الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على خاتم الانبياء و المرسلين و على من تبعه باحسان الى يوم الدين...
اما بعد:
سنقوم و بعون الله تعالى بتفسير سورة يوسف تفسيرا يفقهه الصغير و يتقنه الكبير....يحبّه الجاهل و يتمناه العالم...
فللاديب فيه مَرْتَع و للمفسّر مَرْجَع و للفقيه مَجْمَع و للغويّ مَضْجَع و للمعبّر مَرْبَع...
ففي هذه السورة من الدرر ما خفي على اهل الوبر و المدر...ففي كل آية بحر لجيّ...
و ان كانت سورة الاخلاص تعدل ثلث القرآن فيوسف تعدل القرآن كله و هذا من حيث القصص و الاوامر النواهي و التوحيد....
بينمها الاخلاص فيها نص صحيح و يوسف لا نصّ غير ما اوّلناه و قسمناه....
فمن مشى على سواحلها اكتسب الود و الحنان و من ركب سفنها التقط ادوات المعبر و بقية الاركان....
ففيها من الفقه الشيئ الكثير و من الادب الحظ الوفير و من المعاملة الخط المنير....
فتجلب الرقة و الرأفة و البداهة و الفطنة ...
تُبعد عنها الغفلة...
مدخل:
فكان القرآن كتابا يتقرّب به العبد من ربّه فبه يعرف خالقه و به يرتقي و به يستشفع....
فنسخ المولى به كتبه السماوية و أتى على وجه بديع و كان الاعجاز به خاصة فعجز فصحاء العرب على ان يأتوا بمثله فضلا ان يأتوا بعشر سور و سورة....
و تكفّل خالق الانس و الجان بحفظه فضلّ سعي من راودته نفسه و اصبح حسير الرأس و اليمين....انه كتاب عظيم....
فكما كان الموحى اليه من افضل خلق الله تعالى و امام الانبياء و المرسلين فكان كتابه هو امام كتب السابقين فلا مواعظ بحتة و لا قصص تترا و انما من هذا و ذاك و توحيد و انشاء....
و كانت الققص ركنا لتثبيت قلب المصطفى صلى الله عليه و سلم حتى باتت قصة يوسف عليه السلام عنوان كل مبتلى...
و من تذكّر موت محمد صلى الله عليه و سلم نسي موت اقرب الناس اليه و من قرن مصيبته بيوسف عليه السلام ادرك النعيم الذي هو فيه و احاطته التسلية و السلوان....
فلا صبر كصبر ايوب عليه السلام على مرضه و لا يعقوب عليه السلام على فلذة قلبه و لا ابراهيم على ذبح ولده....
و عندما كانت قصة يوسف تحمل معالم امام الدعاة اتت من جانب مفصّل تُدمع العين و ترقّ الفؤاد و لا يفتر السان (واسفاه على يوسف).....
ففي مطلع هذه السورة العظيمة التي تكوّنت من الحروف العربية كانت تلك الحروف المقطّعة (الر)
و من تأمل كتاب الله تعالى ادرك سرّ تلك الحروف حيث تسبق امرا عظيما انه الكتاب المبين انه كلام الله رب العالمين.....
ففي سورة البقرة:
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
و في سورة ال عمران:
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
و في سورة الاعراف:
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
و في سورة يونس:
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
و في سورة هود:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
و في سورة يوسف:
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
و في سورة الرعد:
المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
و في سورة ابراهيم:
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
و في سورة الحجر:
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
و في سورة مريم:
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
و في سورة الشعراء:
طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
و في سورة النمل:
طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
و في سورة القصص:
طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2
و في سورة العنكبوت:
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
و في سورة الروم:
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
و في سورة لقمان:
الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
و في سورةالسجدة:
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
و في سورة يس:
يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)
و في سورة ص:
ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
و في سورة غافر:
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
و في سورة فصلت:
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
و في سورة الشورى:
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
و في سورة الزخرف:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
و في سورة الدخان:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
و في سورة الجاثية:
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
و في سورة الاحقاف:
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
و في سورة ق:
ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
و في سورة القلم:
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
و بعد هذا العرض يتبن لنا ان الحروف المقطّعة تسبق وصف كتاب الله تعالى باستثناء سورة مريم و العكنبوت و الروم اشارة منه سبحانه و تعالى على انها قرانا عربيا فصيحا....
