ينظر هنا:
http://www.alukah.net/social/0/34953/
---------------------------------------
ورد في عدد من المعجمات أن جمع (الجُرَذ) هو (جرذان)، هكذا غُفْلاً من غير نص على الضبط إلا ضبط القلم في بعض الأحيان.
فأما محقق صِحاح الجوهري فقد ضبطها بالضم والكسر، وقال في الهامش: (بضم الجيم وكسرها كما في اللسان)!
وهذا خطأ منهجي كبير، أعني الرجوع في ضبط الصحاح إلى اللسان؛ لأن اللسان أصلا تابع للصحاح، إلا إن كان المقصود جعلُهُ كأنه نسخة أخرى.
وبالرجوع لطبعة دار المعارف من اللسان نجدها مضبوطة بالضم فقط!
وأما طبعة دار صادر فقد ضبطت بالضم والكسر.
وعلى هذا اعتمد أصحابُ المعجم الوسيط في ضبط الكلمة بالضم والكسر!
ومن عجائب الاتفاقات أن على هامش هذه الصفحة نفسها من لسان العرب (طبعة بولاق) قول المصحح: (ونعوذ بالله من سقم النسخ)!
وضبطها منير البعلبكي في الجمهرة بالضم فقط!!
وأما صاحب القاموس فلم ينص على الضبط، وجاء شارحه الزبيدي فقال: (بالضم وضبطه الزمخشري بالكسر)!
قال محقق التاج: في الأساس المطبوع مضبوط بالضم، أما في اللسان فمضبوط بالضم والكسر!
وهذا خطأ منهجي أيضا، أعني الاعتماد على المطبوع في نسبة الضبط إلى صاحب الكتاب، مع أن الزبيدي نص على أن الزمخشري ضبطه بالكسر!
وأغلب الظن أن ضبط الأساس بالضم من صنيع المحقق ولا أصل له عن الزمخشري.
وفي ديوان الأدب للفارابي ضبطه المحقق بالضم فقط!
وفي النهاية لابن الأثير ضبطها الزاوي والطناحي بالضم أيضا!
وعند الرجوع لمصدر ابن الأثير وهو كتاب المجموع المغيث لأبي موسى المديني وجدنا العزباوي ضبطها بالضم أيضا، وأغلب ظني أنه بنى هذا على ضبط النهاية أو اللسان.
وأما كتاب العين المنسوب للخليل وكتاب تهذيب اللغة للأزهري فقد ضبطها المحققون بالكسر فقط ولله الحمد!
والحقيقة أنَّ الكسر وحده هو الصواب، والضم خطأ محض مبني على سهو في النقل أو سوء في الفهم اعتمادا على الإطلاق أو ضبط القلم.
ومن العجيب أن عبدالسلام هارون جرى على ضبط الجرذان بالضم في أكثر مواضعها من كتاب الحيوان للجاحظ! إلا في مواضع يسيرة ضبطها بالضم مع الكسر، كما قد جرى عليه في تحقيقه لمقاييس اللغة.
إلا أنه جاء في المجلد السابع وضبط بعض المواضع بالكسر فقط!
ومن الطرائف ما جاء في البيان والتبيين:
(قالت أم ولد لجرير بن الخطفى لبعض ولدها: وقع الجُرْدان في عجان أمكم؛ أبدلت الذال دالا من الجرذان، وضَمَّت الجيم، وجعلت العجين عجانا).
وهذا يدل على أن الجرذان عند الجاحظ خاصة (فضلا عن غيره) بالكسر؛ لأنه ساق الحكاية على أنها من اللحن واللثغة، وبَيَّن موضعَ اللحن بقوله (وضمت الجيم)، ومع ذلك فقد ضبطها المحقق بالضم، وقال في الهامش: (الجرذان بكسر الجيم وضمها)!!
فحتى لو فرضنا أن الضم جائز، فقد كان ينبغي ضبطُها هنا بالكسر؛ لأن هذا ما يريده المؤلف.
والدليل على أن هذا سهو أن لغة الكسر لغة صحيحة بلا نزاع، وهي أيضا موافقة للقياس كما قال ابن مالك:
وغالبا أغناهم فِعلانُ
في فُعَل كقولهم صِرْدانُ
وذكر النحويون والصرفيون أجمعون أن الجرذان بالكسر، ولا أعلم أحدا منهم نازع في صحة كسر الجرذان.
وذكروا أيضا أن قياس جمع فُعَل هو فِعلان بالكسر، وعندما ذكروا باب فُعْلان في الجمع لم يذكروا الفُعَل من أوزان مُفردِه.
ولا أعلم أحدا من النحويين والصرفيين ذكر الضم في الجرذان ولا حتى على أنه لغة ضعيفة، وأما ما جاء في شرح الملحة لابن الصائغ أن من جموع فُعَل: فِعلان كصردان وفُعلان كجرذان فهو إدراج من المحقق؛ لأنه قال في الحاشية: (في كلتا النسختين جعلان وهو تحريف)!
بل لا أعلم كلمة واحدة على وزن فُعَل في العربية جمعت على فُعْلان!
ودليل آخر، وهو أن بعض كتب اللحن ذكرت هذه الكلمة وبينت أن الضم لحن وأن الصواب الكسر، مثل كتاب تثقيف اللسان للصقلي، وعنه الصفدي في تصحيح التصحيف.
فإذا ثبت أن الكسر صواب لا شك فيه وأنه هو المشهور المعروف سماعا وقياسا، ثبت كذلك أن إفراد الضم بالذكر خطأ.
