الحمدُ للهِ وحدَه ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبي بعده ..
أمَّا بعد ..
فمِن المتقرر ـ عند أهل العلم ـ أن ( علمَ الحديث ) من أدقِّ العلومِ وأعمقها ، وأشرف الفنونِ وأسمقها .. لهُ المنزلةُ الشريفة ، والرُّتبةُ المنيفة ..
فلا لومَ على طالبٍ علتْ همَّتُه لدراسته ؛ حفظاً وتفقُّهاً ..
ولا عَتَبَ على مُعْتَنٍ به وجمَّاعٍ لأسفاره ؛ حِرصاً على الفوائدِ لا تكثُّراً أو تفكُّهاً ..
بلْ طالبُه محمودٌ مُطلقاً بشرطِ الإطلاق ، ومن أخلصَ فيه للهِ حلَّق في الآفاق ..
إذ فيه ( أصولُ السُنَّة ) ، و ( تمام المنَّة ) ..
وثمَّة خللٌ منهجي بدأ يستشري بين طلاب الحديثِ ، بسعْيٍ حثيث ..
لمْ أرَ من نبَّه عليه من فضلاء الأعضاء المُتخصصين إلاَّ شاراتٍ مغمورةٍ في بطون المشاركات ..
فأحببتُ النُّصح ؛ تطفلاً على موائدِ الكبار ، فواللهُ لستُ من القوم ، ولكني أرجو .. فـ(همُ القوم لا يشقى بهم جليسهم ) !
والخللَ يمكن أن يُصاغ في النِّقاط التالية :
أولاً : التخصصُ الحديثيُّ المُبكِّر .
وأعني بذلك : البَدءَ في طلب ( علم الحديث ) بدايةً جادَّة قبلَ التأصيل والتأسيس الفُنُونيّ ، مما يُفرِزُ تصرّفاتٍ علميةٍ مشينة .
فيبدأ بعضُ الطلاب بدراسة المصطلحِ ، وبحفظ المتون وبعض الأسانيد .... قبل البدء بالضروريِّ من الفنون ؛ كالاعتقاد ، وما لا يسعُ المسلمَ جهله ، وأصول الفقه ، واللغة العربية ...
ولستُ أنسى ذلك الطالبَ المتحمس في الطلب يومَ بدأ في قراءةِ ( علوم الحديث ) لابن الصلاح ، وقرأ أن التعبير بـ( معلول ) مرذول في اللغة ، فبدأ ينقّبُ ويبحثُ ويتصلُ على الشيوخ طالباً اللفظَ الصحيحَ لهذا المعنى .. فذهبَ وقتُه في البحثِ عن هذه الجزئية .. ففترت همته ، ولانت عزيمته ..
إنَّ ( علمَ الحديث ) لا يمكنُ لمُدَّعٍ أن يقول : إنه يمكنُ الاجتهاد فيه روايةً ودرايةً قبل التأصيل العلمي في الضروريّ من الفنون ، ولا أعني بذلك التحقيقُ لها .
فلابد لطالب علم الحديث أن يتأصل علمياً قبل البدء في التخصص الحديثي .
ثانياً : الجُرْأةُ المبكِّرةُ في نقدِ الأحاديثِ ( سنداً ومتناً ) ..
وهذا ـ غالباً ـ نتيجةٌ للأوَّل ..
حتى أصبح ـ واللهُ المستعان ـ من الكلماتِ المَلُوكَةِ في الألسن : [ هذا الحديثُ ضعيف السند ، منكر المتن ] !!
لأدنى مخالفةٍ يعلمُ بها ـ لا سيما القول بنكارةِ المتن ـ ..
فهذه الإطلاقاتُ ينبغي أن لا يعانيها إلاَّ العلماءُ الراسخون .. فبعض الطلبة ينكرُ متناً ـ مدعياً ـ أنه يخالف اللغة ، أو مقاصد الشرع ، ......
وعند التحقيق يظهر أنَّ هذا تعالمٌ لا مستند له .
ثالثاً : التقصيرُ في الاطلاع على أقاويل العلماء ( سلفاً وخلفاً ) :
فيأتي بالفُهُومِ المُحدثة ، والاستنباطات الغريبة ، وإذا ناظرتَه مبيناً له مُرادَ أهل العلم في فهمِ هذا الحديث ، قال : سُبحان اللهِ !
أأدعُ قول رسول اللهلفهمِ فلانٍ أو علان ؟!
والحقُ أنه احتج بفهمه المتأخر لا بالحديث نفسه !..
ينتجُ عن هذا :
رابعاً : قِصَرُ النظر في التعامل مع ما تتضمنه الأحاديث الضعيفة .
فالضعيفُ ضعيفٌ ؛ لكنَّ أهل العلمِ قدْ يردُّون الحديثَ روايةً ويقبلونه دراية .. ولهذا شواهدُ كثيرةٌ الاعتمادُ فيها على أصولٍ أُخرى . وبعضها مُجمعٌ عليه .
والمهمُ في هذا الصدد إنكارُ بعضِ الطلاب بعضَ الأعمالِ ؛ محتجاً بضعف الحديث ..
حتى سمعنا ـ وللأسف ـ من يقول لبعض المحسنين : حديث ( من فطَّر صائماً فله مثل أجره .... ) حديثٌ ضعيف !!
نعم ؛ قد يكون الراجحُ فيه الضعف ، لكن أين الاعتباراتُ الأخرى ؟!
أينَ المتون المُشرقة : ( وكان أجودَ ما يكون في رمضان ) ..؟
أين نصوص الإحسان المتواترة ..؟
أين مقاصد الشريعة ؟
إنَّ الظنَّ بالله أن الأجر قد يكون أعظمَ من كونه مثلَ أجر الصائم فحسب .
كلُّ هذا بسبب الخلل المنهجي الناقص .
والمنهجُ السليمُ لبناءِ منهجٍ متكاملٍ هو التأصيل العلمي على أهل العلم الراسخين ، والتأمل والتحري والتريث ، وعدم تشبع الإنسان بما لم يعطه ، وترك الحوم حول الكلمات الرنَّانة لمن لم ترسخ قدمه في هذا العلم الجليل :
" حديث منكر " ، " غلط من صححه " ، " لم يصححه إلا من لم يعرف مناهج الأئمة " ...
واللهُ أعلم .. وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .