بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ قال ابن القيم رحمه الله: ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.أحدهما: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام. وهذا الضرب أعز منالكبريت الأحمر وهم العلماء بالله وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض القلب وأدويتها الناصحون لله ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح.القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك فإذا فارقك سكن الألم.ومنهم من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه وفرحه به.فهو يحدث من فيه كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي يليه أنزل من الجانب الآخر.قال بعضهم:يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهديمشي على الأرض مختالا فأحسبه ... لثقل طلعته يمشي على كبديوقال ابن القيم:ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب، والشيخ يحمله، وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع، ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة أو كما قال:قال بعضهم:ما حيلتي في ثقيل قد بليت به ... من قبح طلعته يستحسن الرمدقد زاد في الثقل حتى ما يقاربه ... في ثقله أحد حتى ولا أحدومرض الشعبي فعاده ثقيل فأطال الجلوس ثم قال للشعبي: ما أشد ما مر بك في مرضك؟ قال: قعودك عندي.ومر به صديق له وهو بين ثقيلين فقال له: كيف الروح؟ فقال: في النزع يعني في شدة عظيمة.وبالجملة: فمخالطة كل مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة.ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا.القسم الرابع: من مخالطته الهلاك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله.وهم أهل البدع والضلالة، والصادون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الداعون إلى خلافها، الذي يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا.إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين.وإن جردت المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين.وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين.وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتونين.وإن تبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين.وإن انقطعت إلى الله تعالى، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من المبلسين.وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.فالحز كل الحزم: التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل باعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال:وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضلوقال آخر:وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل