صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوم في سماء الزمان، تربوا على عين الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، وفى كنفه صلى الله عليه وسلم نبت إيمانهم من نبع الوحي الصافي، بعيداً عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فترجموا تعاليم الوحي بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلمإلى واقع عملي مشرق، وانتشروا في الأرض يفتحون البلاد ويفتحون معها قلوب العباد، وكونوا أعظم وأطهر حضارة، وقدموا للبشرية خير نماذج يُقتدى بها للوصول إلى الفوز الحقيقي في الدنيا والآخرة.
ولقد كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أحد هذه النماذج الفذة التي حوت سيرته العطرة العديد والعديد من الآراء والمواقف الناصعة مما يجعلها حلولاً عملية لكثير من المشكلات التي تعانى منها الأمة الإسلامية في الوقت الراهن، فرأيت أن ألقى الضوء على بعض منها، أقدمها لشباب هذه الأمة وشيوخها الذين أعرضوا عن هذا الخير فأصابهم ما أصابهم مما لا يجهله الأمي قبل المتعلم.
صدق الإيمان بالله ورسوله.
هذا الصدق الذي دفعه لأن يكون من أوائل المتبعين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقد أسلم رضي الله عنه قبل أن يدخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وكان سادس ستة أسلموا واتبعوا نور الوحي في مهده، وهذا الصدق حوله من أجير بسيط يرعى الغنم لأحد سادة قريش إلى شجاع في الحق لا يعبأ بسادة قريش ولا بطشهم، ويسمعهم القرآن جهراً في جوف الحرم.
فيروى أصحاب السير: (كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني، فإن الله سيمنعني. فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ رافعاً صوته، بسم الله الرحمن الرحيم: {الرحمن علم القرآن …} ثم استقبلها يقرؤها، فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه. فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون علىّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً. قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون) .. لقد كان -رحمه الله- يستيقن أن الذي يحادّ الله مغلوب هين على الله، فينبغي أن يكون مهينا عند أوليائه.
ومن كلماته الرائعة التي تعكس هذا الصدق الذي يملئ قلبه وجوارحه، قوله: ( لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء) ففسرها أصاحبه فقالوا: حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، والتواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله، وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء.
ويقول أيضاً رضي الله عنه: ( من اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله، ولا تحمدن أحداً على رزق الله، ولا تلومن أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص الحريص، ولا يرده كره الكاره، وإن الله بقسطه وحكمه وعدله وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط).
الشغف بالقرآن
لقد كان فرط حبه لكلام الله مضرب المثل بين الصحابة فشهدوا له بالعلم به والإمامة في تلاوته، ولا عجب في ذلك، ألم يكن قدوته وحبيبه -صلى الله عليه وسلم- خلقه القرآن، وكان قرأنا يمشى بين الناس.
فعن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وهو بعرفه، فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملى المصاحف عن ظهر قلب، فغضب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل، فقال: من هو؟ ويحك. قال: عبد الله بن مسعود. فما زال يطفأ ويسير عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بقى من الناس أحد هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزال يسمر عند أبى بكر الليلة كذلك في أمر من أمر المسلمين، وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلى في المسجد، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع قراءته، فلما كدنا نعرفه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ) قال: ثم جلس يدعو، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: (سل تعطه سل تعطه) فكان فيما سأل: اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقه نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- في أعلى جنان الخلد. قال عمر: قلت والله لأغدون عليه فأبشرنه. قال: فغدوت عليه فبشرته فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.
وكان رحمه الله يقول: ( والذي لا إله غيره، لقد قرأت من في رســول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعــاً وسبعيــن سورة، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله منى تبلغنيه الإبل لأتيته )
ويوضح في كلمات رشيقة بليغة ما ينبغي أن يكون عليه صاحب القرآن الصادق فيقول: ( ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا محزونا حليما حكيما سكينا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخابا ولا صياحا ولا حديدا ).
حبه لسيد الأنام
وأما حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم- فحدث ولا حرج، فلقد كان رضي الله عنه صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووساده وسواكه ونعليه وطهوره، وكان يشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هديه ودله وسمته.
فعن عبد الله بن يزيد، قال: أتينا حذيفة، فقلنا له: حدثنا بأقرب الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هديا وسمتا ودلا، نأخذ عنه ونسمع منه. قال: كان أقرب الناس برسول الله هديا وسمتا ودلا عبد الله بن مسعود حتى يتوارى عنا في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى.
وفى عصرنا ما أحوجنا لمثل هذا الصدق في علاقتنا بالله وبرسوله في بيوتنا ومدارسنا وشوارعنا وصحافتنا، خاصة بعض الإعلاميين من أبناء أمتنا الذين يلهثون وراء الخبر المثير والسبق الصحفي ليصفق لهم في المحافل، رغم أن حقيقة الخبر خلاف ذلك بكثير، ولو أنهم تريثوا في تحرى الحقيقة لظهر لهم الواقع الذي هو أبسط من هذا الصخب بكثير، فلا يسعنا إلا أن نقول لهم قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [التوبة: 119].
حسن الإتباع
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته وأمته من بعده بالتمسك بنور الوحي والسنة فيقول -صلى الله عليه وسلم-: ( أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلاله ) [رواه الترمذي].
ولقد كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نموذج يحتذى به في اتباع وصيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يرى أن أي خروج عن هدى الإسلام بداية طريق الشقاق، حتى وإن كان فعل ذلك عن نية حسنة ومقصد نبيل.
فيقول رحمه الله: ( عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه بذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدرى متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق ).
ويقول: ( القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ).
