{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قال ابنُ قُتيبة في عيون الأخبار : حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر الْمُزَنِي قال : جاءَ رجُلٌ فشتم الأحنفَ بنَ قيس فسكت عنه ، وأعادَ فسكت ، فقال الرّجل : والهفاه ما يمنعه من أن يرُدّ عليّ إلاّ هوانِي عليه .
قلتُ : قال ابنُ الجوزي رحمه الله في كتابه " صيد الخاطر " كلاما طيّبا في هذا الباب لعله من الخير ذكره هنا ، قال : ((من البلَه أن تبادرَ عدوا أو حسودا بالمخاصمة. وإنما ينبغي إن عرفت حالَه أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما. إن اعتذر قلبتَ ، وإن أخذ في الخصومة صفحتَ ، وأريته أن الأمر قريب . ثم تُبطن الحذرَ منه ، فلا تثق به في حال ، وتتجافاه باطنا مع إظهار المخالطة في الظاهر. فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك واجتهادك في علاج ما يعرفك به . من أعظم العقوبة له العفو عنه لله . وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه ، ويحمدك العلماء على حلمك. وما تؤذيه به من ذلك وتورثه بعد الكمد ظاهرا وغيره في الباطن أضعاف وخيرا مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها. ثم بالخصومة تُعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر ويبسط اللسان، وبالصفح يجهل مما في باطنك ، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه. أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي قد إشتفى منك . وما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل. وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة بالإبتلاء فهو لا يرى الخصم وإنما يرى القدرة .)) اهـ
وشَتم رجلٌ عمرَ بنَ ذرّ العابدَ الزّاهد فقالَ لهُ عمرُ : يا هذا، لا تُغرِق في شَتمِنا ودعْ للصّلحِ موضِعا ، فإنّي أَمَتُّ مُشاتمةَ الرّجال صغيراً ولن أحييها كبيراً ، وإنّي لا أكافِئُ من عصى الله فِيّ بأكثرَ من أن أطيعَ اللهَ فيه .
قلتُ : وقد أحسن الشّاعر كلّ الإحسان حين قال :
إنّ الكريمَ إذا تمكّن مـن أذى ... أنستهُ قُدرتـه الحقـوقَ فأقلعا
وترى اللّئيمَ إذا تمكّن من أذىً ... يطغى ولا يُبقي لصُلحٍ موضعا
وقال ابنُ قُتيبة : حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي ، قال : أسمَعَ رجُلٌ الشّعبيَ كلاماً ، فقال له الشّعبي : إن كنتَ صادِقاً فغفرَ الله لي وإن كنتَ كاذبا فغفر الله لك . ومرّ بقومٍ ينتقِصُونه فقال :
هنيئا مريئاً غيرَ داء مخامر ... لِعزّةَ من أعراضنا ما استحلّتِ
فكرة ربيع الأديب