توليد المعاني في أسلوب الحديث النبوي الشريف / محفوظ فرج إبراهيم
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( صنفان من أهل النار لم أرهما ؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ؛ ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ) صحيح مسلم ج 14 ص 92ـ 93 رقم 2128 ورياض الصالحين ص389 برقم 1633

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

بنية نص الحديث الشريف جمل اسمية في بنية تركيبية تنفتح على صور من التشبيه، وصفات متوالية.

ودلالة الحديث الشريف على مستوى الجملة، وعلى مستوى المفردة متعددة في مدلولاتها فلا تكاد تمسك الجملة بمدلول حتى ينفتح عليك مدلول آخر لها ، وكذلك نجد ذلك على مستوى المفردة فما تلبث أن تستقر على مدلول في ثناياها حتى تتأمل فيخرج عليك مدلول آخر . ولاشك أن الغرض من الحديث الشريف أراد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بهذا الانفتاح، والاتساع على المدلولات.
( قوم معهم سياط كأذناب البقر ).

والمعنى المباشر لهذه الصورة الفنية أصحاب السياط هم غلمان والي الشرطة ( 1)ولكن التنكير في قوم يتسع على مستوى الفرد، والمجتمع، ومدلوله على كل متجبر ورجاله ممن يسببون الأذى للناس وهم الظالمون الذين يسومون سوء العذاب للأبرياء من المجتمع، ومدلوله يتعلق بالسلطة أي سلطة ينتهك رجالها الحرمات في مداهمة الآمنين وضربهم بالسياط ،والهراوات .
والحديث الشريف يشير إلى ناحيتين مهمتين هما سبب الخراب، والدمار الذي يحل بالمجتمع .

الناحية الأولى: هي السلطة المتجبرة ( قوم معهم سياط كأذناب البقر)
الناحية الثانية : هي أغراء النساء ( نساء كاسيات، عاريات، مميلات، مائلات ) وفي وصفهن يتعدد المدلول ولا يستقر على معنى وقد يتعدد الملول على مستوى الصفات ( كاسيات عاريات ) ومعناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها، أو كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير، والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعات، أو تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها فهن كاسيات عاريات يلبسن ثيابا رقاقا تصف ما تحتها كاسيات، عاريات في المعنى، و ( مميلات مائلات ) زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمن من حفظ الفروج، وغيرها أو يعلمن غيرهن مثل فعلهن، وقيل مائلات : متبخترات في مشيهن مميلات أكتافهن، وقيل مائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا معرفة لهن مميلات يمشطن غبرهن تلك المشطة، وقيل مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها .

رؤوسهن كأسنمة البخت أي يعظمن رؤوسهن بالخمر، والعمائم، وغيرها مما يلف على الرأس، والمراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر، وجمع عقائصها، ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال، ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رؤوسهن . ( 2)
من هذا التعدد المتناهي الذي تتولد فيه من كل مفردة معان تتضح بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في احتواء المعنى المادي المحسوس للمفردة والجانب المعنوي من زوايا متشعبة .
هذا التحذير عرضه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوب قدم نتيجته ( صنفان من أهل النار )

ولو حاولنا أن نتبين مطابقة الحديث لمقتضى الحال لوجدنا أن الصورة الفنية ( قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس ) فالحال الحاضر ( يضربون الناس ) صورة تحدث يوميا في واقعنا المعاصر نراها نحن الآن إشارة الإسلامية. الصورة تحدث في الماضي، والحاضر، والمستقبل .
أما إذا نظرنا إلى المستوى الموسيقي في جمع المؤنث السالم ( كاسيات عاريات مميلات مائلات ) وهي تداعي وتوافق الفواصل وامتداد ألف المد وتناهيها يتوافق مع المدلول في ذهاب هؤلاء النساء بعيدا عن حدود الشريعة الإسلامية .
إن اسم الفاعل في بنية جمع المؤنث السالم من خلال توالي الامتداد في ألف المد أخذ هؤلاء النساء بعيدا بعيدا إلى أعماق أتون النار وصارت الجنة بعيدة بعيدة على مسافة متناهية؛ ولذلك ( لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وان ريحها لتوجد في مسيرة كذا وكذا ) .
وكذلك فالتوالي والتناهي في ( كاسيات، عاريات، مميلات، مائلات ) توافق مع مدلول تعدد المعاني وتراميها .

أما الطباق في ( كاسيات عاريات ) فقد حمل المعنى وضده في ذوات النساء أنفسهن، وليس بين صنفين منهن ، وربما أشار أيضا إلى التناقض في ذات المرأة وازدواجيتها وهو الاضطراب الحاصل في سيكولوجية المرأة وعواطفها وليس القصد منهن نساء كاسيات، ومنهن نساء عاريات فتأمل في تنافر الأضداد في الذات نفسها

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(23) صحيح مسلم ج 17 ص 157
(24) صحيح مسلم ج 14 ص 93