صحيح البخاري
بخط الشيخ البقاعي
((الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه))
والتي وصفها الحافظ ابن حجر بأنها: معدومة النظير.
تصدرها دار النوادر في حلة قل نظيرها, بعد عمل وجهد كبيرين بحمد الله تعالى.
وهذه النسخة (لا تباع) وقف على طلبة العلم والمسندين من مكتبة الشيخ نظام يعقوبي الخاصة.
الحمد لله الذي شرح صدورَ أهلِ الإسلام للسنَّة فانقادت لاتباعها وارتاحت لسماعِها، وأمات نفوسَ أهلِ الطُّغيان بالبِدعة بعد أن تمادت في نِزاعها وتَغَالت في ابتداعها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، العالمُ بانقياد الأفئدة وامتناعها، المطَّلعُ على ضمائر القلوب في حالتي افتراقها واجتماعها.
وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، الذي انخفضت بحقِّه كلمةُ الباطل بعد ارتفاعها، واتصلت بإرساله أنوارُ الهدى، وظهرت حُجَّتُها بعد انقطاعها، صلى الله عليه وسلَّم ما دامت السماءُ والأرضُ هذه في سموِّها وهذه في اتِّساعِها، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوشَ المَرَدةِ وفتحوا حصونَ قِلاعِها، وهجروا في محبة داعيهم إلى اللهِ الأوطارَ والأوطانَ ولم يعاوِدُوها بعد وَدَاعها، وحَفِظوا على أتباعهم أقوالَه وأفعالَه وأحوالَه حتى أَمِنَت بهم السننُ الشريفةُ من ضياعها.
أما بعد:
فإنَّ أَولى ما صُرِفت فيه نفائسُ الأيام، وأعلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام، الاشـتغالُ بالعلومِ الشـرعيةِ المتلقَّاةِ عن خيـر البريَّـة، ولا يرتـابُ عـاقلٌ في
أنَّ مدارَها على كتاب الله المُقْتَفى، وسنَّةِ نبيِّهِ المصطفى، وأن باقي العلوم
إِما آلاتٌ لفهمهـا وهي الضـالَّة المطـلوبةُ، أو أجنبيـةٌ عنهمـا وهي الضـارَّةُ المغلوبةُ.
وقد كان من إكرامِ الله لهذه الأمَّةِ أن هيَّأَ لها علماءَ ربانيين، وجهابذةً نقاداً، وحفاظاً أوتاداً، حَفِظُوا عليها أمرَ دينِها، وبيَّنوا لها صحيحَ الأخبارِ من سقِيمها، ومن هؤلاء الأئمة: أميرُ المؤمنين في الحديث، بل إمامُ الدُّنيا فيه، حجةُ الإسلام أبو عبد الله محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ الذي شَهِدَتْ بحفظه العلماءُ الثقاتُ، ودانتْ لضبطهِ المشايخُ الأثباتُ.
كيف لا، وقد قال عن نفسهِ: أحفظُ مئَة ألفِ حديثٍ صحيحٍ، وأحفظُ مئتي ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ.
وقال عنه الإمامُ أحمدُ: ما أخرجَتْ خراسانُ مثلَ محمدِ بنِ إسماعيلَ.
وقال الترمذيُّ عنه: لم أرَ أحداً بالعراق ولا بخراسانَ أعلمَ من محمدِ ابنِ إسماعيلَ في معنى العللِ والتاريخِ والأسانيدِ.
وقال قتيبةُ بنُ سعيدٍ: لو كان محمدُ بنُ إسماعيلَ في الصحابة، لَكَانَ آيـة.
وقال موسى بنُ هارونَ الحمَّالُ، الحافظُ البغـداديُّ: لو أنَّ أهـلَ الإسلامِ اجتمعوا على أنْ ينصِبوا آخرَ مثلَ محمدِ بنِ إسماعيلَ لما قَدَرُوا عليه.
وقال محمدُ بنُ سلَّامٍ البِيْكَنْدِيُّ للبخاريِّ مرةً: انظرْ في كتبي، فما وجدت فيها من خطأ فاضربْ عليه، فقال له أصحابُه: من هذا الفتى؟ فقال: هذا الذي ليس مثلُه.
وقال عمرُو بن عليٍّ الفَلَّاسُ: حديثٌ لا يعرفه محمدُ بنُ إسماعيلَ ليس بحديث.
فلا عجب بعد ذلك أن يقولَ فيه ابنُ خزيمةَ: ما تحتَ أَدِيمِ السَّماءِ أعلمُ بالحديثِ من محمدِ بنِ إسماعيلَ.
وبالجملة: فقد كان البخاريُّ ـ كما يقولُ أبو أحمدَ الحاكمُ ـ أحدَ الأئمةِ في معرفة الحديثِ وجمعِه.
قال الحافظ ابن حجر: ولو فتحتُ بابَ ثناءِ الأئمةِ عليه ممن تأخرَ عن عصره، لفَنِيَ القِرْطاسُ، ونَفِدَتِ الأنفاسُ، فذاك بحرٌ لا ساحلَ له.
وله التصانيفُ الحسانُ التي اشتُهِرَت في جميع الأقطار، وعمَّ نفعُها لأهل المعرفة في الاستبصار، ومن أعظمِ مصنفاتِه، بل سائرِ المصنفات، كتابُه: ’الجامع الصحيح‘؛ إذ هو أصحُّ الكتبِ المؤلَّفةِ في هذا الشان، قد سارتْ بذكره الركبان، وتلقته العلماءُ بالقَبولِ في كل عصرٍ وأوان، وقد
فاق أمثالَه في جميع الفنون والأقسام، وخُصَّ بمزايا بين دواوينِ الإسلام، وهو حريٌّ بذلك، كيف، وهو أجلُّ الكتب الصحيحة نقلاً ورواية، وفهماً ودرايةً، وأكثرها تعليلاً وتصحيحاً، وضبطاً وتنقيحاً، واحتياطاً وتحريراً، واستنباطاً وتقريراً.
وقد شَهِدَ له بالبراعة والتقدمِ الصناديدُ العظامُ، والأفاضلُ الكرامُ.
قال عنه البخاريُّ رحمه الله: أخرجتُ هذا الكتابَ من نحو ست مئةِ ألفِ حديثٍ، وصنفته في ست عشرةَ سنةً، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله، وما أدخلت في الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصِّحاح لأجل الطُّول.
وقال أيضاً رحمه الله: ما وضعتُ في الصحيحِ حديثاً إلا اغتسلتُ قبلَ ذلك، وصلَّيتُ ركعتين.
ولذا قال عنه النسائي: ما في هذه الكتبِ كلِّها أجودُ من كتاب محمدِ ابنِ إسماعيلَ البخاريِّ.
وقال أبو جعفرٍ العقيليُّ: لما صنَّفَ البخاريُّ كتابَ ’الصحيح‘ عرضه على ابن المدينيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ ويحيى بنِ معين وغيرِهم، فاستحسنوه وشَهِدُوا له بالصحـة إلا أربعـةَ أحـاديث. قـال العقيليُّ: والقولُ فيها قولُ البخاريِّ وهي صحيحة.
قال الإمام الذهبيُّ رحمه الله: وأما جامعُ البخاريِّ الصحيحُ، فهو أجلُّ كتبِ الإسلام، وأفضلُها بعد كتابِ الله تعالى، وهو أعلى في وقتنا هذا إسناداً للناس، ومن ثلاثينَ سنةً يفرحون بعلوِّ سماعه، فكيف اليوم؟ فلو رحلَ الشخص لسماعه من مسيرة ألفِ فرسخٍ، لما ضاعتْ رحلتُه.
قلت: فهذا قاله الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ سنةَ ثلاثَ عشرةَ وسبع مئة، فكيف اليوم؟ فلو رحلَ المرءُ لسماعه إلى صنعاءَ اليمن لَمَا خابَ سعيُه، ولَمَا ذهب مالُه. فللَّه درُّه من تأليفِ، ويا لَهُ من تصنيف، تسجد له جِباهُ التصانيف إذا تُليت أخبارُه وتركع، وتهفو له قلوب المُقْتَفين وتخشع، فالمؤلَّف بحرٌ، والمؤلِّف حَبْرٌ، وللقارئ ربح، فالله يُبوِّئ مؤلِّفَه في الجنان أرفعَ الدَّرجاتِ، ويجزيهِ عن المسلمينَ أعظمَ المَكْرُمَاتِ.
هذا وقد وفق الله تعالى إلى الوقوف على نسخة خطية جدُّ نفيسة لهذا السِّفر الجليل، حقها أن تكتب بذَوب التِّبر لا الحبر؛ لما اشتملت عليه
من المحاسن والفوائد التي أربت على غيرها من نسخ ’الجامع الصحيح‘ التي انتسخها العلماء والأئمة والنساخ الثقات في الأعصار المتأخرة، أعني: ما بعد القرن الخامس الهجري.
ويكفي المرءَ احتفاءً بهذه النسخة الفريدة أن يقف على كلام الحافظ ابن حجر في وصفها بأنها معدومة النظير، وأنها بيعت في مطلع القرن التاسع الهجري بأزيد من عشرين مثقالاً.
وناسخ هذه النسخة هو الشيخ إسماعيل بن علي بن محمد البقاعي الدمشقي الشافعي، المتوفى سنة (806ﻫ) ، وهي نسخة كاملة تقع في (298) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (28) سطراً تقريباً، وفي السطر (26) كلمة على التقريب، ولا يوجد فيها خرم أو سقط بحمد الله. وتقع في مجلدة واحدة تضم ثلاثين جزءاً، وعليها مقابلات بأصلها المنقولة منه، وقد أُثبتت عند كل جزء.
وهي نسخة مضبوطة بالشكل شبه الكامل، قد لُوِّنت عناوين الكتب والأبواب باللون الأحمر.
وقد حُلِّيت هوامشها بصنوف الإيضاحات والاستدراكات والتصويبات وشرح غامض الكلمات، وذكر الرائق من المنظومات فيما يَصْعُبُ حصرُه، ويَقِلُّ عند الكثير ضبطُه، وفي كل ذلك يذكر مرجعه فيه في الغالب؛ ومن ذلك ما ذكره من نظم شيخه ابن الموصلي لـ ’مطالع الأنوار‘، وكذا كان يذكر نظمه في غالب الأحيان، وقد نقل من كلام ابن الأثير في ’النهاية في غريب الحديث‘، ثم من كلام القاضي عياض في ’مشارق الأنوار‘ جملة وافرة في هوامش الكتاب.
وحشَّاه بنقول كثيرة من خط الإمام اليونيني رحمه الله.
ثم إن قيمة النسخة تظهر في اعتماد ناسخها على نسخة أصلية من أوثق نسخ البخاري وأصحها على الإطلاق، ومن هذه النسخ التي ذكرها الناسخ رحمه الله نقلاً عن الأصل:
1 ـ نسخة أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني ثم المصري، والتي وقفها بجامع عمرو بن العاص بمصر.
2 ـ نسخة الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله.
3 ـ نسخة خانقاه السُّمَيْسَاطي.
هذا وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
نظام يعقوبي