الحمد لله رب العالمين..
وبعد..
فقد قرأت نص فتوى بجواز بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر وتمكينه من نفسها..
وكان من جملة ما استشهد به من أدلة حديث عليّ في شأن امرأة اليهودي أو النصراني إذا أسلمت، كان أحق ببضعها، لأن له عهدا.
وفي رواية أخرى عنه: هو أحق بها ما داما في دار الهجرة. يعني في دار هجرتها وفي رواية ثالثة أخرى: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها. ثم عقب على تلك الروايات بما نصه:
"وكأني ألمح في حكمه رضي الله عنه استنادا إلى الآية الكريمة من سورة (الممتحنة) حيث قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" [الممتحنة:10]
والمؤمنون مطالبون ـ وفق هذه الآية ـ إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات، وعلموا صدق إيمانهن: ألا يرجعوهن إلى الكفار، فيعرضوهن للفتنة في دينهن، ولكن إذا بقيت المرأة في دارها لم تغادرها إلى دار الإسلام، وأقامت مع زوجها، فهي امرأته. وكأن هذا ما استند إليه علي كرم الله وجهه.
وفي رأيي أن هذا قول وجيه، ترجحه حاجة المسلمات الجديدات إلى بقائهن مع أزواجهن، ولا سيما إذا كن يرتجين إسلامهم، وخصوصا إذا كان لهن منهم أولاد يخشى تشتيتهم وضياعهم..إلخ"
ولست بصدد بحث حكم بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر، ولا بصدد تحقيق ثبوت قول عليّ من عدمه؛ وإنما أهالني الاستدلال الذي ساقه الشيخ؛ ذلك أنه احتج بمفهوم قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" على جواز بقاء من أسلمت تحت زوجها مالم تهاجر إلى دار الأسلام.. وهو استدلال فاسد من أوجهٍ سبعة:
الأول: أنه احتج بالمفهوم في مقابلة الإجماع على تحريم وطء من اسلمت من قِبَل زوجها الكافر(1 ). والمفهوم لا يقدم على المنطوق فكيف بالإجماع. قال الشوكاني في شروط مفهوم المخالفة(2 ): [الشرط الأول:أن لا يعارضه ما هو أرجح منه، من منطوق أو مفهوم موافقة]أهـ
الثاني: أن مفهوم قوله تعالى "إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" إذا لم يأتكم المؤمنات مهاجرات فلستم مأمورون بامتحانهن.. ولا علاقة بين حكم امتحان اللائي لم يأتين مهاجرات وبين حكم بقائهن تحت إزواجهن في ديار الكفر.. لا من جهة تعلق الحكم ولا من جهة المخاطب به؛ إذ الحكم في الأول هو حكم امتحان المهاجرات، والمكلفون به هم المؤمنون، والحكم في الثاني بقاء من أسلمت تحت زوجها الكافر، والمكلفة به هي من أسلمت..
الثالث: أن مفهوم المخالفة عند الأصوليين هو "الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه".. والحكم المترتب على مجيء المؤمنات مهاجرات هو وجوب امتحانهن؛ فيكون الحكم المنفي عما عدا مجيء المؤمنات مهاجرات -هو أيضاً- وجوب الامتحان؛ ولا تعلق له البتة بقوله تعالى "لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" ؛ وإنما هي جملة استئنافية لعدم وجود حرف عطف كما سيأتي..
الرابع: أني ذكرت الوجهان الثاني والثالث على تقدير أن قوله "إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" له مفهوم.. وليس بصحيح؛ بل لا مفهوم له لتحقق مانعين:
أولهما: أن تعليق الحكم على مجيء المؤمنات مهاجرات لغرض؛ مفاده أن امتحانهن محال بغير هجرتهن.. وقد اشترط الأصوليون لإعمال المفهوم أن لا يظهر للمتكلم غرض غير المفهوم فيؤخذ به لئلا يخلو كلام الحكيم عن حكمة؛ وإلا فلا( 3)..
وثانيهما: أن الآية قد نزلت على سبب خاص وهو صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش أن يرد من جاءه مؤمنا.. فكانت الآية مخصصة لمقتضى لذلك الصلح. وقد اشترط أكثر الأصوليين لإعمال المفهوم أن لا يرد الحكم على سبب خاص. فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قلنا: يتوجه ذلك في المنطوق وفي المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية، أما المفاهيم غير القوية فتسقط بأدنى قرينة( 4)..
الخامس: أن مفهوم قوله "فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" هو: فإن علمتموهن كافرات فلا يحرم عليكم إرجاعهن إلى الكفار.. إذ الإيمان والكفر نقيضان يثبت أحدهما بارتفاع الآخر؛ ثم هما قسما ما يترتب على الامتحان، وليس ثم ثالث لهما.. ولا معنى لهذا الاستدلال؛ إذ لا خلاف في جواز بقاء الكافرة تحت زوجها الكافر وإنما النزاع فيمن أسلمت.
السادس: أن قوله تعالى " لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" إما أن يكون معطوفاً على قوله "فلا ترجعوهن إلى الكفار" فيكون مشتركاً معه في الحكم وينتفيَ معه في المفهوم؛ فيصير التقدير فإن علمتموهن كافرات فلا يحرم عليكم إرجاعهن إلى الكفار وهن حلال للكفار وهم حلال لهن.. ولا إشكال على هذا التقدير؛ إذ لا خلاف في جواز بقاء الكافرة تحت زوجها الكافر وكونها حلال له كما ذكرنا..
وإما أن يكون قوله " لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" غير معطوف على ما قبله.. وهو الصواب لعدم وجود أداة عطف.. وعليه فلا تعلق البتة لمفهوم قوله "فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" بقوله "لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن".. وإنما هي عبارة استئنافية( 5) سيقت لتعليل حكم تحريم رد المؤمنات إلى الكفار ببيان الوصف المناسب.. كقوله تعالى "أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه" بعد قوله "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"؛ وهو مسلك معتبر لدى الأصوليين..
يقول ابن قدامة في باب الفحوى والإشارة فصل فيما يقتبس من الألفاظ من فحواها وإشاراتها لا من صيغها [الضرب الثاني: فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب]أهـ(6 )
وعلى هذا المعنى نص المفسرون ؛ يقول الشوكاني [ "لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن" تعليل للنهي عن إرجعاهن ] أهـ(7 )
السابع: أني ذكرت الوجهان الخامس والسادس على تقدير أن قوله "فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار" له مفهوم. وليس بصحيح؛ بل لا مفهوم له لسببين.
الأول: لنزول الآية على سبب خاص كما بيننا..
والثاني: أن الأمر بعدم إرجاعهن مخصِّص لوجوب رد كل من يأتي إلى المسلمين مهاجراً عملاً بنص صلح الحديبية؛ أو ناسخٌ له على قول بعض المفسرين.. فيكون وجوب إرجاع من علم كفرها من المهاجرات؛ لا أنه مفهوم للآية؛ بل لكونها من أفراد عموم من وجب إرجاعه -إذ لم يتناولها التخصيص- أو هو واجب بأصل الحكم إذ لم يتبدل بالنسخ- على تقدير وقوعه-.
يقول العز بن عبد السلام [لما هادن الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً على أن يرد إليهم من جاء منهم جاءت أميمة بنت بشر مسلمة أو سعيدة زوجة صيفي أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أو سُبَيْعَة الأسلمية فلما طلب المشركون الرد منع الله من ذلك نسخاً منه للرد عند من قال دخلن في العموم أو بياناً لخروجهن من العموم ، وإنهن لم يشترط ردهن لسرعة انخداعهن إلى الكفر وحفظاً لفروجهن عند من قال لم يدخلن في العموم وإن كان ظاهراً في شمولهن ] (8 )
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه، آمين.
( 1) يقول في الشرح الكبير (7/598) "والاجماع منعقد على تحريم فروج المسلمات على الكفار".
( 2) إرشاد الفحول (2/40).
( 3) ومثل ذلك قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) فإنما ذكر قيد "إن أردن تحصنا" لاستحالة تحقق الإكراه على الزنى في حق من يريده ؛ ومن ثم فلا مفهوم له. انظر الإحكام للآمدي (3/101)
( 4) راجع إرشاد الفحول (2/40).
( 5) يقول الخراط [جملة "لا هنَّ حلّ" مستأنفة] مشكل إعراب القرآن صـ550
( 6) روضة الناظر (2/675)
(7 ) فتح القدير (5/301) وانظر: تفسير الخازن (7/ 79) والبحر المديد (8/ 41) و التحرير والتنوير (2/ 362) وتفسير القرطبي (18/64) وروح البيان (9/ 390) وروح المعاني (28/ 75)
( 8) تفسير العز بن عبد السلام صـ1210
وكتبه: محسن عبد التواب