلف والأئمَّة بين أصول الدِّين وفروعِه، فكان إجماعًا منهم على عدم تسويغ التفريق بينهما.
    وإنما كان أوَّل ظهوره محدثًا عند أهل الاعتزال، وأدرجه الباقلاَّنيُّ في «تقريبه»، ثمَّ أخذ مجراه إلى من تكلَّم في أصول الفقه مع الغفلة عن حقيقته وما يترتَّب عليه من باطلٍ. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ولم يفرِّق أحدٌ من السلف والأئمَّة بين أصولٍ وفروعٍ، بل جَعْلُ الدين قسمين: أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين. ولم يقل أحدٌ من السلف والصحابة والتابعين: إنَّ المجتهد الذي استفرغ وُسْعَه في طلب الحقِّ يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع. ولكنَّ هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة، وأدخله في أصول الفقه مَن نَقَلَ ذلك عنهم»(١). ومنه يظهر أنَّ أوَّل خطإٍ فيه مناقضتُه للإجماع القديم.
    أمَّا من حيث ترتُّب الآثار الفاسدة على هذا القول فعديدةٌ منها: عدمُ التسوية في رفع إثم الخطإ عن المجتهد بين مسائل الأصول والفروع، فإنَّ معظم الأصوليِّين من المتكلِّمين والفقهاء يؤثِّمون المجتهدَ المخطئ في الأصول لأنها من المسائل القطعية العلمية المعلومة بالعقل.
    وبناءً على الاعتماد على هذا التفريق بين الأصول والفروع، رتَّبوا عليه حُكْمَ تأثيم المخطئ في الأصول وتفسيقِه وتضليلِه مع اختلافهم في تكفيره. وقد ذكر الزركشيُّ هذا المعنى ونَسَب للأشعريِّ فيه قولين(٢). بل ادُّعي الإجماعُ على تكفيره إن كان على خلاف ملَّة الإسلام، فإن لم يكن فمُضَلَّلٌ ومبتدِعٌ، كأصحاب الأهواء من أهل القبلة(٣).
    ولا يخفى ما في هذه النتيجة من حكمٍ خطيرٍ وباطلٍ ظاهرٍ، بل إنَّ ما زعموه من إجماعٍ على تكفيرِ وتخطئة المخطئ في الأصول مدفوعٌ بإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمَّةِ الفتوى والدِّين، فكلُّهم يَعْذُرون المجتهدَ المخطئَ مُطلقًا في العقائد وفي غيرها، ولا يكفِّرونه ولا يفسِّقونه، سواءٌ كان خطؤه في مسألةٍ علميةٍ أصوليةٍ أو في مسألةٍ علميةٍ فرعيةٍ.
    ذلك لأنَّ العذر بالخطإ حكمٌ شرعيٌّ خاصٌّ بهذه الأمَّة لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٤)، ولأنَّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنيَّات، والمخطئُ لا قَصْد له فلا إثم عليه، إذ إنه -في اجتهاده- صادقُ النيَّة في إرادة الحقِّ والوصولِ إلى الصواب.
    أمَّا أهلُ الأغراض السيِّئة وأصحابُ المقاصد الخبيثة فلكلٍّ منهم ما نوى، والحكمُ للظاهر، واللهُ يتولَّى السرائر.
    وهذا الكلام إنما يصدق على المجتهد المؤمن بالله ولو جملةً، الذي ثبت -بيقينٍ- إيمانُه، فإن استفرغ طاقتَه الاجتهادية وبَذَل وُسْعَه واتَّقى اللهَ قدْرَ الاستطاعة، ثمَّ أخطأ لعدم بلوغ الحُجَّة أو لقيامِ شُبهةٍ أو لتأويلٍ سائغٍ فهو معذورٌ لا يترتَّب عليه إثمٌ ما لم يفرِّطْ في شيءٍ من ذلك، فلا يُعذر حينئذٍ، وعليه الإثمُ بقَدْر تفريطه، ويُستصحب إيمانُه ولا يُزالُ بالشكِّ. وإنَّما يزول بعد إقامة الحُجَّة وإيضاح المحَجَّة وإزالة الشبهة، إذ «لاَ يَزُولُ يَقِينٌ إِلاَّ بِمِثْلِهِ».
    أمَّا إن كان غيرَ مؤمنٍ أصلاً فهو كافرٌ واعتذارُه غيرُ مقبولٍ بالاجتهاد؛ لقيام أدِلَّة الرِّسالة وظهور أعلام النبوَّة.
    ويؤيِّد ذلك: ما نُقل -في بعض المسائل العلمية العقدية- مِن اختلاف السلف فيها كرؤية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لربِّه، وعروجِه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى السماء: هل كان بالجسد أم بالروح أم بهما معًا؟ وسماعِ الميِّت نداءَ الحيِّ، وإنكارِ بعض السلف صفةَ العَجَب الواردةَ في قراءةٍ ثابتةٍ متواترةٍ(٥).
    ومع كُلِّ ذلك لم يُنقل عن أحدٍ منهم القولُ بتكفيرِ أو تأثيمِ أو تفسيقِ من أخطأوا في اجتهادهم لِما تقدَّم ذِكْرُه، ولم يَرِدْ نصٌّ يفرِّق بين خطإٍ وآخَرَ في الحديث السابق، أو في قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: ٥]، وقولِه تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦].
    ولا يَسَعُ الاستدلالُ بقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقَّة: ٣٧]، وقولِه تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٩١]، وقولِه تعالى: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: ٢٩] على التفريق بين خطإٍ وآخَرَ، ذلك لأنَّ المراد بالخطإ في هذا المقام هو: ما يقابل الصوابَ، أي: ضدُّه، وهو من الرباعيِّ: «أخطأ يُخطئ»، وفاعلُه يسمَّى: «مخطئًا»، أي: من لم يُصِبِ الحقَّ.
    أمَّا الخطأ في الآية فثلاثيٌّ من: «خَطِئ يَخْطَأ، فهو خاطِئٌ»، فهو بمعنى «أذنب».
    ومن المعلوم -أيضًا- أنه قد تأتي «خَطِئ» بمعنى «أخطأ»، لكن يختلف المرادُ بكلٍّ منهما مِن تعمُّد الفعل وعدمِه، حيث لا يقال: «أخطأ» إلاَّ لمن لم يتعمَّدِ الفعلَ، والفاعلُ: «مخطئٌ»، والاسمُ منه: الخطأ. ويقال لمن تعمَّد الفعلَ: «خَطِئَ فهو خاطئٌ»، والاسم منه «الخطيئة»(٦).
    هذا، ومن نتائج هذا التفريق: القولُ بأنَّ العاجز عن معرفة الحقِّ في مسائل الأصول غيرُ معذورٍ وأنَّ الظنَّ والتقليد في العقائد أو الأصول ممَّا هو ثابتٌ قطعًا غيرُ معتبرٍ، أي: أنه لا يجوز التقليدُ في مسائل الأصول، بل يجب تحصيلُها بالاعتماد على النظر والفكر، لا على مجرَّد المحاكاة والتشبُّه بالآخَرين. وقد ادُّعِيَ في ذلك إجماعُ أهل العلم مِن أهل الحقِّ وغيرهم من الطوائف، بل ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائينيُّ(٧) إلى القول بأنَّ: «من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليلٍ لا يستحقُّ بذلك اسمَ الإيمان ولا دخولَ الجَنَّة والخلوصَ من الخلود في النيران»(٨).
    هذا، ومع كون هذا التفريق السابقِ الحادثِ منقوضًا بإجماع السلف فالبناءُ عليه لا يثبت؛ لأنَّ إيمان المقلِّد معتبرٌ غيرُ مشروطٍ فيه النظرُ والاستدلال. إذ لو كان واجبًا لفَعَله الصحابةُ رضي الله عنهم وأمروا به، لكنَّهم لم يفعلوا ولو فعلوا لنُقل عنهم.
    والاعتراضُ بأنَّ الصحابة رضي الله عنهم كانت معرفتُهم بالعقائد مبنيَّةً على الدليل اكتفاءً بصفاء أذهانهم واعتمادِهم على السليقة ومشاهدتِهم الوحيَ يَردُّه أنَّ الصحابة رضي الله عنهم لَمَّا فتحوا البلدانَ والأمصار قَبِلوا إيمانَ العَجَم والأعراب والعوامِّ وإن كان تحت السيف أو تبعًا لكبيرٍ منهم أسلم، ولم يأمروا أحدًا منهم بترديد نظره ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجَأُوا أَمْرَه حتى يَنْظُر.
