عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ . لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ ؛ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ الْحَنْظَلِيِّ -أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ -وَأَشَارَ الْآخَرُ بِغَيْرِهِ , فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : إِنَّمَا أَرَدْتَ خِلَافِي , فَقَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ , فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٌ} قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ ؛ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ , لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ .
وهذا عبد العزيز بن مروان - والد عمر بن عبد العزيز - بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدبُ بها , وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده , وكان يلزمه الصَّلوات , فأبطأ يومًا عن الصَّلاة فقال : ما حبسك ؟ قَالَ : كَانَتْ مُرَجِّلَتي تُسَكِّن شَعْرِي , فقال : بلغ من تَسْكِين شَعْرِكَ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى الصَّلاة . وكتب بذلك إلى والده فبعث عبد العزيز رسولًا إليه ؛ فما كلَّمه حتى حلق شعره .
قَالَ مالك بن أنس : وحُق على من طَلَبَ العِلْمَ أن يكون له وقار وسكينة وخشية , والعِلْم حسن لمن رُزِق خيره , وهو قَسْمٌ من الله , فلا تمكن النَّاس من نفسك , فإن من سعادة المرءِ أن يُوفق للخيرِ , وإن من شِقْوَةِ المرء أن لا يزال يخطئ , وذُلٌ وإِهَانَةٌ للعِلْمِ أن يتكلم الرجلُ بالعلمِ عند من لا يطيعه .
قَالَ القعنبي : سمعت مالك بن أنس يقول : كان الرَّجل يختلف إلى الرَّجُلِ ثلاثين سنة يتعلم منه .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَك : لَو لَمْ يُؤْتَ مَخْلَد بن حُسين إلا ليعلم منه الأدب , كان يَنْبَغِي أَنْ يُؤتى .
قَالَ زكريا العنبري : عِلْمُ بِلَا أَدَبٌ كَنَارِ بِلا حَطَب , وَأَدَبٌ بِلَا عِلْم كَرُوحٍ بِلَا جِسْم .
قَالَ الحسن : إن كان الرَّجُل ليخرج في أَدَبِ نَفْسِهِ السَّنَتَيْن ثُمَّ السَّنَتَيْن .
قَالَ عبد الله بن المبارك : طَلَبْنا الأدبَ حين فاتنا المؤدِّبون .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : رأيت رجلًا جاء إلى مالك بن أنس يسأله عن شيءٍ أيامًا ؛ ما يجيبه ! فقال : يا أبا عبد الله إني أريد الخروج , قَالَ : فَأَطْرَقَ طَويلًا ثم رفع رأسه وقال : ما شاء الله يا هذا ! إِنِّي إِنَّمَا أَتَكَلَّم فِيمَا أَحْتَسِب فِيه الخير , وليس أُحْسِنُ مَسْأَلَتَك هَذِه .
وعن ابن مهدي قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكًا عَنْ مَسْألَةٍ , فقال : لا أُحْسِنها , فقال الرجل : إني ضَرَبتُ إِلَيك من كَذا وكذا لأسألك عنها , فقال له مالك : فَإِذَا رجعت إلى مَكَانك , وموضعك فأخبرهم أني قد قلت لك : إني لا أُحْسِنها .
فقد كان من هدي السَّلف رضي الله عنهم التَّرَوِّي في طلب العلم ولا ينشرونه إلا بقدر حاجةِ النَّاس إليه ليظلَّ عَزِيزًا عند أهله .
قَالَ سُفْيان الثَّوري : مَنْ حدّث قبل أن يحتاج إليه ذَلَّ .
وَقَالَ أيضًا : إذا ترأس الرَّجُل سَرِيعًا أَضَرَّ بِكَثيرٍ من العلم , وإذا طَلَب وطَلَب بلغ .
وعن عبد الرحمن بن مهدي قَالَ : كان يقال : إذا لقي الرَّجُلُ الرَّجُلَ فوقه في العلم , فهو يوم غنيمته , وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه , وإذا لقي من هو دُونه تواضع له وعلَّمه.
وَقَالَ سُفْيان الثَّوري: لا نَزَالُ نَتَعَلَّمَ العِلْمَ مَا وَجَدْنَا مَنْ يُعَلِّمنا .
وعن زيد بن الحباب قَالَ : سمعت سفيان الثَّوري وسأله شيخ عن حديثٍ فَلَمْ يجبه , قَالَ : فَجَلَسَ الشَّيخُ يبكي , فقام إليه سفيان فقال : يا هذا ! تريد ما أخذته في أربعين سنة أن تأخذه أنت في يومٍ واحد .
قَالَ أبو داود : كنت يومًا بباب شعبة , وكان المسجد مِلْأً فخرج شعبة فاتَّكأ علي , وقال : يا سُليمان ! ترى هؤلاء كلهم يخرجون مُحَدِّثين ؟ قلت : لا , قَالَ : صَدَقْت , ولا خمسة ! يكتب أحدهم في صغره ثم إذا كبر تركه , أو يشتغل بالفساد . ثم نظرت بعد ذلك فما خرج منهم خمسة .
قَالَ الشّافِعي : فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا , وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه ؛ لكان الإمساك أولى به , وأقرب من السلامة له إن شاء الله .
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته :
هَــــذَا وَإِنِّـــــي بَــعْـــدُ مُـمْـتَـحَــنٌ بِـــــأَرْبَــ ـــعَــــــةٍ وَكُــــلُّــــ هُــــمُ ذَوُو أَضْــــــغَـــ ـــانِ
فَــــــظٌ غَــلِــيــظٌ جَـــاهِـــلٌ مُـتَـمَـعْــلِ ــمٌضَـخْـمُ العِمَـامَـةِ وَاسِــعُ الأرْدَانِ
مُـتَـفَـيْـهِـ ـقٌ مُـتَـضَــلِّــ عٌ بِـالْـجَــهْــ لِ ذُوصَــلَــعٍ وَذُو جَــلَــحٍ مــــن الـعِـرْفَــانِ
مُزَجَـي البِضَاعَـةِ فِـي العُلُـومِ وَإِنَّـهُزَاجٍ مـــــــــن الإِيــــهَــــ ـامِ وَالْـــهَـــذَ يَـــانِ
يَشْكُـو إِلَــى اللهِ الْحُـقُـوقَ تَظَلُّـمًـامــ ـن جَـهْـلِـهِ كَـشِـكَـايَـةِ الأَبْــــدَانِ
من جَاهِلٍ مُتَطَبِّبٍ يُفْتِي الوَرَىوَيُحِـي ـلُ ذَاكَ عَـلَــى قَـضَــا الـرَّحْـمَـنِ
وقال قتادة : مَنْ حَدَّثَ قَبْلَ حِينِهِ افْتَضَحَ في حِينِهِ .
ولقد كان من هدي السَّلف رحمهم الله , طُول الملازمة للمشايخ مع حسن الأدب , قَالَ مَعْمَر : سمعت الزُّهْرِي يقول : إن كنت لآتي باب عروة ؛ فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل , ولو أشاء أن أدخل لدخلت إِعظامًا له .
وقال سمعت الزُّهْرِي يقول : مَسْت رُكْبَتي ركبة سعيد بن المسيب ثماني سنين .
قَالَ الزُّهْرِي : كنا نأتي العالم ؛ فما نَتَعَلَّمُ مِنْ أَدَبِهِ أَحَبّ إلينا من عِلْمِهِ .
وقال معاذ بن سعد : كنت جالسًا عند عطاء , فحدَّث بحديثٍ فعرض رجل له في حديثه فغضب عطاء , وقال : ما هذه الأخلاق ؟! وما هذه الطَّبائع ؟! والله إني لأسمع الحديث من الرَّجُلِ وأنا أعلم به منه ؛ فأريه أني لا أحسن شيئًا منه .
وقال ابن وهب : ما نقلنا من أَدَبِ مَالِكٍ أكثر مما تعلمنا من عِلْمِهِ .
قَالَ أبو الدَّرداء : مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَمْشَاه , ومَدْخَلُه , ومَخْرَجُه , ومجلسه مع أَهْلِ العِلْم .
قَالَ أحمد بن سِنان : كان لا يُتَحَدَّثُ في مجلسِ عبد الرحمن , ولا يُبْرَى قَلَمٌ ولا يَتَبَسَّمُ أحدٌ ولا يقوم أحدٌ قائمًا , كأن على رُؤُوسهم الطَّير , أو كأنهم في صلاة , فإذا رأى أحدًا منهم تبسَّم أو تحدَّث ؛ لبس نعله وخرج .
قَالَ سفيان الثوري لسفيان بن عيينة : مَالَكَ لا تحدث ؟ فقال : أَمَا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا . .
قَالَ أبو إسحاق الجوزجاني : سمعت يحيى بن معين يقول : الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَق وإِذَا رَأَيتني أُحدِّث ببلدٍ فيها مثل أبي مِسْهَر فينبغي للحيتي أن تُحْلق .
وقيل إن أبا نُعيم الحافظ ذُكِرَ لَه ابن مَنْدَة , فقال : كان جبلًا من الجبال . فهذا يقوله أبو نُعيم مع الوحشةِ الشَّديدة التي بينه وبينه .
