(تابع) في جحر الضب
المحور الثالث- في جحر الضب
1- حقيقة الإنسان عند البعض
ولنقرأ ما كتبه بعضهم في شأن تلك الصفات السبع، التي هي صفات الله تعالى كما ذهب الأشعريون، وليس الأشعري، حيث يقول : «المخالفة للحوادث، ومعناها: عدم مماثلته جل جلاله لها... أما دليل النقل فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وإدخال كاف التشبيه على لفظ (مِثْل) مبالغةٌ في نفي الشبيه والمِثل لله تعالى، ومثله قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، والكفء والمماثل واحد.
إذا علمت هذا فإن لك أن تسأل: ولكنا نرى أن هنالك كثيراً من الصفات يشترك فيها الإنسان - وهو من الحوادث - مع الله جل جلاله، كصفة العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، ونحوها، وذلك يناقض ما ثبت من أنه مخالف للحوادث.
والجواب: أن الإنسان يتصف بطائفتين من الصفات: (الأولى): صفات هي في الحقيقة ثمرة الحدوث والمخلوقية القائمة فيه، كالتحيز في المكان والزمان والحاجات الجسمية والنفسية المختلفة وعوارض العجز والضعف ومظاهر الطبع، فهذه صفات نابعة من كيانه الذي يتميز بالحدوث.
(والطائفة الثانية): صفات هي في الحقيقة من صفات الله عزَّ وجل، ولكنه سبحانه وتعالى متَّع الإنسان بنماذج وعينات يسيرة جداً منها، ليتهيأ له بواسطتها أن ينهض بالتكاليف التي خلق من أجلها، وليتسنى له أن يسخر لنفسه مظاهر الكون التي من حوله ويفيد منها، كالعلم والقدرة والإرادة والإدراك وما شابه ذلك. فهذه الصفات ليست نابعة من كيانه المتميز بالحدوث، بل هي ليست منها في شيء، وليست من خصائصه مطلقاً.
وبتعبير آخر نقول: إن القدر اليسير الذي يتمتع الإنسان به من هذه الصفات لا يسوغ اعتبار الإنسان شريكاً مع الله لسببين: (الأول): أنها صفات ذاتية بالنسبة لله تعالى، أما بالنسبة للإنسان فهي صفات غير ذاتية، إذ هي في حقيقتها ليست أكثر من فيوضات إلهية عليه، وهيهات أن يكون هذا المعنى موجباً لشراكة الإنسان مع الله في شيء منها.
(الثاني): أنها عينات يسيرة جداً لا تبلغ أن تكون ذات حقيقة كافية لأن تطلق عليها أسماؤها، لولا التجوز وملاحظة الاصطلاحات الخاصة بالإنسان، وإلا فما قيمة العلم الذي يتصف به الإنسان أمام علم الله تعالى، وما هي قيمة القوة التي قد يتمتع بها الإنسان في جنب قوة الله وعظيم سلطانه؟
والخلاصة: أن الملاحظ في نفي مماثلة الله تعالى للحوادث، نفي المماثلة في الصفات التي هي من مستلزمات الحدوث وخصائصه، أما الصفات الأخرى التي هي من مستلزمات الرب جلَّ جلاله، ولكنه سبحانه وتعالى أفاض منها عينات أو ظلالاً على بعض مخلوقاته كالإنسان، فهي غير داخلة في عموم هذا النفي».([1]) يقصد النفي في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
توضيح:
عقيدة المسلم: أن الإنسان مخلوق بكيانه المادي والمعنوي، بذاته وصفاته، بجسمه وروحه، وأنه إنسان بهذا الكيان المزدوج، وليس له شبه بالله تعالى بأي صورة من الصور، أما الاشتراك بين بعض صفات الله تعالى وصفات البشر بالاسم فهو من باب الاشتراك اللفظي. وليس الأمر كما قرر ابن عجيبة، ونسج على منواله
فهو يقرر وبوضوح أن الإنسان يتصف بنوع من الصفات الأزلية القديمة، يقول:(صفات هي في الحقيقة من صفات الله عزَّ وجل... فهذه الصفات ليست نابعة من كيانه المتميز بالحدوث، بل هي ليست منها في شيء، وليست من خصائصه مطلقاً...) توكيد وراءه توكيد على أن الطائفة الثانية من الصفات جزء من صفات الله، ثم يعود للتوكيد ثانية، عندما يقرر أن النفي في الآية يتجه إلى الطائفة الأولى من الصفات، ولا يتجه إلى الطائفة الثانية منها؛ لأنها (من مستلزمات الرب).
ثم ذكر فَرْقين بين هذا النوع من الصفات التي (هي في الحقيقة من صفات الله عزَّ وجل) وبين صفات الله (أولهما): أن صفات الإنسان فرع وفيض من صفات الله، وليست مخلوقة لله تعالى، بل هي (صفات ذاتية بالنسبة لله تعالى، أما بالنسبة للإنسان فهي صفات غير ذاتية، إذ هي في حقيقتها ليست أكثر من فيوضات إلهية عليه)، فالعلاقة ببينهما علاقة الفرع بالأصل، وليست المخلوقية. لاحظ أنه لم يقل: إنها مخلوقة، بل قال: «غير ذاتية»، وقال: «فيوضات إلهية عليه».
(وثانيهما): أن صفات الإنسان جزء من صفات الله، وليست مخلوقة لله تعالى (أنها عينات يسيرة جداً) فالعلاقة بين صفات الإنسان وصفات الله تعالى هي علاقة الجزئية، وليست المخلوقية. فالفرق في الكمية والمقدار، وليس في النوع.
مقارنة بين مقولات ابن عجيبة ومقولات هذا المؤلف
1- قال ابن عجيبة: احتجبت (لاهوتيته) ببشرية كثيفة ناسوتية...
1- قال المؤلف: صفات هي في الحقيقة ثمرة الحدوث والمخلوقية...
***** ***** *****
2- قال ابن عجيبة: حقيقة الإنسان هي روحانية، وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية... إن الأرواح أصلها قبضة من نور الجبروت...
2- قال المؤلف: صفات هي في الحقيقة من صفات الله عزَّ وجل. ليست نابعة من كيانه المتميز بالحدوث...هي من مستلزمات الرب جلَّ جلاله...
***** ***** *****
3- قال ابن عجيبة: أعطاه سبعاً من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية، إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية..
3- قال المؤلف: هي صفات غير ذاتية، إذ هي في حقيقتها ليست أكثر من فيوضات إلهية عليه..
***** ***** ******
4- قال ابن عجيبة: إن الأرواح أصلها قبضة من نور الجبروت ... فحيث سجنت في هذه الهياكل الكثيفة ...لم يظهر منه إلا نموذج ضعيف، فسمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وقدرته وإرادته وحياته بقية من تلك الصفات. (وقال): إنه أعطاه سبحانه سبعاً من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية، إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية...
4- قال المؤلف: أنها عينات يسيرة... وإلا فما قيمة العلم الذي يتصف به الإنسان أمام علم الله تعالى، وما هي قيمة القوة التي قد يتمتع بها الإنسان في جنب قوة الله وعظيم سلطانه؟ (وقال): أما الصفات الأخرى التي هي من مستلزمات الرب جلَّ جلاله، ولكنه سبحانه وتعالى أفاض منها عينات أو ظلالاً على بعض مخلوقاته كالإنسان.
***** ***** *****
5- قال ابن عجيبة: فحصل له بهذا أنموذج وشبه بالصمدانية، الربانية.
5- قال المؤلف: متَّع الإنسان بنماذج وعينات... فهي غير داخلة في عموم هذا النفي.
***** ***** *****
6- قال ابن عجيبة: جعل روحة اللطيفة النورانية في قالب كثيف، ليتأتى له منه غاية التصريف... جعله حاكماً على المظاهر كلها، مالكاً لها بأسرها، خليفة عن الله فيها... وجعله خليفةً عن الله في حكمه، يتصرف في الأشياء...
6- قال المؤلف: سبحانه وتعالى متع الإنسان بنماذج وعينات يسيرة جداً منها ؛ ليتهيأ له بواسطتها أن ينهض بالتكاليف... وليتسنى له أن يسخر لنفسه مظاهر الكون التي من حوله ويفيد منها...
***** ***** *****
7- قال ابن عجيبة: العارف: يرى الحق في الخلق، كقول بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه.
7- قال المؤلف: فمهما رأت عيناك شيئاً يتصف بالوجود فاعلم أن وجود الله تعالى سرى فيه...
2- المؤلف ووحدة الوجود.
سبق القول إن الصوفي إذا قال: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله) فهو في حالة فناء عن شهود السوى، ويعبر عنه بوحدة الشهود. وإذا قال: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه) فهو في حالة فناء عن وجود السوى، أو (البقاء)، ويعبر عنه بوحدة الوجود، وهو مقام الواصلين، وغاية السائرين.
وسبق القول: إن وحدة الشهود هي النبحة الأولى من وحدة الوجود، بل هي المدخل إليها، كما نقل الفتوى بذلك أحمد زيني دحلان. وسترى المؤلف، يدور حولها، ويتسرب في خفية إليها، لكن ليس بصراحة ابن عجيبة؛ لأنه لا يملك شجاعته، فهو مثلهم يستعمل مصطلح السالك، والواصل، والعارف، ووحدة شهود، ووحدة الوجود، لكن بصيغة الغائبين، ثم يحاول الدفاع عنهم.
قال المؤلف مقرراً وحدة الشهود: «وربما وصل أحد السالكين، ومن خلال التدرج في هذه المراتب [أي: الأحوال والمقامات] إلى ما أسموه بوحدة الشهود، إذ يفنى السالك بالمكون عن الأكوان، وبرؤية موجده عن ملاحظة وجوده.
ثم قال، مقرراً وحدة الوجود: «وربما اندفع في غمرة هذا الاصطلام إلى النطق بكلمات لا تنضبط بموازين العقل والمنطق، ولكنها تنبعث من فيح مشاعره الوجدانية التي فنيت –كما قلنا- عن كل ما سوى الله، كقول أبي يزيد البسطامي - قدس الله روحه: (ما في الجبة إلا الله) وكقول بعضهم: (أنا الحق أو سبحاني).
قال: وقد اتفق العارفون على أن حال الصحو أفضل وأسلم، حيث يكون العقل والوجدان على وفاق... ومع ذلك فلا جناح على من وقع في حال الفناء ووحدة الشهود».([2])
تعليق:
- لماذا (موازين العقل والمنطق) وليس ميزان الشرع؟ لأن الشريعة بداية الطريق، وهؤلاء واصلون.
- اتفق العارفون على قاعدة «ليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً». أو بتعبير آخر: «إياك أن تقول أناه واحذر أن تكون سواه». (أناه): أنا الله. (سواه): سوى الله.
- واتفقوا أيضاً على أن حال الصحو (= الفرق) أفضل وأسلم؛ لأنه يحميهم من سيف الردة أو السيف الذي قتل به الحلاج، وفي هذه الأزمنة يحفظ لهم مكانتهم بين الجماهير المغفلة.
- ومع أفضلية حال الصحو فلا إثم على من فني عن وجود السوى، فقال: (سبحاني) (أنا الله). ولو قتل بها كما قتل (بها الحلاج)، وقد «أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج».([3])
-
3- الله والكون عند المؤلف.
أ- قال ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه: «ما حجبك عن الله وجود موجود معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه».
قال المؤلف شارحاً: «ليس ثمة ما هو موجود مع الله قط. ذلك هو قرار العلم، وهو ما يجزم به المنطق. ولكي تدرك بداهة هذا الكلام، لاحظ كلمة (مع) التي تدل على النديَّة، وعلى المساواة، وتنفي تبعيةَ طرفٍ لآخر».([4])
ب- قال ابن عطاء: «الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته».
وقال المؤلف شارحاً ومحللاً: «إن كل ما عدا الله لا وجود له إلا به – عز وجل - فالوجود في الحقيقة إنما هو وجوده هو، أي: وجود الله تعالى، وإن تجلى في مخلوقات شتى.
ثم قال: واعلم أن ما يعبرون عنه بـ(وحدة الوجود) إن أريد بكلمة الوجود فيه الوجودُ الذاتي المستقل، العائد إلى الموجود، والمنبثق منه هو؛ فالتعبير صحيح، والمضمون حق. إذ مما لا ريب أن مصدر الوجود واحد، لا ثاني له، هو الله. وإذاً فمهما رأت عيناك شيئاً يتصف بالوجود فاعلم أنه وجود الله تعالى سرى فيه، وامتد عليه، أي: أنه صادر من ذاته العلية، مستقر عرضاً وإلى حين في مظهر ذلك الشيء. (قال): وهذا الذي يقرره ابن عطاء... يعبر عنه أكثر المحققين بـوحدة الشهود، إزالة للبس».([5])
توضيح وبيان:
كلام المؤلف يفيد أن هذا الكون لا وجود له، وأن ما نراه ونلمسه ونركبه ونشربه هو مجرد وهم وخيال، ويدعي فوق ذلك أنه قرار العلم، ويؤكده المنطق؛ وعليه فنحن نعيش في عالم من الأوهام؛ فهذه العمارات التي نرفعها ونسكنها، وهذه السيارات التي نركبها ليست إلا خيالات، وبها ركاب وسكان وهميون. وللرد على مثل هذه الأوهام والسمادير نذكِّر بقول ديكارت: أنا أفكر فأنا موجود.
أما المنطق فيقول بخلاف ما نسب، يقول المنطق: إن الوجود ينقسم إلى قسمين: (الأول) وجودٌ واجبُ، وهو وجود بذاته لذاته، وهو وجود الله تعالى، وهو الأول، وهو أزلي لا شيء قبله. (والثاني) وجودٌ ممكنُ، وهو وجود العالم، وهو وجود بذاته، ولكن لغيره، والوجود الممكن لم يكن ليوجد إلا بقدرة، فهو حادث، بمعنى أنه وُجد بعد العدم، وهو موجود بإيجاد الله تعالى له.
وأما القائلون بالوحدة، فهم يعتقدون أنه لا وجود إلا الوجود الواجب. وأما الكون فهو موجودٌ بوجود الله تعالى، لا بإيجاده، (كل ما عدا الله لا وجود له إلا به) فهم يستعملون الباء بمعنى الاختلاط والملابسة، لا بمعنى السببية، بمعنى أن العالم إنما هو صورة ومظهر للوجود الإلهي، ولم يحدث وجود الكون بعد عدمه، بل الحادث عندهم إنما هو صورة الكون بعد عدمها، والصورة عين المظهر الإلهي، ولذلك يقولون إن الله تعالى تجلى لنفسه، كما تجلى جبريل عليه السلام، لمحمد – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما قوله: (فمهما رأت عيناك شيئاً يتصف بالوجود فاعلم أنه وجود الله تعالى سرى فيه، وامتد عليه، أي: صادر من ذاته العلية) و(منبثق منه) فهو نفس قول ابن عجيبة: (العارف: يرى الحق في الخلق، كقول بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه)، وهو تقرير صريح لوحدة الوجود، ولا يفيده تمحله أن أكثر المحققين يعبرون عن هذا المعنى بوحدة الشهود. وللرد على هذا التمحل يستحسن العودة إلى الفتوى التي ذكرها أحمد زيني دحلان، والتي سبق ذكرها.
- أم قوله (إن (مع) تدل على الندية، وعلى المساواة، وتنفي تبعية طرف لآخر) فلا أدري من أين أتى بهذه المعاني لكلمة (مع)، إنها مغالطة مفضوحة، رماها في عيون ووجوه المغفلين الذين يقرؤون له أو يستمعون إليه؛ ليخدرهم، وليمرر عليهم مقولة: (ليس ثمة ما هو موجود مع الله قط). والعجيب أنه يقف مع كل كلمة من كلمات الحِكم العطائية، وكأنها آياتٌ قرآنية!
قال أهل اللغة إن (مع) تفيد المصاحبة واجتماع اثنين فما فوق. وقد جاءت (مع) في آيات كثيرة، تفيد العلم، أو النصرة، أو الرحمة، حسب سياق الآية، من ذلك قوله تعالى: {وإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} {إِنَّ مَعِي رَبِّي}{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ} ولم يقل أحد من العلماء إن (مع) في هذه الآيات أو غيرها تدل على الندية، أو المساواة، أو تنفي تبعية طرف لآخر. فكل ما ادعاه المؤلف من المعاني مردودة عليه لغة وقرآناً.
***** ***** *****
المحور الرابع- سبب قتل الحلاج
كان أبو المغيث، الحسين بن منصور، الحلاج، رافضياً زنديقاً ممخرقاً، يتعاطى السحر والشعوذة، ولم يكن يؤمن بدين، بل كان يؤمن بوحدة وجود حلولية. أقوالُه وأشعاره تشهد بذلك. ادعى النبوة، ثم ادعى الربوبية، وأهم من ذلك كله أنه كان أحد دعاة القرامطة، قتل وصلب سنة (309هـ)
حدث الخطيب البغدادي بسنده عن أبي بكر بن جمشاذ، أنه قال: حضر عندنا بالدينور رجل، ومعه مخلاة، فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار، ففتشوا المخلاة، فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه: (من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان)، فوُجِّه إلى بغداد. (قال): فأُحضر، وعُرض عليه، فقال: هذا خطي، وأنا كتبته. فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية، فقال: ما أدعي الربوبية ولكنْ هذا (عين الجمع) عندنا، هل الكاتب إِلا اللَّه، وأنا واليد فيه آلة.([6])
كان الحلاج رافضياً، يؤمن بالحقيقة العلوية، مكان الحقيقة المحمدية، التي يؤمن بها الصوفية. وأنه كان يرى علياً هو الصلة بين الله وبين الوجود.
قال الخطيب بسنده: أن الْحُسَيْن بن مَنْصُور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى؛ لدخوله من طريقهم.([7])
وبعد القبض على الحلاج، قال الخطيب البغدادي: «وكبس منزلُه، وأُخذتْ منه دفاترُ كثيرةٌ... وكان في الكتب الموجودة عجائبُ من مكاتباتِهِ أصحابَه النافذين إلى النواحي، وتوصيتِهم بما يدعون الناس إليه، وما يأمرهم به... وأن يخاطبوا كلَّ قوم على حسب عقولهم وأفهامهم، وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم، وجواباتٌ لقوم كاتبوه بألفاظ مرموزة، لا يعرفها إِلا من كتبها، ومن كُتبتْ إليه...(قال): وفي بعضها صورة فيها اسم (اللَّه) تعالى، مكتوب على تعويج، وفي داخل ذلك التعويج مكتوب (عَلِيّ) - عليه السلام - كتابةً، لا يقف عليها إِلا من تأملها».([8])
لم يقتل الحلاج لأنه ادعى الربوبية فقط، بل لأنه كان يعمل مع القرامطة لقلب نظام الحكم أيضاً. أما المؤلف فيعمل لتثبيته.
نقل ابن خلكان عن (الشامل) وهو كتاب في أصول الدين لإمام الحرمين، المتوفى (478هـ) قوله: «وقد ذكر طائفة من الأثبات الثقات أن الحلاج والجنَّابي (أبا طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام القرمطي) تواصيا على قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة، واستعطاف القلوب واستمالتها، وارتاد كل واحد منهما قُطراً، أما الجنابي فأكناف الأحساء... وارتاد الحلاج قطر بغداد».([9])
وثبت أيضاً عن الحلاج أنه كان يدَّعي معارضة القرآن، وأنه قادر على أن يأتي بمثله؛ فهذا هو القشيري لم يترجم له في (الرسالة) ولكنه قال: «ومن المشهور أن عمر بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور يكتب شيئاً؛ فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن. فدعا عليه، وهجره».([10])
فهل التاريخ في بغداد في القرن الثالث يعيد نفسه في دمشق في القرن الخامس عشر الهجري؟
وهل المؤلف في دمشق يعيد دور الحلاج في بغداد، ولو بصورة مغايرة؟
***** ***** *****
- انتهى -
الأحد 14/رمضان/1432هـ = 14/آب/ 2011م
أبو يوسف الوضاح
([1]) كبرى اليقينيات الكونية، مبحث الصفات السلبية (ص 102- 103) طبعة 1969م. قال في (هامش، ص 94): (أولئك الذين عرفوا بوحدة الوجود كمحيي الدين بن عربي وغيره، ودلت كتبهم على ذلك، يحتمل أن يكونوا بريئين من هذا المقال، وإنما دس ذلك في كتبهم من قبل بعض الزنادقة...). حبذا لو أخرج لنا المؤلف أو غيره كتبَ القوم الخالية من الدس، علماً أن ذلك من المستحيلات؛ لأن تلك الكتب قام العلماء بتحقيقها وتخريجها على أصول مخطوطة، خاصة كتاب الفصوص، فقد شرحه العشرات من أقطاب الصوفية، ولم يقل أحد منهم أن فيه دساً. ومن يدري ربما يأتي في قابل الأيام من يقول أن ما نقلناه من كلام المؤلف مدسوس عليه؟
([2]) الإسلام ملاذ المجتمعات الإنسانية (ص 209). طبعة أولى، دار الفكر.
([3]) مقدمة ابن خلدون (ص 438) دار الكتاب العربي، ط1، 1417هـ = 1996م
([4]) الحكم العطائية، شرح وتحليل (3/468).
([5]) الحكم العطائية، شرح وتحليل (4/15، 16).
([6]) تاريخ بغداد (8/706).
([7]) تاريخ بغداد (8/702).
([8]) تاريخ بغداد (8/715).
([9]) وفيات الأعيان (2/146).
([10]) الرسالة القشيرية، باب حفظ قلوب المشايخ (ص 558) تحقيق: عبد الحليم محمود. وانظر: تاريخ بغداد (8/699).