    بل لم يقلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأحدٍ: لا أقبل إسلامَك حتَّى أعلم أنك نَظَرْتَ واستدللتَ. قال ابن حزمٍ -رحمه الله-: «فإذا لم يقل عليه السلام ذلك فالقولُ به واعتقادُه إفكٌ وضلالٌ، وكذلك أجمع جميعُ الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقَبولِه من كلِّ أحدٍ دون ذكرِ استدلالٍ، ثمَّ هكذا جيلاً فجيلاً حتى حَدَثَ من لا قَدْرَ له»(٩).
    ولأنَّ الاستدلال والنظرَ ليس هو المقصودَ في نفسه، وإنما هو طريقٌ إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردَّد، فإنَّ مَن حصل له هذا الاعتقادُ الذي لا شكَّ فيه من غير دلالةٍ فقد صار مؤمنًا وزالت عنه كلفةُ طَلَبِ الأدلَّة.
    ولو كان النظر في معرفة الله واجبًا لأدَّى إلى الدور، لأنَّ وجوب النظر المأمورِ به متوقِّفٌ على معرفة الله، ومعرفةُ الله متوقِّفةٌ على النظر. ومَن أنعم اللهُ عليه بالاعتقاد الصافي من الشُّبَه والشكوك فَقَدْ أنعم عليه بكلِّ أنواع النِّعم وأجلِّها حتى لم يَكِلْهُ إلى النظر والاستدلال لا سيَّمَا العوامُّ، فإنك تجد الإيمانَ في صدور كثيرٍ منهم كالجبال الراسيات أكثرَ ممَّن شاهد ذلك بالأدلَّة، ومَن كان هذا وصْفَه كان مقلِّدًا في الدليل.
    وقد جاء في «شرح العقيدة الطحاوية» قولُ ابن أبي العزِّ: «ولهذا كان الصحيحُ أنَّ أوَّل واجبٍ يجب على المكلَّف شهادةُ أن لا إله إلاَّ الله، لا النظرُ ولا القصدُ إلى النظر ولا الشكُّ، كما هي أقوالُ أرباب الكلام المذموم، بل أئمَّةُ السلف كلُّهم متَّفقون على أنَّ أوَّلَ ما يؤمر به العبدُ الشهادتان، ومتَّفقون على أنَّ مَن فَعَل ذلك قبل البلوغ لم يُؤْمَرْ بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو مَيَّز عند مَن يرى ذلك، ولم يُوجِبْ أحدٌ منهم على وليِّه أن يخاطبه -حينئذٍ- بتجديد الشهادتين وإن كان الإقرارُ بالشهادتين واجبًا باتِّفاق المسلمين، ووجوبُه يسبق وجوبَ الصلاة، لكن هو أدَّى هذا الواجبَ قبل ذلك»(١٠).
    أمَّا تبرير القسمة الثنائيَّة بين الأصول والفروع بالتفريق بين القطع والظنِّ، والعلم والعمل، ونسبةُ التفريق بينهما إلى الشرع بحيث يترتَّب على هذا التفريقِ أحكامٌ شرعيةٌ؛ فإنه لا يشهد على هذا التقسيم -أيضًا- دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا نَقْلٌ عن أحدٍ من السلف وأئمَّةِ الفتوى والدِّين.
    فإن كان دليلُ القسمة هو ادِّعاءَ القطعيَّة في مسائل الأصول دون الفروع فهو فرقٌ يظهر بطلانُه ممَّا هو معلومٌ من المسائل الفرعية العملية التي عليها أدلَّةٌ قاطعةٌ بالإجماع كتحريم المحرَّمات ووجوبِ الواجبات الظاهرة، وهي المسائلُ الفقهية المعلومة من الدِّين بالضرورة وغيرها، ومع وجود قطعية الدليل عليها لم يُحْكَمْ بكفرِ مَن أوَّلها أو أنكرها بجهلٍ حتى تُقَامَ عليه الحُجَّةُ وتُزالَ عنه الشبهة: كما هو حالُ مَن أكل بعد طلوع الفجر متأوِّلاً أو جاهلاً في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا شكَّ أنَّ خطأَه عليه دليلٌ قطعيٌّ، ومع ذلك لم يَصْدُرْ منه صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ البيانُ دون تأثيمٍ فضلاً عن التكفير. وكذلك الطائفةُ التي استحلَّتْ شُرْبَ الخمر على عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ولم يكفِّرْهم الصحابة رضي الله عنهم، بل بَيَّنوا لهم الحُكْمَ فتابوا ورجعوا إلى الحقِّ.
    هذا، والقطعُ والظنُّ من الأمور النسبية، فكونُ المسألة قطعيةً أو ظنِّيةً أمرٌ إضافيٌّ بحَسَب حال المعتقِدين وليس هو صفةً ملازِمةً للقول المتنازَع فيه، فالقطعُ والظنُّ يكون بحَسَب ما وصل إلى الإنسان مِن الأدلَّة وبحَسَب قدرته على الاستدلال، إذ العبد قد يقطع بأشياءَ عَلِمَها بالضرورة أو بالنقل المعلومِ صدقُه عنها، وغيرُه لا يعرف ذلك لا قطعًا ولا ظنًّا. وقد يحصل القطعُ لإنسانٍ ولا يحصل لغيره سوى الظنِّ على ما حقَّقه ابنُ تيميَّة وابنُ القيِّم رحمهما الله تعالى(١١).
    وأمَّا تبرير القسمة بأنَّ مسائل الأصول يُطلب فيها العلمُ والاعتقاد دون مسائل الفروع المطلوبِ فيها العملُ، ففسادُ هذا الفرقِ يظهر جليًّا من ناحية كون الحكم الشرعيِّ يجب اعتقادُه، إذ يجب اعتقادُ وجوب الواجبات وحُرْمةِ المحرَّمات واستحبابِ المستحبَّات وكراهةِ المكروهات وإباحةِ المباحات.
    ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ من أنكر حُكمًا شرعيًّا معلومًا من الدِّين بالضرورة فهو كافرٌ كفرًا مُخْرجًا من الملَّة: كوجوب الصلاة المفروضة والزكاة وصوم رمضان، وتحريم الزنا والقتل، وغيرها من الأحكام.
    فدلَّ ذلك على أنَّ المسائل التي يُطلب فيها العملُ يُطلب فيها -أيضًا- العلمُ والاعتقاد.
    وبالمقابل فإنَّ مِن مسائلِ الأصول ما لا يترتَّب عليها تأثيمٌ ولا تفسيقٌ ولا تكفيرٌ، كما تقدَّم من اختلاف الصحابة وتنازُعهم في بعض مسائل الأصول.
    وعليه، فإذا تقرَّر أنَّ الخطأ في المسائل العمليَّة الفرعيَّة التي يُطلب فيها العلمُ والعملُ يكون فيها المخطئُ معذورًا فإنَّ الخطأ في مسائل الأصول التي فيها علمٌ بلا عملٍ أَوْلى أن يكون المخطئُ فيها معذورًا.
    وأمَّا مَن جَعَل المسائلَ العمليةَ هي المعلومةَ بالشرع، والمسائلَ العلميةَ هي المعلومةَ بالعقل التي يستقلُّ العقلُ بدركها؛ فهو تفريقٌ غيرُ ناهضٍ، ذلك لأنَّ صفة الكفر والفسقِ، والإيمانِ والإسلام، وغيرِها من مسائل الأصول، إذا اقترنتْ بذواتٍ فلا تستحقُّ هذه الصفاتِ إلاَّ بوصف الله ورسوله، فهي صفاتٌ ثابتةٌ بالشرع، أي: أحكامٌ شرعيةٌ لم يستقلَّ العقلُ بدَرْكِها.
    أمَّا مثيلُ ما استقلَّ العقل بدَرْكِه فكالطبيعيَّات والتجريبيَّات ومسائلِ الهندسة والحساب وغيرها.
    ومنه تُدْرِك أنَّ كُلاًّ من مسائل الأصول والفروع ثابتةٌ بالشرع، وليست الأصولُ من المسائل العقلية في نفسها التي يُكفَّر أو يُفسَّق من خالفها، إذ يَلْزَم من القول بذلك تكفيرُ المخطئ في مسائل الطبِّ والهندسة والحساب وغيرِها من المسائل العقلية!
    هذا، -وفي الأخير- ينبغي أن تعلم أنَّ ما يتمسَّك به المفرِّقون -من المتكلِّمين وممَّن أحدثوه قبلهم- بين مسائل الأصول -التي يُسمُّونها يقينيَّةً-، والفروعِ -التي يجعلونها ظنيِّةً-، ثمَّ ينسبونها إلى الشرع ويرتِّبون عليها أحكامًا شرعيةً، فإنَّ هذا التفريق ساقطٌ لا ينتهض للاحتجاج ولا يشهد له دليلٌ من الشرع. وما استدلُّوا به يثير الاضطرابَ ولا يقوى على الانتهاض، بل إنَّ الآثار المترتِّبةَ على هذا التفريق مخالِفةٌ للكتاب والسنَّة والإجماعِ القديم.
    والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.


    (١) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١٢٥).

    (٢) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٢٣٩).

    (٣) انظر: «الملل والنحل» للشهرستاني (١/ ٢٠٢).

    (٤) أخرجه ابن ماجه في «الطلاق» باب طلاق المكره والناسي (٢٠٤٥) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «الإرواء» (١/ ١٢٣) رقم (٨٢).

    (٥) انظر: «زاد المسير» لابن الجوزي (٧/ ٥٠).

    (٦) انظر: «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ١٩، ٢٢٢، ٢٨٥).

    (٧) هو الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم بن مهران، الإسفرائينيُّ الإمام الأصوليُّ الشافعي، شيخ أهل خراسان، الملقَّب بركن الدين، وهو أوَّل من لُقِّب من العلماء، فقد كان أحدَ المجتهدين في عصره فقيهًا متكلِّمًا أصوليًّا، له آراءٌ أصوليةٌ مشهورةٌ ومصنَّفاتٌ عديدةٌ منها: «جامع الحلي» في أصول الدين، و«الردُّ على الملحدين»، و«التعليقة النافعة في أصول الدين»، توفِّي سنة: (٤١٨ﻫ).
    انظر ترجمته في: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» للمؤلِّف (١٥).

    (٨) «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٤٣٠).

    (٩) «الفصل» لابن حزم (٥/ ٢٤٤).

    (١٠) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٧٨).

    (١١) انظر: «منهاج السنَّة» (٣/ ٢٢) و«مجموع الفتاوى» (٩/ ١٥٦، ١٥٧)، (١٩/ ٢١١) كلاهما لابن تيمية، و«الصواعق المرسلة» لابن القيِّم باختصار الموصلي (٥٠١).

