[align=center] بسم الله الرحمن الرحيم .
هذه مقدمة كتاب [ تحريم النظر في كتب الكلام ] للإمام ابن قدامة رحمه الله ، و هذا الكتاب العظيم يرد الإمام بن قدامة فيه على ابي الوفاء إبن عقيل مع أن أبي الوفاء أعلن توبته ورجوعه لمذهب السلف ، بل كتب في الرد على ما كان يعتقده . وفي هذا بيان أن المفصود رد الباطل الذي قد يعتبره بعض الأغرار أو العوام حقاً لارتفاع مكان صاحبه في الناس ، وعلو قدره ، أو لكون صاحبه عرف بالذب عن السنة .
فالسلف رحمهم الله ، عملوا على رد المقالات الباطلة التي تنتشر فيضل بها الناس صيانة للدين وحماية للشريعة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين .فإلى هذه الفائدة النفيسة :
قال الموفق ابن قدامة :
‘‘ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا موافيا لنعمه مكافئا لمزيده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في توحيده وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم أنبيائه وخير عباده وعلى آله وصحابته وسائر المتمسكين بسنته المحتذين لطريقه أما بعد فإنني وقفت على فضيحة ابن عقيل التي سماها نصيحة وتأملت ما اشتملت عليه من البدع القبيحة والشناعة على سالكي الطريق الواضحة الصحيحة فوجدتها فضيحة لقائلها قد هتك الله تعالى بها ستره وأبدى بها عورته ولولا أنه قد تاب إلى الله تعالى منها وتنصل ورجع عنها واستغفر الله تعالى من جميع ما تكلم به من البدع أو كتبه بخطه أو صنفه أو نسب إليه ( 1 )لعددناه في جملة الزنادقة وألحقناه بالمبتدعة المارقة ولكنه لما تاب وأناب وجب أن تحمل منه هذه البدعة والضلالة على أنها كانت قبل توبته في حال بدعته وزندقته ثم قد عاد بعد توبته إلى نص السنة والرد على من قال بمقالته الأولى بأحسن كلام وأبلغ نظام وأجاب على الشبه التي ذكرت بأحسن جواب وكلامه في ذلك كثير في كتب كبار وصغار وأجزاء مفردة وعندنا من ذلك كثير (2 )
فلعل إحسانه يمحو إساءته وتوبته تمحو بدعته فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات ولقد كنت أعجب من الأئمة من أصحابنا الذين كفروه وأهدروا دمه وأفتوا بإباحة قتله وحكموا بزندقته قبل توبته ولم أدر أي شيء أوجب هذا في حقه وما الذي اقتضى أن يبالغوا فيه هذه المبالغة حتى وقفت على هذه الفضيحة فعلمت(3) أن بها وبأمثالها استباحوا دمه وقد عثرت له على زلات قبيحة ولكن لم أجد عنه مثل هذه التي بالغ فيها في تهجين السنة مبالغة لم يبالغها معتزلي ولا غيره
وكان أصحابنا يعيرونه بالزندقة فقال الشيخ أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلواذاني رحمه الله تعالى في قصيدته يقول فيها :
ومذ كنت من أصحاب أحمد لم أزل ... أناضل عن أعراضهم وأحامي
وما صدني عن نصرة الحق مطمع ... ولا كنت زنديقا حليف خصام
يعرض بابن عقيل حيث نسب إلى ذلك وبلغني أن سبب توبته أنه لما ظهرت منه هذه الفضيحة أهدر الشريف أبو جعفر رحمه الله تعالى دمه وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله
وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل فبينما هو يوما راكب في سفينة فإذا في السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله وإراقة دمه ففزع وخرج من السفينة وجاء إلى الشريف أبي جعفر فتاب واستغفر .
وها أنا أذكر توبته وصفتها بالإسناد ليعلم أن ما وجد من تصانيفه مخالفا للسنة فهو مما تاب منه فلا يغتر به مغتر ولا يأخذ به أحد فيضل ويكون الآخذ به كحاله قبل توبته في زندقته وحل دمه
أخبرنا الشيخ الإمام الثقة المسند أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزد البغدادي بقراءتي عليه في ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة بمسجدنا المحروس بظاهر دمشق حرسها الله تعالى قلت له أخبركم القاضي الأجل العالم أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار إجازة إن لم يكن سماعا قال حضرت يوم الاثنين الثامن من المحرم سنة خمس وستين وأربعمائة توبة الشيخ الإمام أبي الوفاء بن عقيل في مسجد الشريف أبي جعفر رحمه الله تعالى في نهر معلى وحضر في ذلك اليوم خلق كثير قال : يقول علي بن عقيل إنني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة الاعتزال وغيره ومن صحبة أربابه وتعظيم أصحابه والترحم على أسلافهم والتكثر بأخلاقهم وما كنت علقته ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله سبحانه تعالى من كتابته وقراءته وإنه لا يحل لي كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده وذكر شيئا آخر ثم قال فإني أستغفر الله وأتوب إليه من مخالطة المبتدعة المعتزلة وغيرهم ومكاثرتهم والترحم عليهم والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام لا يحل لمسلم فعله لقول النبي من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام
وقد كان سيدنا الشريف أبو جعفر أدام الله علوه وحرس على كافتنا ظله ومن معه من الشيوخ والأتباع سادتي وإخواني أحسن الله عن الدين والمروة جزاءهم مصيبين في الإنكار علي لما شاهدوه بخطي في الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها واتحقق أنني كنت مخطئا غير مصيب
ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار فلإمام المسلمين أعز الله سلطانه مكافاتي على ذلك بما يوجبه الشرع من ردع ونكال وإبعاد وغير ذلك وأشهدت الله تعالى وملائكته وأولي العلم على جميع ذلك غير مجبر ولا مكره وباطني وظاهري في ذلك سواء
قال الله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام
ثم كتب الشهود خطوطهم وهذه نسختها
1-أشهدني المقر على إقراره بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وكتب عبد الله بن رضوان في المحرم سنة خمس وستين وأربعمائة بمثل ذلك أشهدني وكتب محمد بن عبد الرزاق بن أحمد بن السني في التاريخ
2-أشهدني المقر على إقراره بجميع ما تضمنه هذا الكتاب وكتب الحسن بن عبد الملك بن محمد بن يوسف بخطه
سمعت إقرار المقر بذلك وكتب محمد بن أحمد بن الحسن
3-أشهدني المقر على نفسه بذلك وكتب علي بن عبد الملك بن محمد بن يوسف آخرها
وكتب محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله وحضر في هذا اليوم في مسجد الشريف خلق كثير
فهذه الفضيحة - [ابن قدامة يعني كتاب ابن عقيل وهو النصيحة سماه ابن قدامة بالفضيحة فتأمل ]-من جملة ما تاب منه إلى الله تعالى وأقر بأنه ضلال وبدعة وأنه متى وجد بخطه وجبت مقابلته عليه وينتقم الله منه
فكيف يحتج بقول هذا محتج أو يغتر به مغتر أو يقول به قائل أو يتعلق به متعلق مع شهادة قائله عليه بالضلال وإجماع العلماء من أهل بلدته على استتابته منه وإهدار دمه به وبأمثاله وهذا أدل شيء على خطئه وضلاله وإن كانت هذه المقالة صدرت منه بعد توبته فهذا دليل على زندقته وإصراره على بدعته ورجوعه إلى ضلالته فإن معنى الزندقة إظهار الحق واعتقاد خلافه وهو النفاق الذي كان على عهد رسول الله ويسمى اليوم الزندقة .وهذا الرجل قد صنف في نفي تأويل الصفات والرد على متأولها جزءا مفردا وصنف في الحرف والصوت جزءا مفردا وصنف كتاب الانتصار للسنة وغيرها من الكتب وملأها من السنة والرد على المبتدعة
فإن كان يظهر ذلك ويبطن هذا ويعتقده فهو زنديق فكيف يجوز أن يحتج محتج بمقالته أو يرضى لنفسه بمثل حاله أو يضل بضلالته ونعوذ بالله تعالى ولا يظن به هذا ولكن لما علمت منه حالتان حالة بدعة وحالة توبة نسبنا كل ما وجد من كلامه من البدع إلى حالة البدعة لا غير
وما عادتي ذكر معائب أصحابنا وإنني لأحب ستر عوراتهم ولكن وجب بيان حال هذا الرجل حين اغتر بمقالته قوم واقتدى ببدعته طائفة من أصحابنا وشككهم في اعتقادهم حسن ظنهم فيه واعتقادهم أنه من جملة دعاة السنة فوجب حينئذ كشف حاله وإزالة حسن ظنهم فيه ليزول عنهم اغترارهم بقوله وينحسم الداء بحسم سببه
فإن الشيء يزول من حيث ثبت (4)وبالله التوفيق والمعونة ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإسلام والسنة وعلى كل حال فهو قد نفر من التقليد وأنكر حسن الظن بالمشايخ فكيف يحسن الظن فيمن ينكر حسن الظن به وكيف يقبل قول من ينهى عن قبول قول غيره وينبغي لنا أن نقبل قوله في نفسه فيساء الظن به ولا نقبل قوله في غيره كمن أقر بشيء عليه وعلى غيره قبل قوله عليه ولم يقبل على غيره
وها أنا أجيب عن مقالته إن شاء الله تعالى فصلا فصلا وأبين عوار كلامه فرعا وأصلا بتوفيق الله ومعونته ... ’’ ا.هـ
[align=right]______________
(1 ) قلت : أنظر هنا ، وتأمل رحمك الله ، فهو يبين أنه تاب منها ، ورجع ، ومع ذلك يرد على ما كتبه أبو الوفاء ابن عقيل وانتشر بين الناس ، فلم بعض الأخوة هداهم الله يقولون لا تردوا على فلان من الناس ، فقد تاب ورجع ، والجواب على هذه الشبة سيأتي قي كلام ابن قدامة فتأمل .- انظر التعليق رقم -4- .
(2) تأمل أخي الكريم ، هنا يؤكد ابن قدامة رحمه الله أن ابن عقيل تاب ، بل ردّ على من قال بقوله ومع ذلك لم يحمل ابن قدامة رحمه الله على ترك ما انتشر بين الناس من الباطل والضلال بلا تبيين وتعرية .
(3) تامل أخي الكريم هذا الكلام ، واعلم أن العالم من علماء السنّة قد تخفى عليه بدعة المبتدع ، أو حاله ، او مقاله ، ثم بناءً عليه قد يظهر منه استنكار على من أنكر على المبتدع او شنّع عليه ، ولهذا فإن علماء السنّة يصدّق بعضهم بعضاّ في تقرير الأصول والقواعد الكلية الشرعية ، لكن لا يلزم من ذلك أن يعلموا حال كل مبتدع أو مخالف ، وبناءً عليه يختلف الحكم على الأشخاص من عالم لعالم .
(4) هنا يذكر ابن قدامة سبب ردّه على ابن عقيل ، و التشنيع بمقالته ، مع أنه ذكر أنه تاب فتأمل هذا حق التأمل تعرف مدى حرص السلف رحمهم الله على حماية الشريعة لا حماية الأشخاص والله المستعان[/align]
صالح السويح
25/1/1428هـ[/align]