رسائل في الخشوع 2 " هكذا فلتكن صلاتنا "
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد إخواني الفضلاء : تحدثت إليكم في الرسالة الأولى عن بعص الغافلين في الصلاة وقلت " لا تكن مثل هؤلاء " وفي هذه الرسالة أنقل لكم نماذج رائعة من صلاة الخاشعين وأقول " هكذا فلتكن صلاتنا "
إليكم شيئاً من أخبار السلف الصالحين الذين اقتدوا بنبيهم الذي كان إذا وقف في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ، وقالوا عنه صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ويباسطنا فإذا حانت الصلاة فكأنَّه لا يعرفنا ولا نعرفه ، لقد كان الصديق إذا وقف في الصلاة كأنَّه وتد من الخشوع وقالت عنه بنته عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ فإذا قام ذلك الْمَقَامَ يَبْكِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ " وكان رضي الله عنه إذا صلَّى بالناس خنقته عبرتُه من البكاء ويُسمعُ نشيجُه من آخر الصفوف ، وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى لم يكد يسمع من خلفه من كثرة بكائه ، وكان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلَّا جزء حائط ، ولقد صلَّى يوماً فسقط أمامه حجر كبير ذهب ببعض ثوبه ولم يتحرك ، وكان علي رضي الله عنه إذا حضر وقت الصلاة اضطرب وتغير فلما سئل عن ذلك قال لقد آن حمل أمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها ، وكان علي بن الحسين رحمه الله إذا توضأ للصلاة اصفرَّ لونه وتغير فسئل عن ذلك فقال أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ، قال ميمون بن حيان " ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمه وإنَّه لفي المسجد في الصلاة فما التفت وكان إذا رؤي وهو يصلي كأنه ثوب ملقى " وقال ابن عون " رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنَّه وتد لا يميل على قدم مرة ولا على قدم مرة ولا يتحرك له ثوب " حلية الأولياء ج2ص291. وقال عون بن ذكوان " صلى بنا زرارة بن أوفى صلاة الصبح فقرأ يا أيها المدثر حتى بلغ فإذا نقر في الناقور خر ميتا وكنت فيمن حمله إلى داره " وما ذاك إلَّا لأنَّه تصور حقيقة الموقف وهوله فلم يحتمل قلبه فمات ، حلية الأولياء ج2ص258 سئل حاتم الأصم عن صلاته فقال إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي وأظنها آخر صلاتي ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيرا بتحقيق وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعا بتواضع وأسجد سجودا بتخشع وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقبلت مني أم لا "إحياء علوم الدين ج1ص151 وكان شيخ الإسلام إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة . أيها المسلمون: هكذا كانت صلاة القوم فهل تشبهها صلاتنا ؟ والجواب كلا يأتي الواحد منَّا إلى المسجد وقلبه مشحون بمشاغل الدنيا ويدخله جريا على العادة دون أن يشعر أنه دخل بيت ملك الملوك ، يقف بين يدي ربه غافلا لاهيا فيؤدي حركات آلية لا روح فيها ولا حياة ثم ينصرف ولا يدري ماذا قرأ ولا ماذا دعا فضلا عن أن يعرف ماذا قرأ الإمام بل إنَّ كثيراً منَّا يذكر في صلاته ما نسيه قبلها لأنَّ عقله وفكره يصولان في الدنيا ومشاغلها ، وما ذاك إلَّا لضعف الإيمان وقلة اليقين سئل بعض الصالحين هل تذكر في الصلاة شيئا ؟ فقال وهل شيء أحب إلي من الصلاة فأذكره فيها . لقد أحب أولئك القوم صلاتهم فشغلتهم عن دنياهم وأمَّا نحن فقد أحببنا دنيانا فشغلتنا عن صلاتنا ، وتلك هي حقيقة الحال حركات لا روح فيها وصورة بلا حقيقة ولم تكن الصورة يوما في قوة الحقيقة وإن انخدع بها الناظرون من الناس ، ولأجل ذلك انقطعت الصلة بين الصلاة والسلوك العام في الحياة ، لأنَّها صورة الصلاة لا حقيقتها ، وليس غريبا أن تجتمع صورة الصلاة مع المعصية والإثم والانحراف كما يمكن أن تجتمع شاة حقيقية مع صورة أسد مفترس ، وما أصاب المسلمين من ضعف في أخلاقهم وانحراف في سلوكهم العام إنَّما سببه أنَّ الصلاة غدت جثة هامدة من غير روح وحركات ليس لها من الخير مسوح ، وأمَّا إذا كانت الصلاة حقيقية حية يبدأ الشعور بها من البدء في الوضوء فتشعر أخي المسلم بهيبتها في الوقوف بين يدي مولاك ثم تمشي إليها خاشعا ذاكرا ثم تدخل بيته بقلب وجل خائف شاكرا لفضله يوم أقامك وخذل غيرك مقرا بعظمته معترفا بكثرة معاصيك وتقصيرك في حقه ثم تقف بين يديه خاضعا خاشع القلب والجوارح فتقول الله أكبر وتستشعر فعلا أنَّه أكبر من كل كبير فلا ينصرف قلبك إلى غيره وتثبت عينيك في موضع سجودك ثم تقرأ آياته بتدبر وتفكر في معانيها فتسأل عند آية النعمة والوعد وتستعيذ عند آية العذاب والوعيد ثم تركع وتسجد بذلة وانكسار ممرغا وجهك بين يدي ذي العزة والجلال مستشعرا فضله ونعمه مقارنا ذلك بتهاونك وتقصيرك وتستمر في صلاتك على هذا النحو مستغرقا فيها وحدها فقد ورد أنَّ الصلاة تمسكن وتواضع وتضرع وتأوه وتنادم ، وتضع يديك فتقول اللهم اللهم فمن لم يفعل فهي خداج ، عن أبي الجلد قال " أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن يا موسى إذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وكن عن ذكرى خاشعا مطمئنا وإذا قمت بين يدي فقم مقام الحقير الذليل الذام لنفسه فهي أولى بالذم وناجني حين تناجيني بقلب وجل ولسان صادق الزهد للإمام أحمدج1ص87 وجاء عن محمد بن سيرين أنَّه إذا قام في الصلاة ذهب دم وجهه خوفا من الله وفرقا منه وذكر عن مسلم بن يسار أنَّه إذا دخل في الصلاة لم يسمع حسا من صوت ولا غيره تشاغلا بالصلاة وخشوعا لله فيها وكان إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا ، سمع عامر بن عبد قيس ناسا يذكرون أمر الضيعة في الصلاة فقال أتجدونه قالوا نعم قال والله لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إليَّ من أن يكون هذا مني في صلاتي " حلية الأولياءج2ص92 لذلك استقامت حياة القوم وصلحت أحوالهم وسيطرت عليهم صلاتهم فوجهتها إلى تقوى الله ومراقبته فقدموا رضا الله على شهوات نفوسهم وحظوظهم وكان مجتمعهم مضرب المثل في النزاهة والاستقامة بل حتى من كان مقيما على منكر أو فاحشة نهته صلاته عنها روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه فوصف له فقال : إنَّ صلاته ستنهاه فلم يلبث أن تاب . وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحاه أجمعين .