ولا يُظن بمثل الجوهري أن يخطئ هذا الخطأ وهو أنحى اللغويين كما قال بعض العلماء، وكذلك لا يُظن بمثل صاحب القاموس أن يخطئ هذا الخطأ، ولا يُظن بمثل هذين أن يخفى عليهما لغة الكسر في الجرذان.
وإنما تَرَكَ الضبطَ مَن تركه في مثل هذا اعتمادًا على أنه معلوم من علم الصرف، وأنه جارٍ على القياس لا يحتاج إلى نص، وهذا معلوم بالاستقراء من صنيعهم.
فالمقصود أننا لو فرضنا أن الضم لغة فهي ولا شك ليست أولى بالذكر من الكسر؛ لأن الكسر صحيح قياسا وسماعا، وهو معروف بنقل النحويين والصرفيين ونصوصهم التي لا شك فيها، وأما الضم فلو سُئل صاحبه أن يأتي بحجة واحدة أو حتى قرينة مرجحة تدل على صحة الضم لما استطاع! فهو على أفضل تقدير من المشكوك فيه.
ومجرد ضبط القلم في الصحاح لا يفيد في هذا؛ لأن أخطاء ضبط القلم في الصحاح كثيرة كما ذكر صاحب مختار الصحاح، وقد بينتُ ذلك في بحث قديم تكلمت فيه على كلمة (فِقْدان) وأن الصواب فيها الكسر فقط.
• ولذلك نص صاحب المختار على أن الجرذان بكسر الجيم.
• ونص على ذلك أيضا جمال الدين القرشي في كتابه (الصراح من الصحاح).
• وكذلك في (المختار من صحاح اللغة) لمحمد محيي الدين وصاحبه.
• وكذلك في كتاب (مجرد الصحاح) للمعداني ضبطت الجرذان بالكسر ضبط قلم.
• وعلى هذا أو بعضه اعتمد محقق (المصباح المنير) فذكر أن الجوهري نص على الكسر.
وأما (تهذيب الصحاح) للزنجاني فقد سار على ما سار عليه الجوهري من ترك النص على الضبط، ولذلك ضبطه عبد السلام هارون أيضا بالوجهين!
ثم إن جمعا من أهل العلم كان اعتمادُهم كثيرا على صحاح الجوهري ومع ذلك فقد نصوا على الكسر فقط؛ مثل القاضي عياض في مشارق الأنوار، والإمام النووي في شرح مسلم، والسيوطي في حاشيته على مسلم.
وقد أفرد أبو الفضل الميداني تصنيفا لما اختلف فيه صاحب الصحاح وصاحب التهذيب، ولم يذكر شيئا في هذه المادة، ومن المعلوم أن صاحب التهذيب لم يذكر الضم.
ثم إنه لم يذكر أحدٌ ممن تعقب الجوهري (كابن بري والصفدي) شيئًا في هذا الموضع، ومعلوم أن ابن بري قد يستدرك اللغات المرجوحة فيما هو دون هذا.
فكل هذه القرائن تبين لك أن الضبط بالضم في الصحاح (إن وجد) هو خطأ من الناسخ أو سهو من الكاتب.
وأغلب الظن أن مَن ضَبَطَ اللسانَ بالوجهين عَلِمَ صحة الكسر بمثل ما سبق ذكرُه، لكنه وجد الكتاب مضبوطا بالضم نقلا عن نسخة الصحاح، فضبط الكلمة بالضبطين احتياطا.
وقد يكون صاحب اللسان نفسه قد وقف على هذه النسخة من الصحاح فسار عليها ولم يحرر هذا الموضع، أو لم ينتبه له، وهذا مغتفر في مثل هذه المطولات.
ويمكنك أن تقول مثل هذا في صاحب القاموس، مع أني لا أظن ذلك، بل أحسب أنه ترك النص على الضبط اختصارًا؛ لأنه نص على ذلك بعدُ في قوله (وأم الجرذان بالكسر) فكأن قوله (بالكسر) عائد على الكلمتين، فهما في الحقيقة كلمة واحدة؛ لأنهم بهذا الجمع كَنَوْا، كما ذكر صاحب المصباح وغيره، ومن العجائب أن تجد (أم الجرذان) أيضا مضبوطة بالضم في النهاية والمجموع المغيث!!
ولا يمكن الاعتماد على قول صاحب التاج (بالضم)؛ لأن النسخ المخطوطة بعضها غُفْل من الضبط في هذا الموضع، وهو لم يذكر أدنى مستند لهذا الضم كما هي عادته في مثله، فلو كان عنده مستند له لذكره، وأغلب ظني أنه يقصد (بالضم) أنها مضبوطة بالضم في النسخة التي اعتمد عليها، لا أنه يقرر صحة الضم.
ثم إن هذه الكلمة من الكلم المشهور المتداول كثيرًا في كتب الأدباء واللغويين، بل في الحديث الصحيح (... وإن أكلتها الجرذان)، فمن المستبعد جدا أن يكون الضم مسموعا على خلاف القياس ثم لا يبينون ذلك.
هذا فيما يتعلق بمن ضبط الكلمة بالضم فقط، أما من ضبطها بالوجهين فلو ورد هذا عن أئمة اللغة لكان يمكن قبولُه من باب النص على اللغة المرجوحة مع اللغة الراجحة، ولكن لم نجد أحدا من أهل اللغة فعل ذلك، وإنما فعله من فعله من المحققين اعتمادًا على ما سبق ذكره.
والله تعالى أعلم.