بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
البرهان المبين
في حكم السفر إلى بلاد الكفر
وحقيقة إظهار الدين عند المشركين
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا به وتوحيدًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي أرسله الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد... أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما منّ به علينا من نعمة الإسلام، وجعل بلادنا بلاد إسلام، اشكروا الله تعالى على هذه النعمة بالقيام بأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لئلا نُسْلَبَ هذه النعمة والمنة، فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة، فإنكم تعلمون ما تموج به البلاد الخارجية الكافرة من كفر وإلحاد، وانحطاط في الأخلاق والسلوك، فالإلحاد فيها ظاهر، والفساد فيها منتشر.
فالخمور والزنا والإباحية وسائر المحرمات مبذولة بلا رادع ولا وازع، فإذا كانت الحالة كذلك في تلك البلدان بل أكثر من هذا وأشنع فالسفر إليها لغير ضرورة لا يجوز للأدلة من الكتاب والسنة، ولما فيه من الخطورة على الدين ما فيه، وأعز شيء لدى المسلم دينه، فكيف يعرضه لهذا الخطر الشديد.
إن الإنسان لو كان معه مال وسمع أنه قد يعترضه خطر يهدده بضياع هذا المال لرأيته يعمل أعظم الاحتياطات لحفظه، فكيف يعظمُ في عينه المال ويَهونُ عليه الدين، قال بعض السلف: إذا عَرَضَ بلاء فقدِّم مالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك؛ ولذلك شرع الجهاد الذي فيه القتل حفاظًا على الدين؛ لأن الإنسان إذا فَقَدَ الدين فَقَدَ كل شيء، وإذا أعطي الدين فقد أعطي السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
إن السفر إلى بلاد الكفر والكفار الذي عظمت فيه الفتنة وتنوعت لا يجوز إلا في حالات محدودة تصل إلى حد الضرورة، مع التحفظ والحذر والابتعاد عن مواطن الفساد، وتكون إقامة المسلم هناك بقدر الضرورة، مع اعتزازه بدينه، واعتزاله مجتمعات الفساد وجلساء السوء وإظهار دينه.
وإظهار الدين هو التصريح بعداوة أعداء الله تعالى، وإظهار بغضهم والبراءة منهم ومما هم عليه، وأنهم ليسوا على حق بل على باطل، والتصريح بما اشتهر عندهم من الكفر والشرك.
فإن الكفر له أنواع وأقسام، وكل طائفة من طوائف الكفر اشتهر عندها نوع منه، فلا يكون المسلم مظهرًا لدينه حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عندها من الكفر، ويصرح لها بعداوتها والبراءة منها ومن فعلها، فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين عنده التصريح بالتوحيد والنهي عن الشرك، والتحذير منه والبراءة منه ومن أهله وهكذا، فهذا هو إظهار الدين حقيقة لا كما يزعمه من لا يعرف حقيقة إظهار الدين، فيظن أن إظهار الدين هو إظهار الصلاة وغيرها من الأركان الخمسة وأن يكون كارهًا لما هم عليه بقلبه، وهذا ليس هو إظهار الدين على الصحيح عند المحققين من العلماء.
بل الصواب عندهم أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد الصحيح، ومخالفة كل طائفة من طوائف الكفر فيما اشتهر عنها، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون.
وهذه ملة إبراهيم عليه السلام، وهي الدين القويم والصراط المستقيم. ومعناها الحب في الله والبغض في الله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، إذ هي أوثق عرى الإيمان، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك.
أيها المسلم: إنك تعقد دينًا عظيمًا يشتمل على كل معاني الخير وحميد الخصال؛ صحة في الاعتقاد، ونزاهة في العرض، واستقامة في السلوك، وصدقًا في المعاملة، وترفعًا عن الدنايا، وكمالاً في الأخلاق، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
وما عدا الإسلام، فهو انحطاط وهبوط ورجوع بالإنسانية إلى مهاوي الرذيلة ومواطن الهلاك، إن بلاد الكفار فيها من دواعي الفتنة ما يكون سببًا للزيغ والانحراف؛ بل هي الفتنة والضلال؛ لأن أهلها يفقدون أعز شيء، وهو الدين الصحيح الذي به تطمئن القلوب، وتزكوا به النفوس، وتصان به أعراضهم، وتحقن به دماؤهم، وتحفظ به أموالهم؛ عقائدهم باطلة، وأعراضهم ضائعة، وأُسرهم متفككة.
وإنه لمن المحزن، بل من المصائب في الدين أن أصبح السفر إلى بلاد الكفار يفتخر به بعض الناس، وبعضهم يسافر بعائلته للمصيف هناك، أو للسياحة دون اعتبار لحكم الشرع في ذلك السفر، ثم إذا ذهبوا هناك ذابت شخصيتهم الدينية والخلقية مع الكفار فلبسوا لباسهم، واقتدوا بأخلاقهم حتى نساءُ بعضهم يخلعن لباس الستر والشرع ويلبسن لباس الكافرات.
وإذا كان هذا تحول الظاهر فما بالك بتحول الباطن، إن أخلاق الكفار وتقليدهم ذلة ومهانة ونقص، فكيف يستبدل المسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ كيف يتنازل المسلم من عليائه إلى الحضيض؟ كيف يعطي الدنية في دينه والله تعالى يقول: ﴿ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
إن خطر السفر إلى بلاد الكفر والكفار عظيم وضرره جسيم، أما يخاف من يسافر من غير ضرورة أن يعاقب في دينه؟ بل إن سفره هو العقوبة في الدين والمصيبة الكبرى والكارثة العظمى في الدين؛ فالدين رأس مال المسلم، ماذا بعد ذهاب الدين؟
فاتقوا الله أيها المسلمون واشكروه على ما أعطاكم من النعم العظيمة التي أَجَلُّها نعمة الإسلام فَلِمَ تُعَرِّضون هذه النعمة للزوال؟ حافظوا على دينكم الذي هو عصمة أمركم. قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ ﴾ وقال تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾.
اتقوا الله تعالى وأطيعوه واخشوا عقوبته ونقمته، واحذروا من السفر إلى بلاد الكفر والإلحاد، فإن الأمر ليس بسهل؛ لأن المسلم العاقل يعلم أن إيمانه ضعيف، وأنه لم يستطع جهاد نفسه على فعل كثير من الطاعات وترك كثير من المنكرات، لم يستطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من تحت يده ومن حوله من أهل وجيران ونحوهم، فضلاً عن القيام بذلك في أهل مدينته بين المسلمين، فإذا كان ذلك كذلك فكيف يدعي من يسافر إلى بلاد الكفر والكفار القيام به؟ إنه يظهر دينه حقيقة بين أظهر المشركين والكافرين، ثم إن أظهر دينه حقيقة بين المشركين والكافرين في بلادهم لا يأمن على نفسه ولا يسلم، بل إما أن يُقتَل أو يُسجن ويعذب أشد العذاب، كما فعل أهل مكة والطائف برسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه، كما هو معلوم في أخبار الماضين والمتأخرين فيمن يظهر دينه حقيقة في بلاد الكفار.
فإذا كان هذا هو الواقع؛ فمنع السفر إلى بلاد المشركين وتحريمه إلا لضرورة هو الصحيح؛ لعدم القدرة على إظهار الدين حقيقة، وللأدلة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾ أي بسبب الإقامة بين أظهر الكفار وهم قادرون على الهجرة ﴿ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ﴿َالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ أي: عاجزين عن الهجرة لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض ﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ يعني: إلى المدينة فتخرجوا من بين أهل الشرك، ولم تعذرهم الملائكة: ﴿ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ فدلت هذه الآية على أن تارك الهجرة بعدما وجبت عليه -وهو قادر عليها- مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ثم استثنى الله المستضعفين أي العاجزين عن الهجرة بقوله تعالى: ﴿إِلاَّ المُسْتَضْعَفِي نَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً﴾.
قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسيره عند ذكر هذه الآية: «وهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية» انتهى.
فإذا كان هذا الوعيد الشديد في المسلم الذي مسكنه وأهله وأولاده وماله في ديار المشركين، فيقيم عندهم بدون إظهار الدين حقيقة مع قدرته على الهجرة، فكيف بالمسلم الذي في بلاد الإسلام والمسلمين ومن أهل هذه المملكة، ثم يذهب طوعًا لا كرهًا، واختيارًا لا اضطرارًا إلى بلاد الكفار والمشركين، ويقيم بين أظهرهم لأغراض تافهة، أو لمقاصد سيئة، أو لسياحة ونحوها، فهذا أولى بالإثم والوعيد ممن نصت الآية عليه، ولو كانت إقامته يومًا واحدًا.
ومن الأدلة على تحريم السفر إلى بلاد الكفار قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ وكذا قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾.
قال القرطبي –رحمه الله-: «إن هذه الآية دليل على عدم الدخول إلى أرض العدو ودخول الكنائس والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وهم في تلك الحالة التي نهي عن مجالستهم فيها، وقلما تجد الكفار في حالة من حالات الإعراض عن الخوض في آيات الله، وهذا الأمر يستدعي الانتباه عند مجالسة الكفار، ورد باطلهم عليهم عند تعرضهم لأحكام الله وآياته، أو مفارقتهم عند عدم القدرة على الإنكار عليه» انتهى.
وأما الأدلة من السنة على تحريم السفر إلى بلاد الكفار والمشركين وكذا الإقامة.
فمنها ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» إسناده حسن، ومنها ما رواه النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين» إسناده حسن، ولما رواه أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال: لا ذمة له» وإسناده حسن، وما رواه الثلاثة عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين» .
ففي هذه الأحاديث الوعيد الشديد لمن جامع المشركين وساكنهم اختيارًا، وخاصة من لم يستطع إظهار دين الله عندهم، وإعلان البراءة منهم ومن كفرهم.
فليحذر المسلمون من السفر والإقامة بين الوثنيين والمرتدين والنصارى والمجوس من أن يلحقهم هذا الوعيد الشديد؛ لأن هذه الأحاديث تدل على وجوب الهجرة من ديار المشركين إلى ديار المسلمين إلى قيام الساعة، وأن الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وهو مذهب جمهور العلماء.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.