بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم

لسنا في حاجة إلى أن نذكر القارئ بالارتباط الذي لا ينفصم بين الإسلام واللغة العربية، فقد شاءت إرادة المولى القدير أن تكون هذه اللغة وعاء تلك الرسالة؛ ولذلك لا تجد جامعة إسلامية تقوم على تدريس الإسلام دون أن تتوفر على قسم متخصص لدراسة اللغة العربية.
ولذلك كانت الدعوة إلى هدم اللغة العربية – عبر مزاعم شتى – في هذا العصر الحديث أخطر الدعوات الهدامة جميعا على كثرة ما حفل به هذا العصر الحديث من هذه الدعوات الهدامة؛ لأن تلك الدعوات التي تستهدف هدم الدين أو الأخلاق قد تضل جيلا من الشباب لكن يبقى الأمل في إنقاذ الجيل القادم ما بقي هذا القرآن حيا مقروءا وما دام الناس يتذوقون حلاوة أسلوبه وجمال عبارته؛ أما هذه الدعوة الخطيرة فهي ترمي إلى قتل القرآن نفسه، والحكم عليه بأن يصبح أثرا ميتا كأساطير الأولين التي أصبحت حشو لفائف البردي أو بأن يصبح أسلوبه عتيقا باليا بتحويل أذواق الأجيال الناشئة عنه وتنشئتهم على تذوق ألوان أخرى من الأساليب المستجلبة من الغرب. وبينما نجح اليهود في إحياء لغتهم العبرية الميتة واتخاذها لغة للأدب، والحياة كان بعض المفتونين من العرب ينادون بأن اللغة العربية الفصيحة أصبحت لغة ميتة.
نستطيع أن نتلمس بداية هذه الدعوة لدى رفاعة الطهطاوي (المتوفى سنة 1290هـ 1873م) إذ يدعو في كتابه "أنوار الجليل في أخبار مصر وتوفيق بن إسماعيل" إلى استعمال العامية: "التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة ولا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها، وأصول على حسب الإمكان تربطها ليتعارفها أهل الإقليم حيث نفعها بالنسبة لهم عميم وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية".
وفي عام 1881م اقترحت صحيفة (المقتطف) لصاحبها فارس نمر كتابة العلوم بلغة الحديث، ودعت رجال الفكر إلى بحث هذا الاقتراح ومناقشته. ثم هاجت المسألة مرة أخرى في أوائل عام 1902م حين ألف أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في مصر من الإنجليز – وهو القاضي ولمور– كتابا عما سماه لغة القاهرة وضع لها فيه قواعد واقترح كتابتها بالحروف اللاتينية واتخاذها لغة للعلم والأدب. فتنبه الناس له حين أشادت به المقتطف؛ فحملت عليه الصحف مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا إلى محاربة الإسلام في لغته، وكتب حافظ إبراهيم في ذلك الوقت قصيدته المشهورة "اللغة العربية تتحدث عن نفسها".
وثارت المسألة من جديد حين دعا إنجليزي آخر - كان مهندسا للري في مصر - وهو السير وليم ولكوكس سنة 1926م إلى هجر اللغة العربية، وخطا بهذا الاقتراح خطوة عملية فترجم أجزاء من الإنجيل إلى ما سماه "اللغة المصرية"، ونوّه سلامة موسى بالسير ولكوكس وأيده، فثارت لذلك ثائرة الناس من جديد وعادوا لمهاجمة الفكرة، والتنديد بما يكمن وراءها من الدوافع السياسية؛ ولكن الدعوة استطاعت أن تجتذب نفرا من دعاة الجديد هذه المرة فاتخذوا القومية والشعبية ستارا لدعوتهم حين كان لمثل هذه الكلمات رواج وبريق، وحين كان الناس مفتونين بكل ما يحمل هذا العنوان في أعقاب ثورة شعبية تمخضت عن "الفرعونية"، وحين كانوا يتحدثون بما صنع الكماليون في تركيا من استبدال الحروف العربية باللاتينية، وترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية، وتحريم تدريس العربية في غير معاهد دينية محدودة وضعت تحت الرقابة الشديدة وقد مضوا بعد ذلك في مطاردة الكلمات العربية الأصلية ينفونها كلمة بعد كلمة.
ثم بدا أن الدعوة آخذة في الانتشار حيث اتخذت اللهجة السوقية في المسرح الهزلي (فرقة الريحاني أثناء الحرب الكبرى الأولى) ثم انتقلت إلى المسرح الجدي حين تجرأت عليه وقتذاك فرقة تمثيلية تتخذ لها اسما فرعونيا وهي فرقة "رمسيس" فوجدت مسرحياتها إقبالا ولقيت رواجا عند الناس، وظهرت الخيالة (السينما) من بعد فاتخذت هذه اللهجة، ولم يعد للعربية الفصحى وجود في هذا الميدان. ثم جاءت الإذاعة المرئية (التلفزيون) فكرست هذا الاتجاه إلى إقصاء العربية الفصحى، ثم ظهرت هذه اللهجة السوقية التي تسمى بالعامية في الأدب المكتوب، فاستعملها كثير من كتاب القصة في الحوار، ولا يزال دعاتها يمكنون لها في هذا الميدان ويجدون في ذلك جاهدين.
ولم يكن هذا هو كل ما كسبته الدعوة الجديدة التي روج لها الإنجليز وعملاؤهم. ولكن أعجب ما ظهر من ذلك في هذه الفترة وأغربه مما لا يخطر على البال؛ هو أن هذه الدعوة قد استطاعت أن تتسلل متلصصة إلى الحصن الذي قام لحماية اللغة العربية الفصحى المسمى "مجمع اللغة العربية"، فظهرت في مجلته الناطقة باسمه سلسلة من المقالات عن "اللهجة العربية العامية" كتبها عضو من أعضاء هذا المجمع اسمه عيسى إسكندر المعلوف (ما بين شعبان 1353 إلى شعبان 1356هـ – أكتوبر/تشرين أول 1934م إلى أكتوبر/تشرين أول 1937م). وإن مما يدعو إلى العجب حقا أن يختار المجمع لعضويته رجلا معروفا بعدائه الصريح للعربية، وهو عداء عريق ورثه عن أبيه إسكندر المعلوف الذي أعلنه وجهر به من قبل في مقال نشرته له الهلال عام 1902م دافع فيه عن اللهجات العامية، وختمه بقوله: "وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغة صعبة المراس قد استنزفت أوقاتهم وقوى عقولهم الثمينة، وهي مع ذلك لا توليهم نفعا بل أصبحت ثقلا يؤخرهم عن الجري في مضمار التمدن، وحاجزا يصدهم عن النجاح".[1] بل إن من أعضائه مستشرقون معروفون بصفتهم الاستعمارية منهم الإنجليزي جب. وليس هذا هو كل ما يدعو إلى العجب من أمر هذا المجمع فقد تقدم عضو من أبرز أعضائه وهو عبد العزيز فهمي – ثالث الثلاثة الذين بني عليهم الوفد المصري عام 1924، والذي أطلق اسمه على أحد خطوط (المترو) في القاهرة – تقدم باقتراح لكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وشغل المجمع ببحث اقتراحه عدة جلسات امتدت خلال ثلاث سنوات ونشر في الصحف، وأرسل إلى الهيئات العلمية المختلفة، وخصصت الحكومة جائزة مقدارها ألف جنيه لأحسن اقتراح في تيسير الكتابة العربية.
ألا يدعو هذا إلى التساؤل: هل أنشئ هذا المجمع لينظم جهود حماة اللغة العربية أم أنشئ ليكسب الهدم والهدّامين صفة شرعية؟ أليس يرضى الاستعمار عن مثل اقتراح المعلوف واقتراح عبد العزيز فهمي؟ أليس يرضى عنه العضو الإنجليزي الموقر جب؟ الذي يقرر في كتابه "إلى أين يتجه الإسلام؟" عند كلامه عن الوحدة الإسلامية أن من أهم مظاهرها الحروف العربية التي تستعمل في سائر العالم الإسلامي، واللغة العربية هي لغته الثقافية الوحيدة، والاشتراك في كثير من الكلمات الاصطلاحية العربية الأصل. أليس يرضى عنه الاستعمار الفرنسي الذي حارب العربية الفصيحة في شمال أفريقية أعنف حرب وضيق عليها أشد التضييق ووضع مستشرقوه مختلف الكتب في دراسة اللهجات البربرية وقواعدها لإحلالها محل اللغة العربية الفصيحة؟.
يصف الدكتور حسين الهراوي تقريرا من لجنة العمل المغربي الفرنسية وقع في يده فيقول: "فرأيت هذا التقرير يتبع السياسة الاستعمارية، ويصف مقاومة الإسلام والتقارير السرية التي يرسلها المستشرقون في البلاد المستعمرة إلى حكوماتهم لمقاومة الإسلام؛ لأن روحه تتنافى مع الاستعمار، وأن أول واجب في هذا السبيل هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها بإحياء اللهجات المحلية في شمال أفريقية، واللغات العامية حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم ويمكن التغلب على عواطفهم.[2] أليس يرضى عنه المستشرق الألماني كامفماير الذي يقرر في شماتة أن تركيا لم تعد بلدا إسلاميا فالدين لا يدرس في مدارسها وليس مسموحا بتدريس اللغة العربية أو الفارسية في المدارس؟ ثم يقول: "لأن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية".
على أن حجج أعداء اللغة العربية على كل حال لا تتجاوز الكلام عن صعوبة تعلم اللغة العربية من ناحية، والقول بعجزها عن تأدية أغراضها الأدبية أو العلمية من ناحية أخرى. وربما أضيف إلى هذين السببين سبب ثالث أكثر دعاة الفرعونية من الكلام عنه في مطلع القرن العشرين وهو تمصير اللغة: فاللغة الفصحى على حسب تعبير أحدهم: "تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية؛ فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب ويعجب بأبطال بغداد؛ بدلا من أن يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر". والمعروف أن أول من دعا إلى تمصير اللغة هو أحمد لطفي السيد الملقب بأستاذ الجيل، ومن أعجب العجب أن لطفي السيد هذا أصبح فيما بعد رئيسا لمجمع اللغة العربية.[3]
لقد خفتت هذه الدعوة الآن في أواخر هذا القرن العشرين؛ لكن مستوى اللغة العربية آخذ في الانحطاط لدى الناطقين بها، والعمل على تقويض دعائمها مستمر من طريق خفي؛ ففي مصر مثلا انتشرت في هذا الجيل المدارس الخاصة ومدارس اللغات، وأصبحت الطبقات المتيسرة والوسطى تؤثر تعليم أبنائها في هذه المدارس، بعد اكتظاظ المدارس العامة بالتلاميذ وهبوط مستواها. وهي أي المدارس الخاصة – لكي تجذب التلاميذ إليها تضع في برامجها تعليم اللغات الأجنبية – خاصة الإنجليزية – للتلاميذ الصغار منذ الروضة مع تعليم اللغة العربية؛ وبديهي أن الطفل في هذه المرحلة يحتاج أولا إلى إتقان لغته الأصلية وصقلها؛ فإذا ما زاحمتها في هذه المرحلة لغة أخرى؛ فإن النتيجة أن الطفل لا يستوعب لا لغته ولا اللغة الجديدة؛ لأن عملية استيعاب لغتين في وقت واحد تكاد تكون مستحيلة إلا لتلميذ نابغ وهذا أمر نادر.
والمظهر الثاني الذي أصبحت تجده: هو شيوع الأسماء الأجنبية للشركات والمحلات والسلع والمنتجات حتى في القرى والمدن الصغرى، وكثيرا ما يخطئ أصحاب هذه المحلات في كتابة الأسماء الأجنبية بالحروف اللاتينية، وكثيرا ما يكتبون الاسم الأجنبي بحروف عربية؛ فتكون النتيجة مضحكة مبكية تسيء إلى اللغات جميعا: العربية والأجنبية.
وأما في المغرب العربي: فالأمر أشد مرارة حيث اختلطت العربية بالفرنسية اختلاطا مزريا؛ وأنا شخصيا وجدت في تونس العاصمة عنوان محل هكذا: "المغازي الكبرى" يقصد المحلات الكبرى؛ وكلمة "مغازي" ترجمة للكلمة الفرنسية ”magasin” أو هكذا اعتبرها كاتب العنوان.
والخلاصة أنه بعد أن كانت اللهجات العامية هي التي تزاحم اللغة الفصحى؛ فإن اللغة الإنجليزية في المشرق العربي، والفرنسية في المغرب العربي هما اللتان تزاحمان الفصحى الآن في عقر دارها، وتحاولان إقصاءها مستفيدين في ذلك من اتساع نطاق السيطرة الغربية على العالم وعلى الإعلام والاقتصاد والوسائل التقنية لنقل المعلومات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


منقول للفائدة