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله رأى في عنقي خيطاً. فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقى لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ) [رواه أبو داود]
وعن عمرو بن سلمة الهمداني قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً. قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفى أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة. فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة. فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة. فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا، انتظار رأيك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمه محمد ما أسرع هلكتم! هؤلاء صحابه نبيكم -صلى الله عليه وسلم- متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحون باب ضلاله؟!
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لم يصيبه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا: ( إن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ) وأيم الله ما أدرى لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.
إن درس الاعتصام بالكتاب والسنة جدير بأن نهمس به في آذان العلمانيين من أنباء أمة الإسلام الذين أعرضوا عن منهج الإسلام وأخذوا يلهثون وراء التعاليم الأوربية والأفكار الغريبة عن ديننا، يرون فيها رشداً خيراً من رشد الإسلام، فتحتم علينا أن نقول لهم: تعلموا حسن الاتباع لله ولرسوله من خير جيل أقام خير حضارة، ولابد أن تعرفوا أن الله تعالى الذي قال: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } [المزمل:20] هو الذي قال: { ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب } [البقرة: 179]. وكما قال: { وأتموا الحج والعمرة لله } [البقرة:196] قال أيضا: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } [النور:30]
فالإسلام ليس طقوس تؤدى، ولكنه منهج حياة، من أعرض عنه فله الخسران في الدنيا والآخرة، فيا أيها الناس اسمعوا قول الله تعالى لكم: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [العنكبوت:51] { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم ...} [الأنفال:24].
الزهد في الدنيا
حب الدنيا وحطامها رأس الخطايا والسيئات، وبغضها والزهد فيها أم الطاعات، والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها، ولقد عرف أبو سليمان الدرانى الزهد في الدنيا بقوله: (هو ترك ما يشغل عن الله تعالى)
وما أجمله وأجمعه من تعريف، فالزهد الحقيقي ليس بلزوم الفقر وتعذيب النفس كما يفهم من ذلك الجهلاء، فلقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد زمانهما ولهما من المال والملك والنساء مالهما، وكان على بن أبى طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن على رضي الله عنه من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحاً لهن.
ولقد تجسد هذا المعنى الجليل في حياة ابن مسعود رضي الله عنه، فكان حقاً من الزاهدين العاملين، فحرصه الأول دينه وإيمانه، وكل مصيبة بعدهما جلل حقيرة، فكان يقول رحمه الله: ( إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فإن أعطى خيرا فالله أعطاه، ومن وقى شراً فالله وقاه، المتقون ساده، والفقهاء قاده، ومجالسهم زيادة ).
ومن أقواله لتلامذته: ( لا ألفين أحكم جيفة ليل قطرب نهار 9 (1)
ويقول: ( إني لأبغض الرجل أن أراه فارغا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة ).
ويقول: ( كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تٌعرفون في أهل السماء، وتخفون في أهل الأرض ).
ويقول أيضاً: ( أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم كانوا أفضل منكم قيل له بأي شيء؟ قال إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم).
وعن تميم بن جذلم قال: ( جالست أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر ما رأيت أحد أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أحب إلىّ أن أكون في مسلاخه منك يا عبد الله بن مسعود).
لله دره ما كان أشد زهده في الدنيا، وما أجمل ما تحلى به من تواضع، فلقد خرج ذات يوم، فاتبعه ناس فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشى معك. قال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع، وفتنه للمتبوع.
وعن مسروق قال: قال رجل عند عبد الله: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إلىّ. فقال عبد الله: لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لا يبعث (يعنى نفسه).
إن في سيرة هذا الزاهد الأواب لخير درس للذين عماهم حب الدنيا، فلا يفهمون إلا لغة المال والأعمال، فلا يبالى أحدهم جمع المال من حلال أم من حرام، ففي نداء الله لهم خير شفاء من هذا المرض الوبيل حيث يقول جل شأنه: { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى...} [النساء:77] وفى سيرة هذا الصحابي خير أسوة لو كانوا يعقلون.
حقاً لقد كانت في حياة هذا المعلم الجليل دروس ودروس نحن في أمس الحاجة لها الآن في عصر كله متناقضات، وبسطت علينا الدنيا فيه بطغيانها وماديتها ومفاهيمها، وبينما آثرت طائفة هجر الدنيا وانزوت بفكرها داخل الخرائب، كان الترف قد بدأ يتلاعب بالأمة، فدارت بين إفراط وتفريط، وبين علو وجفو، وبين إسراف وتقصير، وصارت الدنيا والآخرة طرفي نقيض، فهؤلاء رأوا أنهم لابد وأن يدخلوا الخرائب مهملين تعمير الدنيا بطاعة الله وإقامة خلافه وحضارة على منهج العبودية لله، وأولئك رأوا أن التقدم والتحضر والتطور يستلزم التفلت من إطار الدين، فركبوا مركب الغرب، ودانوا بالإباحية والانسلاخ من معاني الإيمان، وقالوا: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)!! فلا نجاة إلا بالعودة لسيرة الصحابة الطاهرة نرتشف منها رحيق الإيمان كي ننهض من هذه الكبوة والله من وراء القصد. (2) .
الهوامش والمراجع
(1) قطرب: دويبة كانت في الجاهلية يزعمون أنها لا تستريح نهارها سعياً والمقصود الانهماك طوال النهار في السعي على المعاش حتى إذا جاء الليل نام كلاً تعباً.
(2) من كتاب (صور من الطغيان المادي) بتصرف د/ سعيد عبد العظيم
- صفة الصفوة ابن الجوزى
- رجال حول الرسول خالد محمد خالد
- صلاح الأمة د/ سيد العفانى
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com