فائدة (2)
قال لي بعض الطلاب يومًا : كيف يكون النذر عبادة وقد نهى النبي عنه كما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي نهى عن النذر وقال : (( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل )) فكيف يجتمع كونه عبادة وكونه منهي عنه ؟ فقلت : هذا سؤال جيد وقليل من تعرض له فضلاً عن ذكر الجواب ، وجوابه يسير بفضل الله وحسن توفيقه وتعليمه وبيانه أن يقال: إن لنا في النذر ثلاث نظرات: نظرة في أصل عقده - أي في إنشائه - ، ونظرة فيمن يعقد به ، ونظرة في الوفاء به بعد عقده .
فإذا فرقت بين هذه الأشياء الثلاثة عرفت الجواب - بإذن الله تعالى - ولكن قبل أن تدخل في الجواب عليك أن تعلم أن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن وهذا مهم جدًا ، إذا علمت هذا فاعلم أن الجزئية التي نهت عنها الأدلة إنما هي الأولى فقط ، أي أن الدليل نهى عن إنشاء النذر وذلك لأمرين :
الأول : أنه بالنذر يُلزم الإنسان نفسه بشيء ليس بلازم له شرعًا وما يدريه لعله لا يستطيع ولا يقدر على القيام به ، فرحمة من الشارع وإحسانًا بالمكلفين نهاهم عن إنشاء النذر .
الثاني : أنه نهى عن النذر لسد ذريعة تعلق القلب بغيره - جل وعلا - فإن الناذر قد يظن أنه بهذا النذر يقدم لله شيئًا ليعطيه بدله ، فكأن الأمر فيه نوع منه ، أي أن الناذر للصدقة أو الصلاة أو الصوم مثلاً لسان حاله يقول : إن أعطيتني هذا الشيء تصدقت وصليت وصمت ، فبالله عليك ماذا تفهم لو أن الله لم يعط العبد ذلك ، فإنه لن يأتي بهذه الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ، وهذا هو عين البخل فإن النفس المؤمنة تقوم بذلك اختيارًا وطواعية من غير إلزام ولذلك قال : (( إنه لا يأتي بخير )) أي لا يظن الناذر أنه بهذا النذر سيحصل له ما يريده من الخير ، وإنما يستخرج به من البخيل الذي تأبى نفسه فعل الخير ابتداءً وهذا الناذر قد تعلق قلبه بنذره ، ولذلك نهتنا الشريعة عن إنشائه ، فالمنهي عنه في حديث ابن عمر إنما هو إنشاؤه فقط ، لكن لو عقده فإنه مأمور ألا يعقده إلا بالله تعالى ، وإذا عقده بالله تعالى فإنه يجب عليه الوفاء به إن كان من قبيل نذر التبرر ، لقوله : يوفون بالنذر ، وقوله : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه . وقوله : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) إذًا النذر باعتبار إنشائه وابتدائه منهي عنه ، وباعتبار عقده لله والوفاء به عبادة ، والعبادة قد تكون منهي عنها باعتبار ومأمور بها باعتبار ، ألا ترى أن القرآن منهي عنه حال الركوع والسجود ؟ ولكنه مأمور به في حال القيام في غير الرفع من الركوع ، وأن الصلاة تطوعًا منهي عنها حال وقت النهي ومأمور بها في غيره . إذًا جهة النهي ليست هي جهة الأمر وكذلك كثرة الحلف منهي عنه ، لكن لو حلف فإنه يلزمه الوفاء بيمينه ، إذًا لا يتعبد لله بإنشاء النذر وإنما يتعبد لله بالوفاء به بعد عقده ، وحيث ثبت أن الله امتدح المؤمنين فيه ، فهذا دليل على أنه عبادة ، وحيث كان عبادة فلا يصرف إلا لله تعالى .
ولعلي بهذا قد أحسنت في إيصال المعلومة إليك فإن فهمت ذلك وإلا فهو من تقصيري في الشرح ، والله يغفر عن الخطأ والزلة ، والله أعلى وأعلم .