و عندها نُدرك سر هذه الكلمات و ليكتمل الاعجاز الالهي....
فالقرآن تكوّن من هذه الحروف ثم هذا النبيّ الاميّ يقرأ المكتوب و يقطّع حروفه و عادة الاميّ ان لا يحسن التقطيع....و هذا معلوم بداهة ملموس صراحة....
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
فهو كتاب واضح و مبين ظاهر و لذا كان عربيّا ...
إِنَّا...انزله الله على قلب جبريل عليه السلام ثم الى محمد صلى الله عليه و سلم و كان جملة واحدة في سماء الدنيا ثم اتى تترا متفرقا وِفق الاحداث....
أَنْزَلْنَاهُ .....و النزول يكون من العلوّ الى الاسفل حيث الله تعالى و من زعم غير هذا فقد ضلّ سوا السبيل...
فكما نزل القرآن من العلوّ ف(اليه يصعد الكلم الطيّب...) و الصعود يكون من الاسفل الى الاعلى...
و كلتا الكلمتان تلتقيان معا لتشيرا على علوّ جبار السموات و الارض...
انه في السماء, على السماء,حيث لا مكان مخلوق هناك....
و نزغت طائفة من الناس فاوّلت المتشابه و حرّفت المُحْكَم فشبّهت الخالق بالمخلوق فعطّلت صفاته و اسماءه!!!!
فقالت اولاهما انه في كل مكان حتى _معاذ الله_ في جسم الثقلان و الجماد و....
و اردفت اخراهما انه ليس بذي مكان حتى_سبحانك اللهم_ ليس هو داخل العالم و لا خارجه!!!!
فلم يسعهم ما وسع الصحابة الكرام حتى وقعوا في حبال ابالسة الجان فخابوا و خسروا و ندموا بعد حين....
قُرْآَنًا....من القراءة قال تعالى ( فاذا قرأناه فاتّبع قرانه) و سمّي قرانا ليقرأ ثم ليُتبع فلا يُهجر (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) الفرقان
و هجره يكون بالتلاوة و العمل اي بالترك....
و هو للاحياء حيث تنفع النذارة و تشدّ من عزيمتهم البشارة فقال تعالى كما في سورة يس: يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
و قال تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) الانبياء
و الميّت في حكم الصمّ فلا ينفعه انذار الوحيّ فقد افضى الى دار البرزخ,دار الانتظار, دار النعيم و العذاب....
و من سلك غير هذا فقد ابعد النجعة و خالف سبيل المؤمنين فهو_ اي القرآن_ نفع للحيّ بما فيه من اجر تلاوته و لو بتّعتعة فله اجران, و من اجر العمل به حيث هو الطريق لموصل الى رحمة الله تعالى و للدخول الى جنان الخلد....
و بات الكتاب و مع الاسف يُنذر بموت الاخرين فوضعوه موضع الشؤم والدين قائم على الخوف و الطمع فمن خاف من نار الجبار و طمع برضوان الغفار فادخلوا الجنة بما كنتم تعملون....
فقال تعالى:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) الانبياء
فهو حجّتك امام الله تعالى لك او عليك و كم من قارئ له يلعن نفسه صباح مساء!!!!!!
و كم من قارئ له لا يجني غير النصب و التعب!!!
فمن قرأه ليُقال عنه قارئ فهنيئا له سعير جهنم مع اول الوافدين برفقة المنفِق و الشهيد....
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ...فك ن عربيّا بخلاف ما سبقه من الكتب فاراد الله تعالى ان يختم الامة بخير الامم و اوسطها فقال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ال عمران
و ختمها بافضل الانبياء عليه و عليهم الصلاة و السلام و بافضل كتبه و بافضل لغة.....
و غاية من هذا كله اعمال العقل و تسخيره وفق شريعة الرحمن فمن عمل بما في الكتاب فهو العاقل و الا فلا عقل له كقوله تعالى (....ان هم الا كالانعام بل هم اضلّ سبيلا...)