الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
فإن التكفير حكم شرعي يخاطب به كل مسلم كما يخاطب بالأحكام الشرعية ،فما كان منه على صورة الخبر صدقه وآمن به وما كان على صورة الأمر استسلم له وانقاد وعمل بموجبه ...
وهذا موقف المسلم من كل أحكام الشريعة ..
- والحكم بالكفر منالشارع إما أن يناط :" بمعين" كشخص يعينه الله سبحانه أو رسوله صلى الله عليه وسلم بالكفر ...
كقوله سبحانه وتعالى :" تبت يدا أبي لهب وتب .."
وكحكمه سبحانه على اليهود والنصارى وغيرهم في غير ما آية ...
وكحكم النبي صلى الله عليه وسلم في أبيه وأمه وعمه أبي طالب وغيرهم ... فهذا كله حكم على الأعيان أو الطوائف ..
- وإما أن يناط حكم الكفر بوصف يقوم بمعين ...
كقوله سبحانه : "إنه من يشرك بالله .." وقوله :"ومن لم يحكم بما انزل الله ... "وقوله : " لقد كفر الذين قالوا ..." الآيات
- فإذا حكم الشارع بالكفر على شخص بعينه أو أشار إلى كفره كفرعون مثلا ، لزم تكفيره عينا والبراءة منه ومن شركه وكفره ولا مجال للاجتهاد في تأويل هذه النصوص - اللهم إلا الجهل بها - ويكون عدم التكفير في هذا لحالة تكذيبا لهذه النصوص أو ردا لها ...
- وإما إذا أنيط حكم الكفر بوصف ما فيكون محل الاجتهاد من المجتهد فيالتحقق من ثبوت هذا الوصف في ذاك المعين وخلوه من العوارض ثم تنزيل حكم الكفر عليه .. وهو علم ما يسمى بالمناط
وهنا لا يلزم من عدم التكفير كفر من لم يكفر ،لأنه قد يخطأ في الاجتهاد فيتأول النص أو يتأولالمناط أو يجهله ..
وهذا لا يقال فيه كافر أو مسلم ،بل يقال متأول أو مخطئ أو جاهل ...
ولكي نقف على حقيقة قول ( من لم يكفر الكافر فهو كافر ) لا بد أن نرجع بها إلى أصولها في الشرع ونقرر لها بعض القواعد ...
فمما ينبغي أن يقرر في هذا السياق :
أولا : هذه العبارة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) ليست نصا في كتاب الله أو سنة النبي عليه الصلاة والسلام أو إجماع الأمة ...
ثانيا : إذا كانت هذه العبارة على ما سبق فلابد من ردها إلى الكتاب والسنة وفهمها من خلالهما ، لا من خلال استعمال أهل العلم لها ...
ثالثا : التكفير لا يكون إلا بما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع .. وخلا هذه الأمور الثلاثة لا يجوز التكفير بها ، والمكفر في هذه الحالة يكفر بغير موجب وهو بين منهج الخوارج وأهل الغلو أعاذنا الله منهما.
رابعا : إذا تأملنا هذه الجملة (من لم يكفر الكافر فهو كافر ) وتأملنا مقدمة هذا الكلام وجدنا أنها ترجع إلى أمرين :
الأول : تكذيب النصوص التي قضت بتكفير الكفار سواء كانوا معينين من قبل الشارع أو جاء التكفير لأوصافهم ..
الثاني : الرضى بالكفر وتصحيحه وعدم البراءة منه ..
فإذا ثبت هذا فنكون قد رجعنا بهذه العبارة إلى أصلها في الشريعة وكلا الأمرين كفر بإجماع الأمة ..
خامسا : الأعذار الواردة على من لم يكفر الكافر ترجع إلى ذات الأعذار التي تثبت لمن يكذب بالنصوص أو يرضى بالكفر كالخطأ والجهل والتأويل سواء كان للحكم أو المناط..
سادسا : كلام أهل العلم مهما علت رتبتهم في العلم وبلغت منزلتهم في الفضل لا يقاس عليه بمجردة ما لم يرد إلى هذا الأصل ،لأنه ليس شرعا منزلا ولا بيانا محكما .. فكلام شيخ الإسلام في ابن عربي وفي من ادعى الإلهية في علي رضي الله عنه وكذا كلام الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وعلماء الدعوة في طواغيت الخرج وغيرهم إذا تأملته وجدت ما ذكروه يتفاوت ظهورا وخفاءا وأغلبه كفر صريح واضح لا إشكال فيه لا مجال لمتأول ان يتأوله او يتوقف فيه ..
ومع شناعة ما حكى شيخ الإسلام من حال ابن عربي وابن سبعين وغيرهم فقد قال :
" ولكن هؤلاء الْتَبَس أمرهم على من لميعرف حالهم، كما الْتَبَسَ أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبواإلى التشيع، فصار المتبعون مائلين إليهم، غير عالمين بباطن كفرهم..." ا.هـ
ومع ذلك فلا يقاس على كلام أهل العلم في هؤلاء غيرهم بل يكون المنطلق في التكفير في كل حاله هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة ..
سابعا : من لم يكفر الكافر إذا تحقق انه يكذب النص أو يرده أو يصحح الكفر أو يرضى به فهوكافر .. ليس لأنه لم يكفر الكافر أو يشك في كفره ! بل لأنه كذب النص أو رده أو صحح الكفر أو رضي به ..وكل هذا كفر دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة ...
ثامنا : أهل الغلو لما جعلوا تكفير الكافر من أصل الدين وجعلوه بمعنى البراءة من المشركين لم يقبلوا بهذه الأعذار لأن أصل الدين الذي قرروه لا يقبل فيه العذر بالجهل أو بالتأويل أو غيره إلا الإكراه ...
تاسعا : تكفير الكافر ليس هو البراءة منه لا لغة ولا شرعا وليس هو الكفر بالطاغوت وإن ذكر في كلام أهل العلم في بعض المواضع فينبغي رده إلى أصله في الشريعة كما سبق ، والقوم يركزون جهدهم عليه وكأنه هو الأصل الأوحد (أقصد تكفيرالكافر).. ولذا حاروا لما ذكرنا لهم تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية للإسلام وتلميذهابن القيم رحمهما الله ، وليس فيه الكفر بالطاغوت ولا تكفير المشركين ولا غير ذلك .. فزعموا أنيأتكلم في خيال لا واقع له ! ولم يعرفوا أن هذا واقع كل عامي عبد الله وحده ولم يشركبه شيئا ومات على ذلك فهو مؤمن بالله كافر بالطاغوت ..
ولم يردوا على ذلك ولن يردوا ! لأنهمجعلوا أنفسهم بوابة التوحيد والإسلام ..فمن يرد أن يكون موحدا لابد أن يبحث عن أحدهم أولا ليدله طاغوت زمانه الذي لا يكون مؤمنا إلا بتكفيره والكفر به ...
عاشرا : البراءة من المشركين تثبت بعد الحكم عليهم بأنهم مشركون ومن لم يثبت لهم حكم الكفر لخطا أو تأويل أو جهل فلا يقال عنه أنه لم يتبرأ من المشركين أو أنه يكذب النصوص أو أنه يصحح الكفر ويرضى به ..
ومنشأ الخلل اعتبارهم التكفير للمشركين هو نفس البراءة منهم ،والبراءة منهم هي أصل الدين وركن التوحيد ومن لم يحققه لأي سبب كان فهو كافر ولا يعذر بما سبق ..
وكل من يقرر هذا يلزمه التكفير بالتسلسل لا محالة حتى يعود الكفر على كل من على هذه الأرض بما فيهم أهل الغلو أنفسهم...
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم