الحمد لله وحده والصلاة والسلام علىمن لا نبي بعده وعلى آله وصحبه جنده وحزبه وبعد,
للأسف كُتب مقال يتندر فيه صاحبه على من يعتقد أن بغداد لم تسقط يريد الزعم أنها سقطتْ ولم تعد تُقاوم ولمثله أؤكد أن العراق لم تسقط بحول الله وإرادته وبغداد تقود المقاومة. والدليل موجود امام عيني من يريد أن يرى يكاد يحجب عين الشمس.
وأتساءل أولا: ثورة الشعب الأميركي نفسه على قيادته ووصفهم له بالكذابين وانخفاض شعبية بوش ...أفول نجم اليمينيون الجدد واندحار أصواتهم وعلو صوت التغيير في أميركا.. الإنفاق الحربي بتريليونات الدولارات...الكس د الاقتصادي الكبير .... انخفاض سعر صرف الدولار إلى أدنى مستوى.....ارتفاع معدل البطالة وتدمير سوق العقارات الأميركي ...أين نصنف هذا كله؟ هل هذا حدث بسبب أن أميركا تبلي بلاءا حسنا في العراق وتسيطر على الوضع؟
في العالم الحرّ وفي الولايات المتحدة الأميركية تحديدا يعيش أكثر من 300 مليون نفس ثلاثة أرباعهم يعتقدون أن أميركا قد خسرت الحرب في العراق ناهيك أن يعتقدوا أن بغداد قد سقطت في يد بوش فهم لايسلمون له بذلك بل يؤمنون بانها حرب خاسرة أكلت الأخضر واليابس من أجل ماذا؟ من أجل أن تسلم البلاد على طبق من فظة للفارسيين على حساب عشرات الآلاف القتلى من الجنود الأميركيين وسط سخط عربي ودولي ومقاومة تزداد ضراوة.
كتب المحتجون الإميركيون في آخر تظاهرة لهم على لافتاتهم ما يلي:
NO WAR NO WARMING, RESISTANCE IS FORMING
المعنى: لانريد هذه الحرب التي تستعدي علينا قوى المقاومة وتزيد من ضراوتها.
هذا رأي الأميركان (كعالم أول), يرون مقاومة عنيفة, يرون بغداد تقاوم ولم تسقط وهذا رأي يختلف تماما عمن يرى أن الأميركان قد ربحوا في حربهم وأسقطوا بغداد ولا عجب فالهوة سحيقة بين عالمهم الأول الحر الذي يرى بوش وزبانيته كذبة مهزومين وبين عالمنا الثالث الذي يرى في زيارة بوش مناسبة قومية تعطل لها البلاد!!
والسؤال الآن هو هل يسيطر بوش على العراق فعلا؟ هل يسيطر على بغداد؟ هل يسيطرون على المنطقة الخضراء التي تنهمر عليها قذائف المورتار صباح مساء؟
وأزُف هذا الخبر الذي ربما قد يسوء البعض منا: لقد سقط أكثر من 17 جندي أميركي في الأسبوعين الماضيين ومئات القذائف الصاروخية على رؤوس الموظفين الأميركان داخل المنطقة الخضراء ذلك السجن الكبير الذي يحبس الأميركان وعملاؤهم انفسهم فيه.
من الذي يملي شروطه الآن في ساحة القتال؟ أو على شرط من يجري القتال الآن في بغداد؟ المجاهدون يضربون وقتما شاؤوا وينسحبون إلى حيث شاؤوا وأرض العراق كلها ملك لهم يمرحون فيها بينما الأميركان مقيدون داخل المنطقة الخضراء وأربع قواعد عسكرية لاخيار لهم سوى تلقي الضربات ثم يخرجون مدججون بالسلاح في عملية بحث غالبا ما تفشل عن من أطلق الصواريخ.
الأميركان فشلوا في إدارة السلطة فأعانهم عليها العملاء أمثال السستاني والمالكي والحكيم والطفل لمعجزة وجيش المهدي.
الأميركان فشلوا في القضاء على المجاهدين فاداروها حرب بالوكالة عن طريق ما يسمى بمجرمي الصحوة وها نحن نرى مصير الصحوة.
نرجع لسؤالنا هل يستطيع المالكي ان يعيش خارج المنطقة الخضراء؟ هل يستطيع السفير الأميركي أن يتوجه منها إلى المطار بريا بعربة مصفحة؟
أقول إنه لم يفرح بدخول القوات الأميركية بغداد عام 2003 إلا الشيعة والمنافقون والمرتدون والخونة العملاء والجهلة السطحيون ويومها تصور بوش أيضا أن بغداد سقطت في وجه الغزو الأميركي تماما مثل كاتب مقالنا هذا.. حتى إنه من فرط حماسه وتفاؤله هبط بحوامة فوق احدى حاملات الطائرات في حشد استعراضي ليعلن عن الملأ انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في العراق ...
ولكن... كان الوهم كبيرا وجاء الرد سريعا على يد المقاومة الإسلامية وتحول كارنفال حاملة الطائرات هذا فيما بعد إلى طريفة يتندر بها الإعلاميون والصحفيون على هذا الذي تصور أن بغداد قد سقطت وأن الأعمال العسكرية قد انتهت وأن المقاوة قد أخمدت وأن الأميركيين سينعمون بوقت رائع في جني أرباح النفط العراقي المنهوب ..
.
ولكن هيهات هيهات ... فقد تحولت العراق لبركة دماء أميركية كبرى ...وأُسقط في يد بوش وزبانيته واتسعت المقاومة لتشمل كل ركن في العراق وبينما كان السستاني يحرم الجنة على من يقاوم الأميركان كان المجاهدون يحرمون الأنبار وصلاح الدين وبعقوبة وغيرها على هامرات الأميركان.
أقول شيئا, إن مسئلة سقوط بلدة ما في يد قوات غازية لا يقاس أبدا بمقدار تواجد جحافلهم فيها أو كثافة نيرانهم ...إنما المعيار هو مقدارالسيطرة والتحكم ومدى اتساع نطاقها. وأعطيك أمثلة:
لقد دخل السوفييت أفغانستان بقوات كبيرة ومكثوا فيها اعواما عدة فهل سقطت أفغانستان في يد برجنيف؟ ومن قبلها دخل الألمان ستالينجراد بعد معارك استنزاف دامية, فهل سقطت ستالنجراد في يد هتلر؟
عندما سطا الأميركان على فيتنام وقرروا - إبان الحرب الباردة - بناء دولة من العدم جنوب خط عرض 17 في الهند الصينية لتكون دولة عميلة لهم وسموها فيتنام الجنوبية وجاؤوا فيها بنصف مليون جندي أميركي وآلة حرب رهيبة وعاثوا فيها فسادا لعقدين من الزمان فهل قيل إن فيتنام سقطت؟ لم يكن أحد يتجرأ ولو عنده نصف عقل أن يقول أن فيتنام سقطت في يد الأميركان رغم أنهم مكثوا فيها 21 عاما (1954 - 1975) تعاقب على الولايات المتحدة فيها 3 رؤساء (كينيدي - جونسون -نيكسون) فماذا حدث؟ الأول اُغتيل اغتالته مافيا السلاح (لأنه كان يريد الانسحاب) والثاني استقال تحت وطئة الهزيمة والغضب الشعبي والثالث أُقيل لفضائحه.
كانت أيام سود على الأميركان شعبا وجيشا وسلطة ظهر فيه وجه أميركا القبيح واجتاحت المظاهرات العارمة كل الولايات والجامعات الأميركية وانتشر الحرس الوطني في الشوارع وأُعلنت حالت الطوارئ في البلاد وواشنطن وعمت الفوضى وأطلق الرصاص الحي لأول مرة على افراد الشعب الأميركي وسقط قتلى مدنيون وأطلقت كلمة مشهورة انتقادا للسلطة وأدائها في حرب فيتنام: "إنهم يقتلون أبناءنا في فيتنام وفي الحدائق الخلفية لبيوتنا"
وانعكست الهزيمة التي تحدث في فيتنام على بعد آلاف الكيلوترات سلبا على سلوك السلطة تجاه الشعب وعلى الشعب نفسه تجاه مجتمعه ومورست ابشع جرائم التفرقة العنصرية ضد السود في الستينات من القرن المنصرم واغتيل داعية حقوق السود الشهير "مارتن لوثر كنج" ومالكولم إكس -رحمه الله- بينما انشق قطاع عريض من الشعب الأميركي المريض عن المجتمع نفسه وظهرت مجتمعات "الهيبيز" تموج كالبهائم وتمارس الحياة كما تمارسها الحيوانات.
إني اتكلم عن فيتنام وغزو الأميركان لها وأثر ذلك على المجتمع الأميركي بإسهاب لأن ما حدث في فيتنام صورة كربونية من لما يحدث الآن على أرض العراق والذي يقرأ التاريخ يدرك التشابه المذهل بين الحربين ويدرك كيف أن العقلية الأميركية الاستعمارية المتسلطة بلهاء لا تتغير ولا تتطور وأنهم لا يستفيدون من تجاربهم وهزائمهم المريرة ولايعون الدروس المستفادة: ولنوضح بعض أوجه التشابه الرئيسية:
ذهبت أميركا للحرب في فيتنام وحدها وفي العراق ذهبوا وحدهم أيضا.
