((وحيث إن عمل العبد على حسب شاهده فسوف أكتب هنا شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة مما يُبين ويُوضح معنى ما سبق إن شاء الله:
الشاهد الأول : قال ابن القيم - رحمه الله - : ( فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلّة وفائها وكثرة جفائها وخِسَّة شركائها وسرعة انقضائها ، ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بَدّعَتْ بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمَرَّ الشراب ، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً ، سقتْهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها .
الشاهد الثاني : فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الدار الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقاً ، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها ، بل هي دار القرار ومحطّ الرحال ومنتهى السير ، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قـال النبـي e : ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ ترجع ) .
وقال بعض التابعين : " ما الدنيا في الآخرة إلا أقلّ من ذرة واحدة في جبال الدنيا " .
الشاهد الثالث : ثم يقوم بقلبه شاهد من النـار وتوقدها واضطرامها وبُعْد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها ، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون ، والسلاسل والأغلال في أعناقهم .
فلما انتهوا إليها فُـتِّحت في وجوههم أبوابها ، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفاً } وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً{ (2) فيراهم شاهد الإيمان وهم إليها يُدفعون ، وأتى النداء من قِبَل رب العالمين }وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ{ (3) ثم قيل لهم : } هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُـونَ ۞ أَفَسِحْرٌ هَـذَا أَمْ أَنْتُـمْ لا تُبْصِرُونَ ۞ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْـزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { (4) فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يسحبون ، وفي النار كالحطب يسجَرون } لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ { (1) فبئس اللِّحَـاف وبئس الفِـرَاش ، إنِ استغاثوا من شِـدة العطش } يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ { (2) فإذا شربوا قطّع أمعاءهم في أجوافهم وصهر ما في بطونهم ، شرابهم الحميم وطعامهم الزقوم } كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ۞ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ { (3) .
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولَبِسَ ثياب الخوف والحذر ، وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهانَ عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه .
وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات ، فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة وينضجها ثم يخرجها ، فيجد القلب لذّة العافية وسرورها .
الشاهد الرابع : فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعَدّ الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فضلاً عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور .
فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها تربتها المسك وحصباؤها الدّر وبناؤها لَبِن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور وألّذ من الزنجبيل ، ونساؤها لوْ برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس ، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق ، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور ، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وفرش مرفوعة ، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون وشرابهم عليه خمرة لا فيها غوْل ولا هم عنها ينـزفون وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون ، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ، فهم على الأرائك متكـئون ، وفي تلك الرياض يُحبـرون ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون .
الشاهد الخـامس : فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة ، كما قـال النبي e : ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذْ سطع لهمْ نورٌ فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، قال : وذلك قول الله تعالى : } سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ { (1) ، قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نورُه وبركته عليهم في ديارهم ) (2) ، فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابِّها فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً ) انتهى .
قد يظن القارئ أن هذا منتهى المسير ، والحقيقة أننا إن انتهينا إلى هذا انتهينا إلى غاية جليلة عظيمة ، فهذا المقام بالنسبة لعلمنا وزماننا وأحوالنا مَنْ يناله ؟! ، وإنما لم ينته المسير بَعْد ، وما يأتي وهو الشاهد السادس هو الذي عليه مدار معاني هذا الكتاب لبيان خطأ التعلق الشديد بالحور العين وخشية الانقطاع أو ضعف التعلق بالمعبود الحق سبحانه ، وإن كانت هذه المقامـات لا تليق بنا ولا بزماننا وإنما نرجو رحمة الله وأن يتوب علينا وينجينا من النار ، ونريد هنا بيان إخلاص التوحيد وتجريد المحبة وتصحيح العبودية ، والتوفيق بيد الله ، وَفضْلـُه عظيمٌ يؤتيهِ مَنْ يَشاء ، وقبل أن أنقل هنا الشاهد السادس من شواهد السائر إلى ربه عز وجل أسأل الله أن يغفر لي ولجميع المسلمين ، ولا مانع وإن كنا لسنا بأهل أن يتجاوز كلامنا وصْف جهنم فهو نقل عن السلف والعـلم شيء والحـال شيء آخـر ، فلا يُحمّـل الكاتب مالا يحتـمل ، وكما يقال :
فالخوف أوْلـى بالمـسـي........ءِ إذا تـَـألَّـهَ والـحَـزَنْ
والْحُبُّ يَجْمُـلُ بالـتُّـقـا........ .ءِ وبالـنَّـقَـاءِ مِـنَ الـدّرَنْ
الشاهد السادس : ثم قال ابن القيم - قدس الله روحه - : ( هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ، ويغيب به العبد عنها كلها ، وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزّه وسلطانه وقيوميته وعلوّه فوق عرشه ، وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه .
فإذا شاهده شاهد بقلبه قيّوماً قاهراً فوق عباده مستوياً على عرشه منفرداً بتدبير مملكته ، آمرًا ناهياً مرسلاً رسله ومنـزلاً كتبه ، يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويحب ويكره ، ويرحم إذا اسْـتُرحم ويغفر إذا استُغفر ، ويعطي إذا سُئل ، ويجيب إذا دُعي ويُقيل إذا اسْتقيل ، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء ) .
ثم قال : ( ولوْ قُدِّر جمال الخلق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم بذلك الجمال ، ثم نُسِب إلى جمال الرب تعالى لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس ) .
ثم قال : ( فالسموات السبع في كَفِّه كخردلة في كف العبد ، ولوْ أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفاً واحداً ما أحاطوا بالله عز وجل ، لوْ كشف الحجـاب عن وجهـه لأحرقـت سُبـُحَاتـُه ما انتـهى إليـه بصـره من خلقـه (1).
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تُعدم .
بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد ، وتندرج فيه الشواهد كلها ! .
وَمَنْ هذا شاهده فله سلوك وسيْر خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أوْ معرفة مجملة .
فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه ، لـه شأن وللناس شأن ، هو في واد والناس في واد ..
خَلِيلَيَّ لاَ وَاللـهِ مَا أنا مِنكمَـا ...........إذا عَلَمٌ مِن آلِ لَيْلَى بَدَا لِيـَا
قال الحسن البصري - رحمه الله - : ( لوْ عَلِمَ العابدون أنهم لا يروْن ربهم يوم القيامة لذابتْ أنفسُهم ! ) (3) ؛ وقال : ( إن أحبّاء الله هم الذين ظفروا بطيب الحيـاة ، وذاقوا لـذة نعيمها بما وصلوا إليـه من مناجـاة حبيبهم وما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم ، ولاسيما إذا خطر على بال أحدهم ذكر تكليمه وكشْف ستورِ الحـُجُب عنه في المقام الأمين والسرور الدائم ، وأراهم جلاله وأسمعهم لذيذ كلامه ، وَرَدّ عليهم جواب ما ناجَوْه به أيام حياتهم إذْ قلوبهم به مشغوفة ، وإذْ مودّتهم إليه معطوفة ، وإذْ هم له مؤثرون ، وإليه منقطعون .
فليبشر المصفّون له وُدّهُمْ بالمنظر العجيب بالحبيب ، فواللـهِ ما أراه يحـلّ لعاقـل ولا يجمـل بـه أن يسْتَوْعبـه حب أحد سـوى حب الله عز وجل ) انتهى .
قال أبو تراب النخشبي:
لا تخدعنّ فللمحب دلائلُ ........ولديه من تحفِ الحبيبِ وسائلُ
منها تنعّمُهُ بمُرّ بلائِهِ ...........وسروره في كلِّ ما هو فاعلُ
فالمنعُ منه عطيّة مقبولةٌ .............والفقرُ إكرامٌ وبِرٌّ عاجلُ
ومن الدلائلِ ان يُرى مِن عزمه ...........طَوع الحبيب وإن ألحَّ العاذلُ
ومن الدلائل أن يُرى متبسِّما ...........والقلبُ فيهِ من الحبيب بَلابلُ
ومن الدلائل ان يرى متفهما ............لكلام من يحظى لديه سائل
ومن الدلائل أن يُرى متقشفا..........متحفظا في كلِّ ما هو قائلُ)) اهـ.
نقلامن كتاب شيخ الزهَّاد عبدالكريم بن صالح الحميد
منازل الحور العين في قلوب العارفين برب العالمين
http://saaid.net/book/open.php?cat=81&book=2111
أنصح بقراءة هذا الكتاب