  2. #2

    افتراضي رد: مفهوم تقسيم الدين إلى أصلٍ وفرعٍ

    تقسيم مسائل الشرع بحسب الدليل وترتيب أحكام مختلفة ثابت بإجماع الفقهاء والأصوليين عند آخرين .

    يقول الإمام البغوي رحمه الله:( العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول وعلم الفروع) شرح السنة (1/289 ).

    وقال القرافي رحمه الله: (وقياس الخصم الأصول على الفروع غلط لعظم التفاوت بينهما) شرح تنقيح الفصول (439 ).

    وقال الشاطبي رحمه الله: (امتازت الأصول عن الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة فبقت على أصلها من الاستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص) الموافقات (1/ 39 ).

    ويعارض المخالفون الإجماع المذكور بآخر واستندوا إلى الإجماع الذي ذكره الإمام النووي قبل ابن تيمية في شرح مسلم (16/ 218- 219 ).

    وقبله الإمام الجصاص من علماء القرن الرابع حين قال: (إنا وجدنا الصحابة اختلفوا في أحكام الحوادث على ضربين فسوّغوا الخلاف والتنازع في أحدهما وهي مسائل الفتيا وأنكروه في الآخر وخرجوا فيه إلى التلاعن والإكراه ونصب الحرب والقتال ) الفصول في الأصول (62 ).
    وهو مفهم للإجماع على تقسيم الشريعة قسمين
    وكذلك الأبياري علي بن إسماعيل شارح البرهان في أصول الفقه نسب تقسيم مسائل الشريعة بحسب الأدلة إلى العلماء من الفقهاء والأصوليين فيقول اعلم أن الشريعة انقسمت أحكامها إلى قسمين قسم طلب من الخلق فيه العلم أو الاعتقاد الصحيح عند بعض الناس ولم يكتف منهم فيه بغالب الظن على حال.وقسم اكتفى الشرع فيه بغلبة الظن ولم يكلف الخلق العلم والمسائل التي لا يكتفى فيها بغلبة الظن انقسمت إلى كلامية (عقدية) وإلى أصولية وإلى فقهية. فالمسائل الكلامية: كحدوث العالم وإثبات الصانع وصفاته وما يستحيل عليه وجواز بعثة الرسل وتأييدهم بالمعجزات إلى ما ضاهى ذلك مما ذكرناه في خطبة الكتاب فهذا الفن لا يكتفى فيه بغالب الظن ولا بد من العقد الصحيح في ذلك. وبعض هذه المسائل إذا لم يحصل العقد الصحيح فيها لكفر بها وقد يضلّل ويفسّق واستقصاء ذلك ههنا غير ممكن. وأما المسائل الأصولية فككون الإجماع حجة وخبر الواحد أمارة والقياس والعمل بالظواهر. وقد ذهب بعض الناس إلى أن المسائل كلها قطعية وليس كذلك عندنا... وهذه المسائل الصحيح فيها أنه يلزم التكفير بجحدها وسيرد ذلك في الكلام على أن جاحد الإجماع هل يكفر؟ وأما المسائل الفقهية: فهي منقسمة إلى مقطوع به ومظنون والمقطوع به منها على قسمين: قسم علم بالتواتر والضرورة كوجوب الصلوات الخمس والصوم والزكاة والحج فجاحد وجوبها كافر. وقسم يثبت بالنظر كبيع أمهات الأولاد ومنع نكاح المعتدة عند بعض العلماء. ومسائل الشريعة القطعية النظرية كثيرة والمسائل الفروعية الظنية لا يتأتى حصرها. هذا التقسيم هو مذهب العلماء من الفقهاء والأصوليين. فخرج من ذلك أن القطعيات قسمان: ضروريات ونظريات فجاحد الضروري كافر، والمخطئ في النظري الظني منها لا إثم عليه بحال. وهل يتصور فيها الخطأ أم لا؟ أعني الفقهيات الظنية.هذا ينبني على أن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور؟ وهذا مذهب الجماهير». التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 437- 440ومما يبنغي التنبيه عليه أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع بحسب الأدلة كان شائعا عند السلف الصالح يقول الدارمي عثمان بن سعيد: (وقد علمتم يقنيا أنا لم نخترع هذه الروايات ولم نفتعلها بل رويناها عن الأئمة الهادين الذين نقلوا أصول الدين وفروعه إلى الأنام) الرد على الجهمية (82 ).
    ونحوه عند ابن أبي حاتم كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 176) اللالكائي .
    وممن قسّم المسائل إلى أصول وفروع بحسب الأدلة مع ترتيب الأحكام عليها الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 557 -558 ).
    ومن قبل هؤلاء الإمام الشافعي رحمه الله قال المزني: سألت الشافعي عن مسألة في الكلام فقال:سلني عن شيء إذا أخطأت فيه قلتَ أخطأت. ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت فيه قلتَ كفرت. (ذم الكلام للأنصاري 1131 ).
    وعلق على هذا النقل الذهبي في السير (10/ 19) قائلا: (هذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع ).
    وممن فرّق بين المسائل بحسب الأدلة مع اختلاف الحكم من أئمة السلف الإمام ابن جرير الطبري في التبصير في معالم الدين(ص113 ).
    وقال الإمام ابن منده في كتاب التوحيد (1/ 314): (ذكر الدليل على أن المجتهد المخطئ في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند ).
    وقال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع (ص121) : (ومن قول أهل السنة: إنه لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يعذَروا إذ خرجوا بتأويلهم عن الصحابة فسمّاهم عليه الصلاة والسلام "ماقين من الدين" وجعلَ المجتهد في الأحكام مأجورا وإن أخطأ ).
    أما الذين أنكره ابن تيمية رحمه الله فهو تقسم مسائل الشرع إلى قسمين بحسب الموضوع (علمية وعملية) أو بحسب المأخذ (عقليات وشرعيات) وما شابه ذلك .
    وأما تقسميها بحسب الأدلة الواردة في المسألة فلم ينكره أصلا والدليل على ذلك قوله:(بل الحق: أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول والدقيق مسائل فروع) مجموع الفتاوى (6/ 56 ).
    ويقول رحمه الله في الفرق بين دقيق العلم وجليله :ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العمل بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقا لقوله تعالى:﴿ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾» درء تعارض العقل والنقل (2/315)
    ويقول في ترتب الأحكام التكفيرية على التقسيم الصحيح: (... إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال:إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها. لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفّر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام مثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك . ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين ... ) مجموع الفتاوى (18/ 34 ).

    ودعني أختم الكلام بنقول طبيبة عن إمام الأندلس والمغرب الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله .
    من أقواله في هذا الباب ما يلي : «والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو: الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له ولا شبه له ولا مثل له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد خالق كل شيء وإليه يرجع كل شيء المحيي المميت الحي الذي لا يموت عالم الغيب والشهادة هما عنده سواء لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء هو الأول والآخر والظاهر والباطن والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليّته ابتداء ولا لآخريّته انقضاء وهو على العرش استوى. والشهادة بأن محمدا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يلزم الإيمان بجميعه واستعمال محكمهوأن الصلوات الخمس فريضة ويلزمه من علمها علم مالا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامهاوأن صوم رمضان فرض ويلزمه علم ما يفسد صومه وما لا يتم إلا به وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضا أن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب ولزمه أن يعلم بأن الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع السبيل إليه إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا وتحريم الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة والأنجاس كلها والسرقة والربا والغصب والرشوة في الحكم والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئا لا يشتاح فيه ولا يرغب في مثله وتحريم الظلم كله وهو كل ما منع الله عز وجل منه ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات ومن ذكر معهنّ وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق وما كان مثل هذا كلّه مما نطق به الكتاب وأجمعت الأمة عليه». جامع بيان فضل العلم1/57-58 وقال أيضا رحمه الله: «إن من لم يعلم بتحريم الشيء فلا حرج عليه حتى يعلم، إذا كان الشيء مما يعذر الإنسان بجهله من علم الخاصة،قال عز وجل:﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ الإسراء (15)».التمهيد ضمن شروح الموطأ: 16/304-305 وقال رحمه الله تعالى أيضا: «إنّ من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع، وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي في ذلك ما لا يعذر بجهله» الاستذكار (14/282) ضمن موسوعة شروح الموطأوقال رحمه الله في عدم تكفير المنكر لوجوب زكاة الفطر :«لعل جاهلا أن يقول:إن زكاة الفطر لو كانت فريضة لكفر من قال:إنها ليست بفرض؛كما لو قال في زكاة المال المفروضة أو في الصلاة المفروضة: إنها ليست بفرض كفرفالجواب عن هذا ومثله، أن ما ثبت فرضُه من جهة الإجماع الذي يقطع العذر كفّر دافعُه؛ لأنه لا عذر له فيه. وكل فرض ثبت بدليلٍ لم يكفّر صاحبه، ولكنه يجهّل ويخطّأ، فإن تمادى بعد البيان له هجر، وإن لم يبق له عذر بالتأويل. ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر ولسنا نكفّر من قال بتحليله وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة ونكاح المحرِم ونكاح السرّ والصلاة بغير قراءة وبيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة والزكاة والزكاة والحج وسائر الأحكام.ولسنا نكفّر من قال بتحليل شيء من ذلك لأن الدليل في ذلك يوجب العمل ولا يقطع العذر.والأمر في ذلك واضح لمن فهم». وقال رحمه الله أيضا في تحريم الحمر الأهلية وذي الناب من السباع: «فإن قال قائل: إن الحمر الأهلية وذا الناب من السباع لو كان أكلها حراما لكفِّر مستحلها كما يكفَّر مستحل الميتة والدم ولحم الخنـزير! فالجواب عن ذلك: أنّ المحرَّم بآية مجتمع على تأويلها، أو سنة مجتمع على القول بها يكفُر مستحله لأنه جاء مجيئا يقطع العذر ولا يسوغ فيه التأويل. وما جاء مجيئا يوجب العمل ولا يقطع العذر وساغ فيه التأويل لم يكفر مستحله وإن كان مخطئا. ألا ترى أنّ المسكر من غير شراب العنب لا يُكفَّر المتأول فيه، وإن كان قد صح عندنا النهي بتحريمه. ولا نكفّر من يقول بأن الصلاة يخرج منها المرء ويتحلّل بغير سلام، وأن السلام ليس من فرائضها، مع قيام الدليل على وجوب السلام عندنا فيها. وكذلك لا يكفّر من قال: إن قراءة أم القرآن وغيرها سواء، وأن تعيين قراءتها في الصلاة ليس بواجب، ومن قرأ غيرها أجزأه، مع ثبوت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا صلاة إلا بها. وكذلك لا يكفّر من أوجب الزكاة على خمسة رجال ملكوا خمس ذود من الإبل. ولا من قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، ولا حج إلا على من ملك زادا أو راحلة، مع إطلاق الله الاستطاعة، ونفيِهِ على لسان رسوله عليه السلام أن يكون فيما دون خمس ذود صدقة، وأنه صام في السفر صلى الله عليه وسلم. وهذا كثير لا يجهله من له أقل عناية بالعلم إن شاء الله» التمهيد (13/227-228) (8/589).
    وأخيرا: قولك: إن كون المسألة ظنية وقطعية أمر نسبي وليس حقيقيا فليس الأمر على هذا الإطلاق عند أهل العلم فكون المسألة قطعية أو ظنية حقيقي بالنسبة إلى الأدلة الواردة فيها في الشرع ونسبي بالنظر إلى اختلاف علم الناس بها كما حققه ابن تيمية في كتابه تنبيه الرجل الغافل وقبله الأصوليون حيث قرروا أن الحقائق لا تتبع العقود والاعتيادات .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •