في عام سبعين وتسعمائة وألف من الميلاد (1970 م) وبعد أن ألقى خطبة حماسية شديدة في مدينة طوكيو وأمام ألف رجل عسكري ياباني ، حثهم من خلالها على التمسك بالقيم اليابانية ، وعلى العودة إلى روح اليابان الأصيلة ، قام الكاتب الروائي الياباني الشهير "يوكيو ميشيما" بقتل نفسه على طريقة الساموراي في الإنتحار والمسماة (سيبوكو - Seppuku) أو (هارا كيري - Hara Kiri) ، وهي أسلوب إنتحار مقدس لدى محاربي الساموراي القدماء كانوا يستخدمونه لقتل أنفسهم ، وذلك بأن يستخدم المنتحر السيف في شق بطنه أفقياً من اليسار إلى اليمين ثم من أعلى إلى أسفل.
وقد عاش الكاتب الياباني "يوكيو ميشيما" منافحاً عن ثقافة اليابانيين القديمة ، وعن أصالتهم وحضارتهم ، وكان يحذر دوماً من خطورة توجه اليابانيين نحو الفكر الغربي ومن أن يتركوا جذورهم وهويتهم ، لذلك فقد إختار أن يموت بطريقة أراد ان يدلل بها على معتقده الذي كان يدعو إليه ، ولم يكتف بكتاباته وأقواله ، ولكنه أراد أن يرسل رسالة عملية لليابانيين يخبرهم فيها أن الشخصية اليابانية لها مميزاتها الخاصة في كل شيء ، حتى في الموت.
ونحن حين نرى أنموذجا واقعياً لكاتب غير مسلم ضحى بحياته من أجل أن تثبت أمته على هويتها حتى تبرز وتسمو بين الأمم ، رغم أنها أمة في غاية التقدم والرقي المادي أصلاً ، فإن هذا الأنموذج يختلف بشكل كبير حين نتجه نحو البلاد الإسلامية ، فقد أضحى كثير من الكتاب والمفكرين "المسلمين" أو "الإسلاميين" ، ومع العجب الشديد - قبل الأسف - يرون أن نهوض الأمة المسلمة لن يتأتى إلا بتخليها عن هويتها وعن جذورها ، وأنها لن تحقق أي تقدم مادي إلا إذا راجعت مفاهيمها وعقيدتها وفقهها ، وأخضعت كل هذا للفكر العصري الجديد المستنير ، حتى يصبح بمثابة المصفاة التي تخلص الدين من شوائبه التي يزعمونها ويزعمون أنها تعكر صفو الدين والدنيا ، وتمنع نهضة معتنقي هذا الدين المادية وتطورهم.
وأمثلة هؤلاء الكتاب لا تخفى على أي باحث أو غير باحث ، فبمجرد أن تلتفت يميناً أو شمالاً تراهم ظاهرين بارزين ، فحناجرهم وأقلامهم لا تمل عن إظهار الدين على أنه عوار الأمة ومصيبتها وداهيتها الدهماء ، وقد خرج أحدهم منذ وقت قريب ، ناشراً مقالة في إحدى الصحف ذات الإنتشار الواسع في مصر ، وكانت المقالة بعنوان " تقديس فقه الحمامات يطفئ أمل نهوض المسلمين" ، ورغم أن اسم هذا الكاتب هو "إسلام" ، إلا أنه يرى أن تعلم آداب "الإسلام" في دخول الحمامات يطفئ أمل الأمة في التقدم ، وبصدق شديد وبإخلاص وتجرد حاولت جاهداً ، أن أفهم وأعي كيف أن السنة النبوية في دخول الخلاء بالرجل اليسرى أولاً تعيق تقدم الأمة وتقطع الأمل في نهضتها ، إلا أنني لم أستوعب العلاقة ولم أفهمها.
ومن هؤلاء كذلك من تراهم يخبرونك أن الإلتزام بالسنة النبوية وآدابها في الطعام والشراب ، هو معول هدم واضح يجعل الشعوب الإسلامية في مؤخرة الركب ، وذلك لأنهم باتباعهم تلك الآداب "القديمة" ، يكونوا قد تخلوا عن الأساليب الجديدة والراقية ، فالقواعد المدنية الراقية المتقدمة في نظرهم تفرض عليهم أن يمسكوا "بالشوكة" في شمالهم ويأكلوا بها ، لذا فإن الأمر بالأكل باليمين ، ينافي قواعد وآداب الطعام الحديثة والراقية في زعمهم، وأن الذي يمسك "الشوكة" بيمينه ، فإنه في نظر هؤلاء يظهر نفسه بمظهر الجاهل المتخلف.
إن هؤلاء بمزاعمهم تلك ، لا يعدون كونهم أحد صنفين ، فإما هم جاهلون بثقافة الدول شرقها وغربها ، وإما هم يريدون من الناس التخلي عن إسلامهم.
ولدحض مزاعم هؤلاء القوم فإنني أسوق مثالاً واقعياً لإحدى أكثر الدول تقدماً في العالم ، وهي دولة اليابان - مرة أخرى - فالشعب الياباني لديه تمسك شديد بأخلاقه وثقافاته ، حتى تلك الخاصة بالطعام والشراب ، فعصي أو أعواد "التشوبستيكس" الشهيرة ، والتي يستخدمها اليابانيون ، وشعوب شرق آسيا بشكل عام في طعامهم ، تعد من أوضح الأمثلة التي تبين تمسك هؤلاء القوم بعاداتهم القديمة في الطعام ، حتى أنني سمعت أحدهم حينما سئل عن تمسك الإنسان الياباني بالأكل بتلك الأعواد حتى الآن ، فأجاب قائلاً : "إن تلك الأعواد جزء من تراث اليابان الذي يجب أن نحافظ عليه حتى وإن كنا خارج اليابان" ، فهذه هي نظرة الشعب الياباني لتقاليد طعامه القديمة ، فهو يراها أمراً يجب الإلتزام به ، ولا يراها مطلقاً معولاً يهدم أمل أمته في التقدم والنهوض والرقي.
وخلاصة القول ، فإن التمسك بالهوية الإسلامية لن يعيق تقدم الأمة الإسلامية ، ولن يكون حجر عثرة أمام شعوبها ، بل على العكس من ذلك ، فإن تضييع هوية الأمة ، وطمس معالم تراثها وثقافتها هو المسمار الأول في نعش تقدمها ، وهذا ما يدركه أعداء الإسلام ويحرصون على تنفيذه ، حتى تصير - أو تظل - الأمة إلى آخر الركب ، ونرى أن أصحاب الهوية الإسلامية قد أصبحوا وأمسوا خلف أصحاب الهوية البوذية والكنفوشية والتشوبستيكية!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.