كانت ليلة قمراء باسمة، وكان حباً.. في إحدى ليالي تشرين الدافئة، وفي يوم سالف من عمر الزمن.
كان الحب اسماً، والحبيبُ سطورَ حب صاغتها الأشواق، وبوحَ شعر أضرمته عاطفة اشتاقت أن تكتوي بالنيران المقدسة.
وخلال تلك الفترة، بنى الحب مدينة كبيرة، لكنها لم تكُ سوى مدينة طيف وحلم كبير..
كان المحبُّ يرسم وحيداً صورة الحبيب، وبريشة أحلامه يكوِّن لوحة ورقيّة جميلة يضع أنفاسه ضمن سطورها.
وفي لحظة من تلك اللحظات، عندما يجد أحدنا أنه وحيد وبحاجة لجرعة فرح، نادى لوحاته واستنطقَ جميع دفاتر أشعاره.. وبيد مذعورة طوَّق خصر حبيبته الورقية ومضى نحو عرائش الياسمين.
كان يتكلم كثيراً، وكانت كلماته تتحول ببساطة إلى دفق شعر لذيذ.. لكنه لما حاول مداعبة شعرها المذهّب الطويل فوجئ بالعدم، وبأنه يناجي اللاشيء.. وشعر ساعتئذ بالفراغ وحشاً مفزعاً يريد التهام كل ساعات هناءاته.
فبكى كثيراً، واستصرخ عمر الفرح الموهوم، محاولاً إمساك طيف حبيبته الورقيّة، محاولاً حبسه خلف أستار عينيه لتبقى كل اللحظات كما هي.. لكن كل الأطياف كانت قد هربت دفعة واحدة، وغادرت كل عصافير الحلم أوكارها، ليبقى وحيداً مع لوحاته وأشعاره.
وعندما رجع إلى منزله كسيرَ النفس.. حاول الكتابة أو الرسم ليبنى الصورة من جديد، لكن أصابعه كانت قد احترقت، وجمر الذكرى انطفأ وهجه ولم يبق منه سوى الرماد.
فانكبّ على فراشه وهو ينتحب، وأخذ جسمه كله يرتعش كالمحموم، وظن أنه انتهى.