إحتاجت أميركا لذريعة تتخدمها لإطلاق شرارة العمليات العسكرية الكبرى ضد فيتنام الشمالية فكان الادعاء بأن هناك هجوم عسكري تشنه قوات فيتنام الشمالية على بارجتين حربيتين أميركيتين تبحران في خليج "تونكين" على سواحل فيتنام فتم استصدار قرار من الكونجرس الأميركي بإعطاء صلاحيات أوسع للرئيس الأميركي باستخدام القوة العسكرية والضربات الجوية فيما عرف بـ "Gulf of Tonkin Resolution"
ثم جاء اعتراف وزير الدفاع الأميركي وقتها "ماكنمارا" بأنه لم يحدث هجوم من الأساس تماما كما استخدم الأميركان ذريعة تطوير أسلحة الدمار الشامل في معامل صدام كمبرر كاذب داخل مجلس الأمن لشن الهجوم على العراق وكلنا يذكر كيف ظهر كولن باول يهذي في جلسة المجلس ليثبت بالصور والفيديو امتلاك العراق لها ثم اتضح فيما بعد أنها خديعة كبرى.
كانت الأسباب المعلنة لاحتلال الجنوب الفيتنامي هو تعميم الديمقراطية وكسر القيود ونشر الحرية بينما كان الأميركان يتجهون فعليا على الأرض لفرض القيود وتكميم الأفواه. نصّبوا عميلا لهم عبر انتخابات شكلية وصفها المححلون بالمزورة هو الجنرال "ديم", فيتنامي من الجنوب يكره الشيوعية سيء السمعة... ماذا فعل؟ هيأ للأمريكان أركان وجودهم واستدار نحو شعبه إذلالا وتقتيلا تماما كما يفعل المالكي الآن في العراق من تقتيل لطائفته بواسطة جيشه المرتد وغالبيته من الشيعة بدعم جوي ولوجستي من الطائرات الأميركية....ثم, كيف ردت أميركا الجميل ل"ديم" عميلها؟...
لما ازداد السخط الشعبي في الجنوب وطَيرت وكالات الأنباء صور الكهان البوذيين وقد أشعلوا النيران في أنفسهم وسط شوارع هانوي احتجاجا عليه رأت إدارة كينيدي أنها قد استنفدت أغراضها منه فدبرت من واشنطن انقلابا أطاح به وأعدم ديم بأمر وكالة الاستخبارات وأتت بعميل آخر وهكذا أميركا لاترد الجميل لعملائها أبدا والآن تتكرر الصورة في العراق من نشر للديمقراطية وراء أسوار سجن أبو غريب.
اعتمد الجيش الأميركي على قوات عميلة من الفيتناميين وجندوهم باسم جيش فيتنام الجنوبي وأقنعوه بمقاتلة إخوانهم الفيتناميين الشماليين ووضعوهم في الصفوف الأمامية للقتال وهم لاطاقة لهم فسالت الدماء بين أبناء الشعب الواحد بينما اختفى الأميركان في الخلف آخذين دور المتفرج ثم تحول هذا الجيش العميل إلى لاجئين سياسيين معظمهم يعيش في أميركا تماما كما يحدث في العراق من تجنيد للمرتزقة والمترجمين والصحوة لقتال المجاهدين بينما يأخذ الأميركيون دور المتفرج.
بالنسبة للجيش الأميركي كيف كان يخاطب الرأي العام الأميركي ليخبره عن الأوضاع في فيتنام؟ في شهر ما من عام 1968 كانت كل التقارير المخابراتية الحربية التي تخرج من مكتب قائد القوات الأميركية الجنرال "موريلاند" توحي بأن الوضع ممتاز على الجبهة وتحت السيطرة ولا مؤشر على أي عمل عدائي في حين أن ما كان يجري خلف الستار هو أن الثوار الشيوعييين أو ال "Vietcong" كانوا يذهبون في اتجاه عمل حاسم يغير اتجاه مجرى الحرب من عمليات كر وفر محدودة إلى مواجهة حربية شاملة وبالفعل قاموا بهجوم شامل سمي "Tet Offensive" على جميع المواقع العسكرية الأميركية وبأعداد كبيرة (وصلت 30 ألف) وكان إطلاق النار الكثيف يجري حول السفارة الإميركية نفسها في هانوي وداخلها وفقدت أميركا ألفين وخمسائة جندي في هذه الموقعة وحدها وكانت هزيمة ساحقة يندي لها جبين كل أميركي وأجبر الأميركان بعدها على الذهاب لطاولة المفاوضات و الإسراع بالخروج. أقول تم كل هذا وسط فشل استخباراتي شامل من جانب الأميركان وتقارير كاذبة مضللة عن سير الحرب فكيف لا تتنبأ القيادة الأميركية بهجوم وشيك بهذا الحجم وتلك الصورة الدامية تم الإعداد له على فترة طويلة من الزمان؟
فهذا درس كبير ونصيحة قيمة لمن يعطي أذنيه لتقارير الجيش الأميركي في العراق ويصدقها ثم يتندر على من ينعتها بالكذب.
والله أعلا وأجل