بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين
وبعد ..
أضحت ظاهرة الخسوف والكسوف إحدى الظواهر الطبيعية وذلك بمعرفة أسباب وقوعها وتوقيتها الدقيق حتى استشكل بعض المسلمين حديث التخويف المشهور فهل تعارض الحديث والعلم ؟
قلت : لا تعارض ولله الحمد ، ولا تتعارض النصوص الشرعية مع القواعد العلمية الصحيحة قط ، لأن من شَرَّع ، هو من وضع تلك القواعد الطبيعية سبحانه .
ولنأخذ هنا مسألة الخسوف والتي كانت مصدر الهلع والفزع قبل معرفة أسبابها الطبيعية ، أما بعد معرفتها فصارت تعتبر إحدى الظواهر الطبيعية ، فأمن الناس وبقي المسلمون يؤدون الصلاة كشعيرة مع الأمن .. فهل عورض الحديث بالواقع ؟
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم (يخوف الله بهما عباده)
فنقول :
الخوف عاطفة تدفع صاحبها للخروج عن الشعور عما يقابلها وهو الأمن
والخوف مصدر خاف يخاف خوفاً فهو خائف
والتخويف هو فعل المخوِّف ومصدر خوَّف يخوف تخويفاً فهو مخوَّف ومخوِّف
ويشترط في التخويف العلم بالمخوف به ، إذ فقدان الشعور بمعرفة الداعي للخوف لا يثير خوفاً بل يزيل أثره
إذاً فإثارة عاطفة الخوف يشترط فيها العلم بقدرة المخوَّف منه ، ولذلك فإنه لا يمكن للخوف أن يقع بدون علم المخوَّف به دواعيه وأسبابه والقدرة على زلزلة أمنه وقدرة نفسه على تقبل المخوَّف منه أو رده .. وبحسبها تثار هذه العاطفة في حجمها إما زيادة أو نقصاناً
أما الخوف من المجهول فهو خوف من قدرة مجهولة صنعها الشخص نفسه وأحاطها بهالة خلقت الشعور بالفزع وقد تكون حقيقية وقد لا تكون
فظاهرة الخسوف اختلطت المشاعر فيها منذ القدم ولا شك في كونها مثار للفزع الشديد لمن تصورها ، ولا كهرباء تدفع هواجس الظلام ، وهذا غير الهيئة الشبيهة بالاحتراق والتي هي بحد ذاتها تثير الهلع ، فأول ما يظن الرائي هو خروق لقوانين الطبيعة والتي قد تسبب هلاكاً عاماً ودماراً شاملاً ،
ثم بعد أن صارت لديهم طبيعية معلومة السبب ، وزد على ذلك انتشار النور الكهربائي والذي يمانع ما يسببه الظلام من فواجع ، انقشع شبح الخوف حتى لقد تحدث الظاهرة ولا يعلم بها البعض تهويناً من أمرها
ومن هذا المنطلق ظن بعض أهل العلم أن هذا قد يعارض الحديث .. فجاء في الفتح (2/624) (قوله (يخوف) فيه رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر،
وقد رد ذلك عليهم ابن العربي وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: (فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة ) قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى ، فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
ومما نقص ابن العربي وغيره أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة، وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين فقال : هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله، أم كيف يظلم الكثير بالقليل، ولا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس وهي في زاوية منها لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفاً) أ.هـ
إذاً فهل يعني هذا الأمر أن الحديث صار غير واقعي ، لاسيما بعد القطع العلمي بما ذُكِر ؟
الجواب أن الحديث لم يخرج من باب الإخبار حتى يعرض على الوضع فيصدقه أو يكذبه
وإنما خرج مخرج الإنشاء أي أن الله يظهر هذه الأمور لكي يذكر عباده بعظم قدرته وتحكمه في الكون فيتذكر المسلم ويلجأ إلى الله وهذا أحد الدوافع للعبادة
نعم قد انعدم التخويف من ظاهرة الخسوف وهذا شيء واقعي لا جدال فيه ، ولكن نوع الخوف الذي ارتفع هو الخوف من المجهول ، الخوف الطبيعي الذي يرتبط برؤية شيء خارق للطبيعة وهذا غير خوف العبادة
أما خوف العبادة فلا يشترط فيه معرفة سبب الظاهرة بل مسببها ، لان العبد لا ينظر للظاهرة من حيث كونها خارقة للطبيعة بل من حيث كون الخالق قدرها ليريَ العبد قدرته ويذكرهم بعظمته .. فهي علامة تذكير وتنبيه
وكل متق لله يعلم قدر ربه ، وصفة أهل العلم بالله الخوف منه سبحانه ، حتى قالوا لا تنظر إلى حجم المعصية ولكن انظر إلى من عصيت ومن علم خاف .
وهكذا دائماً المتقي لله لا ينظر إلى ربه إلا بعين التعظيم والتوقير فهو لا يرى إلا مراد الشارع وهو ما يسمونه بالفناء المشروع أي عن إرادة السوى والله أعلم
ويؤكد هذا ما بينه غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وهذا ابن دقيق العيد كذلك فيما نقله الحافظ ابن حجر معقباً به كلام ابن العربي المذكور آنفاً فقال : (وقال ابن دقيق العيد : ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله : (يخوف الله بهما عباده) وليس بشيء لأن لله أفعالاً على حسب العادة وأفعالاً خارجة عن ذلك ، وقدرته حاكمة على كل سبب فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض
وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد ، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها
وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى) أ.هـ
إذاً فهذا التخويف هو أمرٌ بالتذكير وإبداء الطاعة ، فهو كالعلامة للعبادة بصرف النظر عن سببها الطبيعي إذ لا شيء في هذه الدنيا يخلو عن سبب طبيعي ابتداء من إيجاد المكلف بطريقة التقاء الزوجين إلى قبض روحه بسببٍ طبيعي ، فهل قلل من شأن الموت معرفتنا أن الموت لا يحدث إلا بسبب طبيعي؟
وهل خلت أسباب العبادات من الأسباب الطبيعية ؟
فهذا وقت الفروض الخمسة التي يفزع المسلم إلى ربه حينها أليس متعلقاً بحدث طبيعي وهو الشمس ؟
وهل معرفتنا بأسباب نزول المطر الطبيعية تحدنا عن الاستسقاء ؟
وهكذا الخسوف ، إلا أنه لما كانت العبادات متنوعة بتنوع حالات النفس وارتباطها بربها .. كانت هناك من الطاعات التي تثير في النفس الرجاء وأخرى متعلقها الخوف فكانت عبادة الخسوف التي سببها من الخوارق الطبيعية ناسب أن يكون متعلقها الخوف واللجوء إلى الله تعالى وفي هذا من العظة والتذكير ما يغني عن تكلف بيانه
هذا بخلاف غيرها من العبادات كصلاة العيد والتي متعلقها الشكر..
والاستسقاء متعلقها الرجاء وهلم جر ،
ويتبقى في النفس مسألة تكرار الإعلان عن الخسوف عبر وسائل الإعلام لمباشرة الطاعة
ففيما أظن والله تعالى أعلم أن هذا ليس بمشروع أو على الأقل خلاف الأولى ، إذ الطاعة في هذه العبادة متعلقة بالمباشرة للحادثة فيكون وقعها على النفس أعمق ، أما مع التنبيه المتكرر فيفقدها قيمتها الروحانية لتنتقل إلى العبادة المعتادة .
وهذا يجعلني أظن أن القوم وأعني بهم الفلكيين من غير المؤمنين بالله لا يزال الخوف الطبيعي في أنفسهم موجود أو في أنفس مواطنيهم الذين يخاطبون ولذا فهم يدافعونه بالتأكيد المستمر على طبيعية هذه الظاهرة
إشـــكــال أورده بعض الفضلاء
قول الله عز وجل (فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)
هل في هذه الآية ما يشير إلى أن التخويف قد يكون معلوماً وقته فيكون أشد وقعاً ؟
وبهذا يُرَد على من يظن أن التخويف بالخسوف قد رُفِع لأننا علمنا وقته وسببه ، بل هذا مدعاة للخوف أكبر
فأقول :
ليس في الآية دليل على هؤلاء القوم وهذا من وجوه :
أولاً :
أن الآية هي من التهديد الداعي إلى الترقب والتوجس من حصول المهدد به وليس في الخسوف هذا المعنى
فالآية فيها الوعيد بإيقاع العذاب في الوقت المعين أما في حالة الخسوف فليس هناك وعيد أو تهديد بإيقاع عذاب وإنما أمر بالفزع إلى الله عز وجل ومثله فزعه صلى الله عليه وسلم عند اشتداد الريح لأن قوماً قد عذبوا بها
ثانياً :
أن المخالف لنا ليس مقصوده ارتفاع الخوف بالعلم بالتوقيت بل بمعرفة سببها وأنها لا تعني زيادة عن أي ظاهرة أخرى بل هي مثل غروب الشمس وطلوعها
وهذا لجوء منه إلى تفسير الخوف المطلوب شرعاً بالخوف الطبيعي وهو غير مراد قطعاً كما قد أسلفنا في الأعلى ..
هناك فرق بين معرفة الوقت ومعرفة السبب فالأول فرع عن الثاني ولا عكس إذ لا يلزم من معرفة الوقت معرفة السبب بينما معرفة السبب تعني معرفة الوقت ،
والخوف الطبيعي الواقع من ظاهرة الخسوف هو توجس من نتيجة سلبية الأثر تعود على الخائف وهذا التوجس لن يرتفع ولو عُلِمَ الوقت ،
فلو أخبر الله عز وجل أن الخسوف سيكون في كل شهر كذا من العام في اليوم الفلاني منه فلن يزال محل الخوف الطبيعي موجوداً ولكن معرفة سبب هذه الظاهرة هو الذي يزيل هذا الخوف
ولم يزل الله سبحانه وتعالى يخوف عباده التخويف المطلوب شرعاً ولم يزلوا معاندين
(وَنُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)
وبالله تعالى التوفيق
وكتبه
أبو محمد
ليلة الخميس 14/7/4132هـ
الموافق 16/6/2011م