علمتني التجارب . . . أن أخلاق المرء لا تظهر حقيقتها إلا عند الاختبار، ووقوع الحوادث على خلاف الاختيار.
فكم من مُظهرٍ للحلم والكرم يتحاشى مواضع الاستفزاز ، ويتكلف مصارف للإنفاق ولكن ما أن يفاجأ بحدث يثير غضب النفوس ، أو بدعوة لإنفاق الكرماء لا حظ للنفس والشيطان فيه ، إلا ويظهر الأمر المكتوم ، وتتجلى الحقيقة من التكلف .
وهذا المعنى هو الذي دفع شاعرهم ليقول:
وكل يدعي وصلا بلـــيلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكــــا
فإذا اشتبكت دموع بجفون *** تبين من بكى ممن تباكى
وهو الذي جعل ذلك الحكيم يدعونا إذا ما أردنا أن نعرف أخلاق إنسان ما أن نُغضبه ، لأن أخلاق المرء تظهر إذا غضب.
وصدق ـ والله ـ فكم رأينا من أناس تسحرك كلماتهم ، وتُنعشك بسماتهم ، وتظن أنهم ألين من الحرير، وأصفى من الماء الزلال ، فإذا ما حدث ما يغضبهم رأيت أمامك وحوشا كاسرة لا ترعى فيك إلاًّ ولا ذمة ، ولا تشعرك إلا بشراسة الأعداء كأنك لم تفعل معه خيرا قط أو لم يكن يجمعك معه حبل وداد أو خيط وصال .
وهذا ـ لعمري ـ علامة خداع لا تُبقي للإخلاص مكانا ، وعلامة شقاء لا تبقي للرحمة مجالا .
فإذا علمت ذلك ـ أخي القارئ ـ فإياك أن تُخدع بالمظاهر قبل أن تختبر المخابر ، أو أن تحكم أحكاما دون إخضاع المحكوم له أو عليه للتجارب الكافية لبناء الأحكام على نتائجها ، وإلا فاعلم أنك تظل تدفع أثمانا غالية بعضها قد يصل إلى حرمانك من الجنة والعياذ بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
***