لقد مر الفقه الإسلامي قبل ظهور المذاهب الأربعة بعصور عدة من حيث بروز الفقه فيها كعلم مستقل له شأنه وأهميته وعلماؤه.
فبدأت نشأة الفقه تدريجيا في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم- وفي عصر الصحابة، وكان سبب نشوئه وظهوره المبكر بين الصحابة هو حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام الوقائع الجديدة. وكان من مصادر الفقه الإسلامي في عصر الصحابة .
1- القرآن الكريم
2- السنة النبوية
3- استشارة أهل الرأي من الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء كان القضاء به، وهو ما يسمى ( الإجماع).
4- الاجتهاد
ومن مشاهير الفقهاء في هذا العصر: عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، عائشة أم المؤمنين، زيد بن ثابت، عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمر، وهؤلاء هم المكثرون من الصحابة، وهناك المتوسطون، كأبي بر الصديق، وأم سلمة، وغيرهم، وهناك المقلون ، كأبي الدرداء، والنعمان بن بشير، وغيرهم كثير.
ثم جاء عصر صغار الصحابة وكبار التابعين، وابتدأ من ولاية معاوية – رضي الله عنه- وانتهى في أوائل القرن الثاني الهجري.
ومن مشاهير المفتين في هذا العصر، عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- ، سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وغير هؤلاء.[1]
فائدة
نوعا التلقي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-:
قال ابن القيم: ولما كان التلقي عنه – صلى الله عليه وسلم- على نوعين: نوع بواسطة، ونوع يغير واسطة، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السِباق، واستولوا على الأمد، فلا مَطْمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المُبَرر: من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلف: من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال.اهـ[2]
ثم جاء عصر الأئمة، وهو عصر ازدهار الفقه وظهوره، وانتشاره وكثرة طالبه، وكانت بدايته من سنة مائة وتسعة عشر تقريبا، وقد انتهى بوفاة الإمام أحمد – رحمه الله- سنة مائتين وإحدى وأربعين للهجرة[3]
قال ابن القيم – رحمه الله-:
ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المُفَضل ( في إحدى الروايتين)، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد[4]، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعمران بن حصين، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر من مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله – سبحانه وتعالى – أجَلّ في صدورهم، وأعظَمَ في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله - سبحانه – لهم لِسَان صِدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرّعيلُ الأول من أتباعهم، ودَرَجَ على مناهجهم الموفّقُون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يَسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضَاربه، إذا بدا لهم الدليل بأُخذته طاروا إليه زرافات ووُحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه، و لا يسألون على ما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها ٌول أحد من الناس، أو يُعارضوها بقول أو قياس.اهـ[5]
وقبل الكلام على أسباب نشأة المذاهب وظهورها على الساحة، وبروز الأئمة الأربعة، مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد- رحمهم الله جميعا-، نعرج على تعريف المذهب.
تعريف المذهب:
المذهب: مفعل من الذهاب، يقول ابن فارس:
إن الذال والهاء والباء أصلان، أحدهما: يدل على حسن وهو معظم الباب. والثاني: يدل على الشيء ومضيه، فمن الأول قولهم أذهب الشيء بمعنى طلاء بالذهب، ومن الثاني قولهم: ذهب فلان مذهبا حسنا أي سلك طريقا أو منهجا حسنا، إلا أن الأصل الثاني- وهو الذي يعنينا – قد استعمل في حقيقته كما استعمل في مجازه كما يقول الزمخشري فمن استعماله في حقيقته قولهم: ( ذهب فلان من داره إلى المسجد ذهابا ومذهبا، ومن استعماله في مجازه قولهم: ذهب فلان مذهبا حسنا، وفلان يذهب إلى قول أبي حنيفة أي يأخذ به).[6]



تعريف المذهب في اصطلاح الفقهاء:
المذهب في اصطلاح الفقهاء: ( حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية).[7]
وبقول الحطاب – رحمه الله تعالى -: ( فيما ذهب إليه إمام من الأئمة) خرج بذلك ما ذهب إليه تلاميذ الإمام، فبهذا التفسير يُضيق دائرة الأقوال والآراء الفقهية التي تندرج تحت ( مظلة) المذهب، ومن ثم فقد حرر المتأخرون من العلماء تعريف المذهب بأن( المراد بمذهبه: ما قاله هو وأصحابه على طريقته، ونسب إليه مذهبا، لأنه يجري على قواعده وأصله الذي بنى عليه مذهبه، وليس المراد ما ذهب إليه وحده دون غيره من أهل مذهبه).[8]




[1] الفقه الإسلامي وأدلته ج/1/18، المدخل إلى علم الفقه ص 122، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ج/1/270.

[2] إعلام الموقعين ج/2/8. تحقيق مشهور.

[3] الفكر السامي ( 1/331/333).

[4] الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ( 2897) باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب. قال حدثنا عبد الله ب محمد قال حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابرا عن أبي سعيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال : ( يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب رسول الله - صلى الله عليه؟ فيُقال: نعم، فيفتح عليه. ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب أصحاب النبي – صلى الله عليه؟ فيُقال: نعم، فيُفتح له، ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي – صلى الله عليه-؟ فيُقال: نعم، فيُفتح).
وهذا الحديث يدل على أن خير القرون المفضلة هي الثلاثة الأولى. كما جاء ذلك مبينا في أحاديث أخرى.
قال الحافظ: قال ابن يطال: هو كقوله في الحديث الآخر ( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) لأنه يفتح للصحابة لفضلهم ثم للتابعين لفضلهم ثم لتابعيهم لفضلهم، قال: ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل فكيف بمن بعدهم والله المستعان. 0 فتح الباري ج/6/105).

[5] إعلام الموقعين ج/2/10.

[6] معجم مقاييس اللغة (2/362 ذهب)، وأنظر أساس البلاغة (146، ذهب).

[7] مواهب الجليل للحطاب ج/1/31.

[8] حاشية الشيخ علي العدوي على الخرشي ( بهامش الخرشي على خليل 1/35). وانظر اصطلاح المذهب (23).