بقلم/ فارس اللواء
الدكتاتورية المركزية واللامركزية
ينهض العالم العربي نحو الديمقراطية..تلك القيمة التي كافحت من أجلها الشعوب لتبتسم قليلا من سلطان الاستبداد والسيطرة..في ظل هذا الجو الموصوم بالحماسة رأيت من ينادي بالديمقراطية كقيمة عليا مطلقة دون مراعاة للظرف العالمي والإقليمي والوطني..المظروف ية التي أعنيها تعني انتقال العالم من عصر السياسة والعلاقات العامة إلي عصر أقل ما يقُال عليه أنه عصرا إعلاميا كان هو المُرجح للسياسة والعلاقات في المقام الأول..ذلك العامل الذي حذّر منه الدكتور عبدالوهاب المسيري ومن سطوته وقسوته وقضائه علي أعظم ما يملكه الإنسان وهي حياته الخاصة..أصبح الإنسان في عصر الإعلام مسلوب الهوية والإرادة..تحركه أدواتا إعلامية تنقل الحقيقة "المزيفة" أملا في التوجيه والكسب ..
إذا كانت الديمقراطية تقضي علي الدكتاتورية فالإعلام أصبح دكتاتور العصر..الفارق أن الدكتاتورية التي تثور ضدها الشعوب في الغالب ما تكون أشبه بالمركزية..تتجمع كافة السلطات النافذة في مؤسسة وحيدة..أما الإعلام فدكتاتوريته لامركزية تتشعب أذرعه كالأخطبوط يسلك فيه مقام القوة الناعمة فيسلب أول ما يسلب الوعي والإدراك..ومن ثم ينتقل للمرحلة التالية وهي التوجيه والحشد..هذا هو دور الإعلام في العصر الحديث..لم يكن الإعلام يوما مؤديا لرسالته الخالدة ألا وهي تربية وتثقيف وتنوير الشعوب..كان في الغالب يسلك مسلكا أقرب لرؤية السلطان..فإذا كانت الديمقراطية -التي قضي من أجلها الناس واستشهد لأجلها مئات الآلاف بل الملايين كما حدث في العراق-لم تعالج هذا الخلل الذي أصبح فيروسا يتمدد ويصعب السيطرة عليه..فهل ستكون تلك القيمة أهلا لتحقيق العدالة والنهضة أم ستسفر عن دكتاتورية لا مركزية عبر ذلك الاخطبوط التي سلكت أذرعه كافة خلايا العقل والدماغ.
في العادة يُجهد الإعلام نفسه في توصيل ما يراه حقيقة إلي الناس..ولكن هل تلك الحقيقة موافقة للفكر وللواقع وهل نتائجها تتفق مع مقدماتها؟..في الواقع لا أري ذلك..فالواقع نفسه يشهد تغول الرأسمالية بفلسفاتها الأحادية التوجه والنظر..حتي أصبحت مرادفا للديمقراطية..وبا لتالي نشأ هاجس من لم يتبني الديمقراطية بشكلها الغربي فهو ليس بديمقراطي..رأينا ذلك بوضوح في انتخابات روسيا الماضية وتلك الهالة الإعلامية الأوربية لتشويه خصمهم وخصم أوروبا اللدود فلاديمير بوتين..هذا رغم أن الإنتخابات الروسية ذاتها تجري بنظام ديمقراطي تعددي..إذا نحن أمام نظرة قُطبية استثنائية تري أن الديمقراطية هي حُلم الشعوب وتسوق لها..في حين تتمدد أذرعها الإعلامية لغرس ثقافتهم والعمل علي نشرها داخل تلك الشعوب التوّاقة...
من هنا أري أن تلك الأذرع الإعلامية هي الخطر القادم الذي يتهدد العالم..هذا إن لم يُحل داخل إطار نظري وعملي يكفي للشعوب استقلالها وحيويتها بعيدا عن تلك النزعة التوجيهية..فلا أمل في نظام نهضوي إلا باستقلاله..فإن أبي النظام –شعبا وحكومة- أن لا يسري في سبيل الإستقلال فالذوبان الشامل هو البديل..أخطأ من يظن أن الإعلام يُمكن السيطرة عليه بقرار سيادي..فالنفس البشرية تتوق دوما إلي الحقيقة وتبحث عنها بين ركام الحوادث والمؤثرات..والبد يل الأصلح هو التوعية بضرورة وأهمية تنوع المصادر الإعلامية لئلا يقع الإنسان فريسة لذلك الأخطبوط..فلسفة التنوع ذاتها بحاجة إلي رشد ينقلها من النمطية إلي النوعية..تلك النوعية التي تضمن وجود حالة للتثاقف بين الشعوب..بمعني أنه يجب علي كل فرد يريد الإفلات من مصيدة ذلك الاخطبوط أن يُنوّع من مصادره الإعلامية بمُختلف توجهاتها السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية..وأن يكن حريصا أن لا يجعل لمصدر إعلامي مهما كان وزنه في السابق أن يجعل له قدسية تحرمه من النقد أو المراجعة..