ولكني أحب أن أختم هذا الفصل
في بيان موقف ابن عربي من الكشف بحقيقة موقفه من إبليس
لنبين للقارئ بما لا يدع مجالاً للشك
أي دين يدين به هؤلاء
وأي علم يزعمون الوصول إليه وأي كشف اكتشفوه..
فمن المعلوم يقيناً عند كل مسلم أن إبليس هو رأس الشر والبلاء
وأنه عدو لآدم وذريته منذ امتنع عن السجود لآدم
وطرده الله بسبب ذلك من رحمته وجعل الله عليه اللعنة إلى يوم يبعثون
وأنه يكون في الآخرة في جهنم كما قال تعالى :
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[إبراهيم:22].
والشيطان في هذه الآية هو إبليس بإجماع المفسرين وكذلك قوله تعالى :
{ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ }
[الشعراء:94-101].
ولا شك أن جنود إبليس يستحيل أن يدخلوا النار ولا يدخل هو معهم
إذ كيف يدخل الجنود ويبقى رأس الجند من الناجين.
ولعل قائلاً يقول ولماذا هذا التطويل في بيان أن إبليس من أهل الجحيم.
إن هذا أمر بديهي معلوم عند جميع أبناء الإسلام وأقول:
إن هذا الأمر البديهي المعلوم من الدين بالضرورة
التي يعتبر جاحداً وناكراً وكافراً مرتداً من نفاه
هو ما أثبت ابن عربي تبعاً في زعمه لسهل بن عبدالله التستري ضده،
وهو أن إبليس من الناجين وأنه لن يدخل النار أبداً
وأنه أعني إبليس التقى في زعم ابن عربي
بسهل بن عبدالله التستري الصوفي
كان من كبار مشايخهم في القرن الثالث
فناقشه في هذه المسألة وبين له أنه من الناجين،
وأنه لن يدخل النار
وأن الله سبحانه وتعالى سيغير ما أثبته في القرآن
لأن الله لا يجب عليه شيء
وما دام أنه لا يجب عليه شيء ولا يقيده قيد،
فإنه قد قضى بنجاة إبليس يوم القيامة،
وتبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه والعفو التام عنه....
انظروا يا مسلمين هذا الكشف الصوفي ما أعظمه وأطرفه
بل ما أفجره وأكفره..
إن ما أتعب النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فيه نفسه طيلة ثلاثة وعشرين عاماً
من بيان قصة إبليس وآدم، ومن لعن إبليس دائماً،
واستفتاح صلاته بالاستعاذة منه،
وقوله صلى الله عليه وسلم له عندما خنقه
((ألعنك بلعنة الله.. ألعنك بلعنة الله.. ألعنك بلعنة الله..))
وذلك عندما جاء إبليس اللعين هذا بشهاب من نار
ووضعه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي..
هذا الذي أتعب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ومن بعده سائر الصحابة والمسلمين؛..
جاء ابن عربي اليوم ليبين لنا عن شيخه المزعوم التستري
أنه كان خطأً في خطأ،
وأنه يوم القيامة يكون في الجنة مع من أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً..
وأن هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة..
ويعني ابن عربي بذلك الأشاعرة لأنهم يقولون (لا يجب على الله شيء)
وما دام لا يجب عليه شيء فيجوز أن يدخل إبليس الجنة..
وهذا الجائز العقلي عن الأشاعرة جعله ابن عربي ممكناً وواقعاً
لأن شيخه القشيري التقى بإبليس وناقشه في هذه المسألة
وتحقق منه أنه سيكون يوم القيامة من الفائزين الفالحين..
وهذا نص الحكاية المزعومة وتعقيب ابن عربي عليها بنصها
من كتاب (اليواقيت والجواهر)..
"وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والتسعين ومائتين
أيضاً ما يؤيد اعتقاد أهل السنة والجماعة من أن الحق تعالى لا يجب عليه شيء
وهو أن سهل بن عبدالله التستري رضي الله عنه
قال لقيت إبليس مرة فعرفته وعرف مني أنني عرفته
فوقع بيني وبينه مناظرة
فقال لي وقلت له وعلا بيننا الكلام وطال النزاع بحيث إنه وقف ووقفت حائراً وحرت
فكان آخر ما قال لي يا سهل إن الله تعالى قال ورحمتي وسعت كل شيء
نعم ولا يخفى عليك أنني شيء
ولفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم إلا ما خص
وشيء أنكر النكرات فقد وسعتني رحمته أنا وجميع العصاة
فبأي دليل تقولون إن رحمة الله لا تنالنا.
قال سهل فوالله لقد أخرسني وحيرني بلطافة سياقه وظفره بمثل هذه الآية
وفهمه منها ما لم أكن أفهمه وعلمه من دلالتها ما لم أكن أعلمه
فبقيت حائراً متفكراً وأخذت أردد الآية في نفسي
فلما جئت إلى قوله تعالى
{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ....}
[الأعراف: 156] إلى آخر النسق
فسررت بها وظننت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم ظهره
فقلت له: تعال يا ملعون،
إن الله تعالى قد قيدها بنعوت مخصوصة تخرجك عن ذلك العموم
فقال { سأكتبها للذين يتقون } إلى آخر النسق.
فتبسم إبليس وقال: يا سهل، التقييد صفتك لا صفته تعالى .
ثم قال: يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل بالله ما رأيت
وما ظننت أنك ههنا ليتك سكت،
قال سهل فرجعت إلى نفسي وغصصت بريقي وأقام الماء في حلقي
وما وجدت له جواباً ولا سددت وجهه باباً
وعلمت أنه طمع في مطمع وانصرف وانصرفت
ووالله ما أدري بعد هذا ما يكون
فإن الله تعالى ما نص بما يرفع هذا الإشكال
فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه لا أحكم عليه بذلك
إلا بما حكم به على نفسه من حيث وجود الإيمان به. انتهي كلام سهل.
قال الشيخ محيي الدين:
وكنت قديماً أقول ما رأيت أقصر حجة من إبليس ولا أجهل منه
فلما وقفت له على هذه المسألة التي حكاها عنه سهل رضي الله عنه
تعجبت وعلمت أن إبليس قد علم علماً لا جهل فيه
فله رتبة الإفادة لسهل في هذه المسألة.
انتهي
فقد بان لك أن الله تعالى خلق العالم كله
من غير حاجة إليه لا موجب أوجب ذلك عليه" أ.هـ
(اليواقيت والجواهر ص60 ج1).
من موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام
</B></I>