وهذا شعبة لما يسمع صوت الأقلام على الألواح أراد أن يلمح لطلابه مسألة في الأدب مُعَرِّضًا لها دون تصريح , فلما لم يدركوا مراد شيخهم ترك التحديث .
قَالَ الأصمعي : كنا عند شعبة فجعل يسمع -إذا حدث - صوت الألواح , فقال : السَّماء تمطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد للحديث فسمع مثل ذلك , فقال : المطر ؟ قالوا : لا , ثم عاد فسمع مثل ذلك , قَالَ : والله لا أحدِّث اليوم إلا أَعْمَى , فمكث ما شاء الله , فقام أَعْوَرٌ فقال : يا أَبَا بِسْطَام تخبرني أنا .
ورحل يحيى بن يحيى إلى مالكٍ وهو صغير , وسمع منه وتفقه بالمدنيين والمصريين من كبار أصحاب مالك , وكان مالكٌ يعجبه سمته وعقله , وروي أنه كان يومًا عند مالك في جُمْلَةِ أَصْحابِهِ , إذا قَالَ قَائِلٌ : قد حضر الفِيل فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه , فقال له مالك : لم لا تخرج فترى الفيل ؟ لأنه لا يكون بالأندلس ! فقال له يحيى : إنما جِئْتُ من بلدي لأنظر إليك , وأتعلم من هَدْيِك وعِلْمِك , ولم أجيء لأنظر إلى الفيل , فَأُعْجِب به مالك , وسمّاه عاقل أهل الأندلس , وانتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس .
قال محمد بن رافع : كنت مع أحمد وإسحاق عند عبد الرَّزاق , فجاءنا يوم الفطر فخرجنا مع عبد الرَّزاق إلى المصلى ومعنا ناس كثير , فلما رجعنا دعانا عبد الرَّزاق إلى الغداء ثم قَالَ لأحمد وإسحاق رأيت اليوم منكما عجبًا لم تكبرا ! فقال أحمد وإسحاق : يا أبا بكر كنا ننتظر هل تكبر فنكبر ؛ فلمّا رأيناك لم تكبر أمسكنا , قَالَ : وأنا كنت أنظر إليكما هل تكبران فأكبر .
قَالَ أبو حاتم الرازي : كان ابن المديني علمًا في النَّاس في معرفة الحديث والعلل , وكان أحمد بن حنبل لا يسميه ؛ إنما يكنيه تبجيلا له , ما سمعت أحمد سمّاه قط.
ولا بد أن يكون طالبُ العلم عفيفًا , متغافلًا عمّا في أيدي النَّاس ليصون علمه ويحفظه .
قَالَ الفضل بن عمر النَّسوي : كنت بجامع صور عند الخطيب -البغدادي , فدخل عليه عَلَويٌ وفي كُمِّه دنانير فقال : هذا الذَّهب تصرفه في مهماتك , فقطب الخطيب وقال : لا حاجة لي فيه , فقال : كأنك تستقله ! ونفض كمه على سجادة الخطيب , وقال : هي ثلاث مائة دينار , فخجل الخطيب وقام , وأخذ سجادته وراح , فما أنسى عِزَّ خروجه , وذُلَّ العَلَوِيِّ وهو يجمع الدَّنَانير 0
وهذا ابن أبي الطَّيب العلامة المفسر , حمل إلى السَّلطان محمود بن سبكتكين ليسمع وعظه , فلما دخل جلس بلا إذن , وأخذ في رواية حديثٍ بلا أمر , فتنمر له السُّلطان , وأمر غلامًا فلكمه لكمةً أطرشته , فعرَّفه بعضُ الحاضرين منزلته في الدِّين والعِلم , فاعتذر إليه وأمر له بمالٍ فامتنع , فقال : يا شيخ إن للمُلك صولة , وهو محتاج إلى السياسة , ورأيت أنك تعديت الواجب , فاجعلني في حِلٍّ , قَالَ : الله بيننا بالمرصاد , وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وللخشوع , لا لإقامة قوانين الرئاسة , فخجل الملك , واعتنقه .
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عَبدًا أسودًا لامرأةٍ من أهل مكة , وكان أنفه كأنه باقلاة , قَالَ : وَجَاءَ سُليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه , فجلسوا إليه وهو يصلي , فلما صلى انفتل إليهم , فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج , وقد حول قفاه إليهم , ثم قَالَ سُليمان لابنيه : قوما , فقاما , فقال : يا ابني لاتنيا في طلب العلم , فإني لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود 0
جاء ابن لسليمان بن عبد الملك , فجلس إلى جنب طاووس , فلم يلتفت إليه فقيل له : جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه ! قَالَ : أردت أن يعلم أن لله عبادًا يزهدون فيما في يديه .