مدح شيخ الإسلام لبعض أئمة الكلام:
إن من سمات أصحاب الغلو التي طغت على ساحة الحوار بين طوائف المسلمين اليوم عدم ذكر محامد الرجل إذا ثبت عليه الغلط، ناهيك عن البدعة، فإنهم يقصفونه بصواعق الكلام من التجريح والعيب والنقص مما لا يحسنه غيرهم، وليس معهم في ذلك ولو شبه دليل وعلم ولا شموا رائحته، ونحن نذكر في هذه المقالة كلمات عن أبرز عالم حمل لواء السلفية ودافع عن أصولها بما لا يوجد مثله عند غيره من العلماء والأئمة، وهو يذكر محامد بعض أئمة الكلام.
فقد عدد شيخ الإسلام رحمة الله عليه بعض محاسن القاضي أبي بكر الباقلاني وهو إمام في الأشعرية؛ وقال عنه في الدرء: "وهذا الذي نقلوه -من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر الباقلاني- هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام عليه الشيخ أبو حامد و الشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام وأهل الحجاز ومصر، مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب و الأشعري أجل منه ولا أحسن كتبا وتصنيفا، وبسببه انتشر هذا القول، وكان منتسبا إلى الإمام أحمد وأهل السنة وأهل الحديث والسلف مع انتسابه إلى مالك و الشافعي وغيرهما من الأئمة".
وقال رحمه الله تعالى في المنهاج: "وعبد الرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم، وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن إسماعيل بن علية، ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره، وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمور الظاهرة التي لا تخفى على الصبيان".
وقال في الصفدية: "ومن جعل الحقائق تتبع العقائد كما يظن طائفة من النظار أن ليس في الحوادث التي ليس فيها نص قاطع عندهم حكم معين يطلب بالاجتهاد، بل الحكم فيها يتبع الاعتقاد، ولهذا قيل في هذا المذهب أوله سفسطة، ولكن هو سفسطة حدثت على طائفة من النظار الأذكياء، فإن هذا قول أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم والأشعري في أظهر قوليه وقول القاضي أبي بكر وأبي حامد الغزالي وغيرهم، وهو وإن كان قولا ضعيفا مخالفا للكتاب والسنة وإجماع السلف، باطل شرعا وعقلا، فالقائلون به قوم فضلاء قصدهم الحق لم يكن غرضهم أن يقولوا ما يعلمون أنه باطل".
وذكر رحمه الله في الدرء عن أبي ذر الهروي وغيره من المتكلمين كلاما لو قاله أي واحد من أهل السنة والجماعة اليوم؛ لأخرجوه أولائك المتشددون من الملة بالنعال، ولا حول ولا قوة إلى بالله، إذ شيخ الإسلام وهو من هو يقول عنهم أنهم أصحاب علم وفضل وحسنات مبرورة، ولهم جهاد لأهل الإلحاد والبدع، ويشيد بانتصارهم لأهل السنة والدين، ويبين أن هذا هو المذهب الوسط في مثل هؤلاء؛ وهو مذهب العلم والصدق والعدل والإنصاف، فقال: "أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن على الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين، لما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الصبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي، فأخذ طريقة أبو جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر، ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي، فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد، ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة؛ وهم فضلاء عقلاء؛ احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها".
ثم يبين شيخ الإسلام -وكأنه يعيش بيننا، وهذا من توفيق الله تعالى للمؤمن-؛ أن الخطأ والبدعة ليس محصورا على أهل الكلام فقط، بل حتى أهل العلم والدين -كما وصفهم- معرضون للغلط وارتكاب ما هو بدعة في الدين، ثم يعتذر للجميع ويرجو لهم السلامة، فانطبق عليه (من عرف الحق رحم الخلق)؛ فيقول: "وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}".
ولم يفت شيخ الإسلام أن يلزم المتشددين أصحاب الغلو في كل عصر بارتداد مذهبهم الباطل عليهم وعلى متبوعهم، مبينا أنه قل من يسلم من مثل غلط أولائك في المتأخرين ولو كان بدعة؛ فهو عن اجتهاد وابتغاء اتباع الرسول، وكذلك قل من يسلم من التناقض فإنه من لوازم الخلقة البشرية، هذا مع أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم ير ما هو واقع اليوم بين الأتباع وحتى بعض المتبوعين على الساحة السلفية ممن تميز بالجهل والبغي وقد استأثر بهما، مما سلط الأعداء الحقيقين للدين كالسقاف وغيره على أهل السنة والجماعة، بل على السلفية تحديدا -منهجا وعقيدة وأئمة-، فقال:"ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابا بعد اجتهاده وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين لكثرة الاشتباه والاضطراب وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ويزول به عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد كثيرا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها، فيقولون القول الموافق للسنة وينفون ما هو من لوازمه غير ظانين أنه من لوازمه، ويقولون ما ينافيه غير ظانين أنه ينافيه، ويقولون بملزومات القول المنافي لما أثبتوه من السنة، وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته، فيكون مضمون قولهم: أن يقولوا قولا ويكفروا من يقوله، وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد، لعدم تفطنه لتناقض القولين، ويوجد في الحالين لاختلاف نظره واجتهاده".
وليتعلم جميع الناس كيف يقيم القول ويوزن الكتاب من شيخ الإسلام إذ سئل عن قوت القلوب لأبي طالب المكي وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، حيث قرر أن كل كتاب لا بد أن يشتمل على ما ينقد لكن يجب العدل والإنصاف، فقال في المجموع: " وأما كتاب (قوت القلوب) وكتاب (الإحياء) تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك، وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أشد وأجود تحقيقا وأبعد عن البدعة، مع أن في (قوت القلوب) أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء مردودة كثيرة. وأما ما في (الأحياء) من المهلكات مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد ونحو ذلك فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في (الرعاية)، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود ومنه ما هو متنازع فيه، و(الإحياء) فيه فوائد كثيرة؛ لكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، -فإذا ذكرت معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أمرضه الشفاء، يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة-، وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه ".
أقول: من لا يحسن مثل هذا الكلام أو قريب منه فالسكوت أسلم له وأحسن عاقبة.